"مجرم" المدينة

أطباء "حملته"

أثبتوا اختلال عقله

عانى فخري باشا من مُركب نفسي مُضطرب، فالظُّلم الذي أذاقه أهالي المدينة وقسوته يؤكدان بأنه لم يكن ينعم بحالة نفسية سويَّة ولا حدود لبطشه وجبروته، إذ ينطبق عليه قول الله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130 ]، وهي الصفة التي تلازم الظالمين كما في الآية الكريمة. والراصد لتاريخ فخري أو كان قريبًا منه سيصفه بالجنون والاضطراب والاعتلال؛ بناءً على أفعاله وتصرفاته.
نائب القائد العام في حكومة الاتحاد والترقي أنور باشا كان يرى بأنه لا يتمتع بالكفاءة، ويرى بأنه صاحب شخصيَّة عاجزة عن إدارة الموقف في حاميته، ورأي أنور لم يكن رأيًا شخصيًّا أو مبنيًّا على مواقف شخصية، بل قياسًا بما كان يرده من تقارير، وعطفًا على نتائج إدارته وفشلها الذريع، خاصةً أنه زاد من حالة العداء للعثمانيين في الوطن العربي أكثر مما كان قبل ذلك، في الوقت الذي كانت فيه قوتهم تتلاشى شيئًا فشيئًا بين العرب، وأكَّد بأن سياسة الحُكم العثماني التركي مع العرب لم تتغير منذ دخول سليم الأول للشام ومصر، واحتلال الوطن العربي بعد ذلك تدريجيًّا، إذ اتسمت سياستهم بالبطش والظُّلم في تعاملهم مع كثير من الأحداث التاريخية.
أثبت مندوب السلك الدبلوماسي التركي الاضطراب النفسي ونوبات الجنون التي كان يعاني منها فخري؛ حيث وصفه بالجنون، نتيجة عناده والحال الانتحارية التي كان يقود الأبرياء من الأهالي وجند حاميته إليها.

بالوثائق والمكاتبات... لم يكن طبيعيًا

أثبتت الوثائق والمذكرات أن فخري خلال استسلامه لم يكن إنسانًا طبيعيٍّا؛ إذ إن إيماءاته وحركاته ونظراته كانت غير طبيعية بعد الاستسلام، فوضعه العقلي لم يكن متزنًا لخوفه من جراء أفعاله ونتائج ذلك في ردة الفعل العربية التي كانت يتوقعها باستسلامه.
وقبل القبض عليه من ضباط حاميته كانت حالته النفسية سيئة ومعتلة خلال تحصنه في الحرم النبوي؛ بعد أن فقد الثقة بمن حوله، واضطر إلى أن يبقى صاحيًا لأطول مدة ممكنة، لأنه كان يخشى أن ينام فينقلب عليه أفراد حاميته، وهو ما حدث بالفعل بعد أن غلبه نومه، ما يؤكد بأنه رجل لا عقلاني ولا يعترف بالمنطق، وأنه كان يسعى إلى أن يبني له مجدًا في التاريخ بين الأتراك جراء موقفه الذي تمسك به لآخر لحظاته في حاميته، وهذا ما يثبت أمرًا في غاية الأنانية بأن قام بما قام به لموقفٍ مزيَّف، راحت ضحيته الأرواح البريئة، وانتُهكت من أجله الحُرُمات، ووصل أمر المدينة المنورة إلى أسوء أحواله خلال العصر الحديث.
رجال حاميته يئسوا من وضعه وجنونه؛ لذا اضطروا لإرسال مجموعة من الأطباء كي يقوموا بفحص حالته النفسية، ولكي يحتجوا بها أمام العرب خلال مماطلته التسليم، ليؤكدوا عدم قدرته على الرحيل في ظلِّ ظروفه العقليَّة، فحينما دخل عليه الأطباء ابتسم ابتسامةً حزينة تنم عن هبوط روحه المعنوية وتأثر عقله، حيث تساءل عن المريض الذي يبحثون عنه، وهو يعي أنه هو المريض، ثم كتب الأطباء تقريرًا طبيًّا يؤكدون فيه بأن فخري كان يعاني من أعراض نفسية وعصبية حادَّة.
فخري لم يكن طبيعيًّا في تصرفاته وقراراته وتعامله مع الناس، ولا مع معارضيه؛ إذ إنه لم يأبه باقتراف المذابح ضد الأبرياء، ويتمتع بدموية موغلة في التشفي، كما أنه قاد المدينة إلى حال افتراضية غير واقعية، أحدثت الكوارث فيها خلال العصر الحديث والمعاصر.

1) فريدون قاندمير، الدفاع عن المدينة (آخر الأتراك تحت ظلال نبينا صلى الله عليه وسلم)، ترجمة: مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة (المدينة المنورة: د.ن، د.ت). 

2) منى آل ثابتة، “حصار المدينة المنورة وانعكاساته الداخلية وموقف الحامية العثمانية 1334-1337 هـ / 1916-1919م” (رسالة دكتوراه، كلية الآداب والتربية للبنات بأبها، جامعة الملك خالد، 2013).

3) عبدالله بن الحسين، مذكراتي، ط 2 (عمِّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 1998).