بلورة الهوية المشتركة
تاريخيًّا أخذت العقدة الإيرانية الأذربيجانية طابعها الرسمي في 10 فبراير 1829م عندما فرضت عليها روسيا القيصرية التوقيع على معاهدة تركمنشاي بعد هزيمتها العسكرية أمامها، وأجبرتها على التخلي عن مناطق ما وراء القوقاز (جورجيا، أرمينيا، أذربيجان)، إضافة إلى داغستان في شمال القوقاز، حيث رسمت بنود هذه المعاهدة حدود التمدُّد الإيراني حتى سنة 1991م.
فمنذ بداية الصراع الأذربيجاني الأرمني على إقليم ناغورنو قره باغ فضَّلَت طهران نظام مصالحها وتجاوَزت عقدة الجوار والعرق والمذهب، ووقفت إلى جانب أرمينيا في معركة التنافس الجيوسياسي على هذه المنطقة الحيوية، في مرحلة كان نظامها يتمتع باستقرار سياسي واقتصادي مكَّنه من تجاوز معايير داخلية تفرضها التركيبة العرقية لإيران وامتداداتها الجغرافية.
ولكن في الأزمة المندلعة بين أرمينيا وأذربيجان، ومع صعود دور أذربيجان الاقتصادي واستقرار نظامها السياسي، ونجاح تحالفاتها الإقليمية والدولية، أصبحت باكو تهديدًا حقيقيًّا للداخل الإيراني الذي تعاني هويته العقائدية أزمة وجودية بعد تراجع تأثير الخطاب الديني للنظام مقابل صعود الهويات الفرعية، وفي مقدمتها القومية، وخصوصًا الأذرية صاحبة التأثير التاريخي على كل من حكم الهضبة الإيرانية أو بلاد فارس في حدودها السلطانية والمعاصرة.
منذ قرون نجحت الشيعية التركية بنموذجَيها الصفوي والقاجاري في تأسيس دولة دمجت بين العقيدة والجغرافيا، حيث نجحت هذه الثنائية في توحيد الشعوب الإيرانية، ورسَّخَت هذه القبائل التركية المقاتلة موقعها بوصفها الحامي للعقيدة والجغرافيا، ووحدة التراب الإيراني، وقد تراجع موقعها بعد قيام نظام بهلوي الذي لجأ إلى تكريس الهوية الإيرانية، حيث خاض الأذريون الإيرانيون معركة للحفاظ على نفوذهم داخل مؤسسات الدولة وفي الحوزة والبازار.
وفي الثورة الإسلامية –المزعوم أنها إسلامية- كان للأذْرَبِيِّين المفصل الحقيقي في إسقاط نظام الشاه، بسبب حجم تأثيرهم داخل المجتمع والدولة في إيران، ولذلك يتعامل معهم نظام ولاية الفقيه بحساسية عالية تختلف عن باقي القوميات والعرقيات، حتى يضمن حيادهم خلال الأزمات الداخلية، وهذا ما لم تستطع طهران ضبطه في هذه الأزمة بعدما خرجت تظاهرات كبيرة في ثلاث محافظات أذرية في إيران، ورفعت شعارات دعم لأذربيجان، ودعت إلى الانفصال عن إيران.
منذ التأسيس الجيوسياسي لإيران على يد العائلة الصفوية تركية العرق، حتى قيام النظام على يد آية الله الخميني، لم تُعانِ إيران من أزمة هوية كما تعانيه الآن، بعدما أدَّت السياسات التي يتبعها المرشد الحالي علي خامنئي إلى بروز الهوية القومية كرِدَّة فِعل على عسكرة النظام الذي قام بعسكرة الهوية العقائدية، من أجل الحفاظ على استمراره بعدما فشل في تجديد نُخَبه السياسية والدينية والثقافية.
وفي هذا الصدد يقول الباحث في الشأن الإيراني علي المدن: “إن آية الله الخميني يعرف حجمهم الديني في الحوزة؛ لذا كان الخطاب الديني هو الطريق الملكي لإعادة دمجهم مع الدولة، ولكن الآن يتراجع هذا الدور بسبب نجاح تجربة تركية في التحديث والاقتصاد… هم يرون أن بوسعهم البقاء على شيعيتهم كما أذربيجان، وربما مع تركيا الإسلامية، ومع ذلك يحصلون على الحداثة والاقتصاد القوي، لذلك باتوا أكثر تبنِّيًا للنموذج التركي”.
منذ قرون نجحت الشيعية التركية بنموذجَيها الصفوي والقاجاري في تأسيس دولة دمجت بين العقيدة والجغرافيا، حيث نجحت هذه الثنائية في توحيد الشعوب الإيرانية
عمليًّا صعود الهوية الأذرية سيترك أثره على الداخل الإيراني في إعادة تكوين الشيعية التركية، ما سيدفع النظام الإيراني إلى إعادة حساباته، كون الأذر يُشكِّلون ثاني أكبر قومية في إيران، ويبلغ تعدادهم قرابة 28 ميلون نسمة، وهم يتشاركون قوميًّا ومذهبيًّا مع أذربيجان وتركيا، المنافس الأقوى تاريخيًّا لإيران، التي ستستفيد حتمًا من هذه المشتركات من باكو، مرورًا بتبريز حتى كركوك، فإعادة بلورة الهوية الشيعية التركية المتجانسة قوميًّا مع الهوية السُّنية التركية سيشكِّلان معضلة مستقبلية لطهران داخلية وخارجية.
في الداخل مخاطر تفكُّك النظام الإيراني قائمة، نتيجة سوء العلاقة ما بين المركز والأطراف، أما خارجيًّا فتبدو المنافسة تشتد بين إيران وأذربيجان، ومن خلفها تركيا، بعدما نجحت باكو في تكوين هوية شيعية وطنية قومية مستقلة متواصلة مع الداخل الإيراني، نجحت في الفصل ما بين المصلحة القومية والعاطفة القومية، فهي مُغرِية لأتراك إيران من النافذة المذهبية، وتُشكِّل عصبًا قوميًّا لجهة التحالف مع أنقرة.
إن صعود الهوية الشيعية التركية كدولة فاعلة في منطقة حساسة، وإعادة أذَر إيران الاعتبار لهويتهم الفرعية سيفتح تساؤلات مباشرة عند الشيعة لمراجعة هويتهم وانتماءاتهم، والاختيار بين الشيعية التي تصادرها طهران بطريقتها الخاصة، والقومية التي تخاصمها وتتبنَّاها تركيا، وذلك مصدر إرباك لطهران في تعاملها مع مجتمعات شيعية خارج حدودها.
خطاب ولغة إثبات تلك الهوية يستحق التوقف لدراسات عميقة للوصول إلى حقائق أكثر.