رحلات التهجير "سفربرلك"

صرخات المعذبين

أثقلت عربات "الثعبان" التركي

حين أُحكِم الحصار على فخري باشا في المدينة النبوية؛ عمل على سياسة داخلية قاسية جدًّا تجاه الأهالي، إذ لم يراعِ فيها حال الناس ولم يرحمهم، بل سعى بكل قسوة إلى إذاقتهم أصناف العذاب والتشريد والجوع، فما صوَّرته المصادر التاريخية المعاصرة؛ لا يمكن أن يتخيله عقل بأن يصدر من مُستعمر غير مُسلم، فكيف إن كان مُسلمًا.
هنالك من يهوِّن من المآسي والويلات التي تسبب بها فخري باشا، بحجة أنه كان يدافع عن مدينة رسول الله ﷺ، بينما لا يتصوَّر المنطق والعقل هذا التبرير مهما كانت الحُجَجُ التي تُساق فيه؛ لأنَّ ثمة أناس ماتوا وقتلوا، وأُسر تشرَّدت، وأطفال يُتِّموا، وانتهكت الحُرمات بالقرب من قبر نبينا محمد ﷺ، كل هذا بسبب السياسة الداخلية التي اتبَّعها فخري وأفراد حاميته.
وعلى الرغم من أن التهجير لم يكن أولى سياسات فخري القاسية في المدينة المنورة، لكنه كان الأكثر أثرًا، فخلال الفترة التي أُحكِم فيها الحصار على المدينة المنورة؛ أصبح الأمن الغذائي مهددًا لدى الحامية والأهالي، ومن ثمَّ أثر ذلك على القيمة السوقية للسلع فحدث الغلاء، ومنه نتجت الأمراض بين الناس.

بعد 13 قرنًا طبقوا الأحكام "العُرفية" في أرض النبوِّة

حدثت عملية التَّهجير القَسري على مراحل وفترات، كان أولها في شهر ديسمبر (1916م)، حين أمر بإلصاق إعلانات في شوارع المدينة المنورة معلنًا أن المدينة أصبحت خاضعة للإدارة العُرفيَّة، وأنَّ كُل من يُخالف سياسة الدولة العثمانية بأيِّ شكلٍ من الأشكال سيتعرض للعقوبة، وبناءً على ذلك كلَّف من قبله الجواسيس الذين يمشون بالوشاية بين الناس تتبعًا لكل من يؤيد الثورة العربية أو يتعاطف معها، وأخذ الناس بالظنِّ والشَّك، فسجن من علماء المدينة المنورة ووجهائها ما يقارب (170)، ثم أمر بنفيهم إلى الشام ليمثلوا أمام جمال باشا، وبطبيعة الحال كان هدف فخري أن يفعل بهم جمال ما فعله في الثوار العرب الذين أعدمهم قبل ذلك في الساحات الشامية، غير أن الحكومة العثمانية ارتأت الاكتفاء بنفيهم وتوزيعهم في تركيا وشرق أوروبا بعيدًا عن الشام.
لم يهتم العثمانيون بالحال التي ستجري على المنفيين من أهالي المدينة، الذين أشبه ما يكونون بسجناء في بلاد لا يعرفونها ولا يعرفون لغتها، ولم يكن لهم دخل يتوازى مع ما يعايشونه من غربة قسريَّة وحال ضيقة، مما كانت تخصصه الدولة العثمانية للمنفيين من مرتبات ضيئلة جدًا لا تتوازى مع حال التَّشَرُّد التي هم فيها.
بعد شهرين فقط في 24 يناير (1917م) بدأ فخري بتهجير أهالي المدينة من ديارهم رُغمًا عنهم، ليؤمن غذاء الجُند، من دون نظر إلى مصيرهم المجهول الذي ينتظرهم، والويلات التي ستلحق بهم من هذا القرار المتعسِّف، فأرسل مناديًا في المدينة ينادي ثلاثة أيام بترغيب الأهالي بالسفرِ لاشتداد الحرب، ويحذرهم من الجوعِ، فتم ترحيل أغلب أهالي المدينة قسرًا وقهرًا.
يصف عبدالحق النقشبندي التهجير الثاني: “ولما قلَّ ورود المؤن إلى المدينة استصدر فخري باشا أمرًا بإجلاء المدينة إلى الشام وأطرافها فصدرت الأوامر إلى أهالي المدينة بالسفر جماعات جماعات لدى قيام كل قطار إلى الشام أفواجًا أفواجًا”.
أراد فخري إخلاء المدينة المنورة من أهلها، لتبقى مدينة لا يعيش فيها سوى جند حاميته وحدهم، ليُقاوم الحصار بما لديه من مؤن وأغذية، وهنا لم يفكر بالمصير المجهول الذي يقود إليه مدينة الرسول ﷺ، إذ إنه أغفل متعمدًا أن السُّكان مسلمين يجب مراعاة أرواحهم وأعراضهم وأوضاعهم الاجتماعية، وأغفل أنه في حدود الحرم النبوي الشريف، ولم يحسب لما يمكن حدوثه من أضرار في المدينة، بل كان همه الأول كيف يكافح الثورة العربية، ويثبت عسكريته في المقام الأول.

عبدالحق النقشبندي

عبد الحق بن عبد السلام النقشبندي، ولد بالمدينة المنورة سنة (1322هـ/1904م)، ويُعدُّ أحد أهم رجالات الأدب في العصر الحديث في المدينة المنورة، وقد عاصر الفترة التي ولِّي فيها فخري باشا المدينة المنورة، إذ كان عمره حينها بين 12 و 16 سنة، فكان يعي تفاصيلَ دقيقة عما حدث في المدينة من مآسي وأحداث.
لم يستجب جميع سُكَّانِ المدينة لنداءاته بالإخلاء، فراح يُطلق يد جُند حاميته في الشوارع بأمرهم أن يقبضوا على كل من يواجهونه من الأهالي تعسفًا، وألا يراعون في ذلك إن كان المقبوض عليه امرأة أو طفل أو عاجز أو رب أسرة، والمآسي التي رويت من أهالي المدينة حيال ذلك متعددة وكثيرة وموجهة، لا يمكن أن يغفرها التاريخ لفخري، الذي تشبَّع بكُرهه للعرب، إذ لم يكن يصفهم كما مرَّ معنا سوى بالخونة، ولم يكن لديه مراعاة حتى للضُّبَّاط العرب الذين كانوا ضمن أفراد حاميته.
ونتيجةً للتَّعسُّف المُمارس ضد أهالي المدينة؛ حمل الكثيرون منهم ذكريات مأساوية؛ إذ إنه لم يُمهل أحدًا ممن تم القبض عليهم في الشوارع من ترتيب أوضاعهم أو إبلاغ ذويهم، حتى أن رجلاً خرج ليُحضر لزوجته التي تلد طعامًا لترضع صغيرها وحين خرج قُبض عليه وأرسل بالقطار، وعندما خرجت زوجته في أثره بحثًا عن الطعام لابنها أُخذت هي الأخرى، وما أن وصلت الشام حتى توفيت، بينما وُجد رضيعها بعد أيام ميتًا في البيت من الجوع والبكاء مع إخوته الصغار. تم نقل المدينيين ولم تُرحم ذاكرتهم وعواطفهم، فالذين عاصروا تلك الكارثة الإنسانية يتحدثون عن وضعهم في القطارات ونقلهم وبكاءاتهم وتوسلاتهم، حيث مات منهم الكثير، وفُقد منهم أكثر، وشُرِّدت الأسر وبُعثرت.
ويصف التركي قاندمير الحال الذي كان عليه الأهالي في محطة سكة الحديد استعدادًا للرحيل يوم 14 مارس (1917م) بأنه ينضح بالألم، حيث كان الجنود يحشرون الناس في عربات القطار حشرًا، ويضربون الخيول بالسياط، بينما كان منظر البُكاء الجماعي ماثلاً بين الرجال والنساء والأطفال، وتعابير الوداع، وعلى الرغم من أنه كان واحدًا من أتباع الحامية لم يستطع تحمل الموقف، حين صوَّره بأنه موجِعٌ للقلب.

شردوا "المدينيين" من بصرى إلى بلغاريا

أصبح أكثر أهالي المدينة لاجئين في الشام وتركيا وشرق أوروبا والبلدان الحجازية الأخرى، ولم يبقَ منهم في المدينة سوى أعداد قليلة جدًا من أهلها. ولم يكتف فخري بالإجلاء فقط، إذ مارس جنوده نهب وسلب بيوت أهل المدينة المنورة، ممن غادروها جبرًا ولم يتمكنوا من ترتيب أوضاعهم وأملاكهم، وفي هذه الحالة أصبحت المدينة مستباحةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولم تُرعَ فيها حرمات الناس من قبل جيش فخري.

(1) منى آل ثابتة، “حصار المدينة المنورة وانعكاساته الداخلية وموقف الحامية العثمانية 1334-1337هـ/1916-1919م” (رسالة دكتوراه، كلية الآداب والتربية للبنات بأبها، جامعة الملك خالد، 2013).

(2) علي حمزة، سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستثنائية: دراسة مقارنة (القاهرة: المركز العربي للدراسات والبحوث العلمية، 2017).

(3) علي حافظ، فصول من تاريخ المدينة المنورة، ط3 (د.م: د.ن، 1996).

(4) عبدالسلام حافظ، المدينة المنورة في التاريخ، ط3 (المدينة المنورة: النادي الأدبي الثقافي بالمدينة المنورة، 1982).