رغم الدعاية المتطرفة

لم يستطع العثمانيون حماية المنطقة العربية والعالم الإسلامي كما يدَّعون

اجتهد الكثيرون في تصوير الدولة العثمانية على أنها حاضنة جامعة للمناطق والدول الإسلامية، وأنها ساهمت في منع تسرُّب حملات التنصير والتبشير إلى المناطق الإسلامية، وأنها كانت تمثل خلافة إسلامية مكتملة الأركان، رغم بعض السلبيات التي يمكن اعتبارها بمثابة النقطة السوداء في جسد الثور الأبيض.

حاولت الأقلام المتأسلِمة طمس حقيقة مسؤولية الدولة العثمانية في إيجاد موطئ قدم للغرب في المناطق العربية من خلال تسهيل تغلغل الحملات التبشيرية، خاصة في الشام وجبل لبنان وفلسطين والعراق، بل وأصبحت الكنائس النصرانية جزءًا من الجهاز الحكومي العثماني.

بعض الأقلام المحسوبة على تيار الإسلام السياسي تستميت في الدفاع عن الدولة العثمانية، رافعةً إياها إلى مراتب الخلافة الإسلامية التي نجحت في مهامها “الماوردية” في حماية الدين وسياسة الدنيا، ولم يقف هؤلاء عند هذا الحد، بل انبرَوا للهجوم على كل مَن طعن في هذه الخلافة المزعومة، متهمين كثيرًا من المؤرخين بأنهم “التقوا على تشويه وتزوير تاريخ الخلافة الإسلامية العثمانية”، حيث “اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق، والكذب والبهتان والتشكيك والدَّسِّ، ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد الأعمى، والدوافع المنحرفة، بعيدة كل البعد عن الموضوعية”.

استماتَ البعض في الدفاع عن الدولة العثمانية بمرجعية براغماتية وليس بمرجعية دينية.

غير أن القراءة التاريخية تُحيل على وجود إجماع عند المؤرخين بأن الدولة العثمانية لم تتعامل بمنطق الخلافة الإسلامية، لا مع الشعوب المسيحية ولا مع الشعوب العربية والإسلامية.

في هذا السياق ساهمت السياسات العثمانية المتعاقبة في دخول المستعمر المسيحي إلى العمق العثماني بطريقة غير مباشرة، ثم بطريقة مباشرة أدَّت إلى تقسيم أجزاء مهمة من الوطن العربي والإسلامي، واستباحة الجزء الآخر لعقود من الزمن، من خلال نظام الامتيازات الذي شكل الأرضية السلبية للضرب في مظاهر السيادة السياسية للدولة العثمانية.

لقد شكَّل نظام الامتيازات “تنازلًا خطيرًا على سيادة الدولة، وتمييزًا سلبيًّا بين المواطنين والمقيمين، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن “تلك الامتيازات التي ارتبطت بسليمان القانوني” “كانت فاتحة شر على العثمانيين وعلى الشعوب العربية الخاضعة لاحتلالهم”.

ونعتقد أن أهم شهادة على تقصير الدولة العثمانية في حماية الدول العربية هي شهادة آخر سلاطين الدولة العثمانية نفسه، ألا وهو السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يحكي في مذكراته كيف ترك تونس ومصر لمصيرهما مقابل الاحتفاظ بنفوذ الدولة العثمانية في مناطق أخرى، فيقول: “حمَّلني سعيد باشا في مذكراته مسؤولية التقصير في مشكلتَي تونس ومصر، بينما كان هو في ذلك الحين يبعثر الأيام والشهور في (ليت ولعل)، وإني أفخر بما أسنده إليَّ على شكل تقصير، لم أكن أتصور اتخاذ الحرب وسيلة لكل مسألة من المسألتين، فأنا دائمًا ضد الحرب، ولو كنت اندفعت للمقاومة في تونس فربما تسبَّبتُ في ضياع سوريا.. ولو وقفت بعناد في مصر لكنت بالتأكيد فقدت فلسطين والعراق”.

هذه الشهادة تقطع بأن العثمانيين لم يتعاملوا مع المناطق العربية بمنطق الأجزاء “المشكِّلة” للدولة، وإنما بمنطق الأجزاء “المكملة” للإمبراطورية، لذلك كانت دائمًا مستعدة للتخلي عنها مع أول مناسبة، في مقابل توافُقات تعقدها مع الدول الغربية.

هذا المعطى يؤكد إشكالية “سطحية الحكم”، حيث فشلت (أو لم تركز الدولة العثمانية) في إدماج الشعوب ضمن بنية الدولة، وهو التعاقد السياسي الذي أصبح إحدى تمظهرات الاندماج ضمن إطار سياسي جديد (الدولة)، وهذا ما نص عليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1541 بتاريخ 15 دجنبر 1960.

وهنا نسجل كلامًا مهمًّا لأحد المؤرخين الذين تناولوا تاريخ آل عثمان، حين ربط سقوط الدولة العثمانية بإهمال “توثيق الروابط بينها وبين الولايات المفتوحة، ما حال بين الحكم العثماني وتغلغله في حياة الشعوب التي تألفت منها الدولة من ناحية، وجعل هذه الشعوب لا تشعر بحاجتها إلى الاتصال اليومي المباشر بالسلطة للتعامل معها من ناحية أخرى”.

إجمالًا يمكن القو، بأن الدولة العثمانية خططت لإخضاع بعض المناطق العربية من أجل شرعنة مشروعها التوسعي كما حدث باحتلالها للحرمين الشريفين، وحكمت مناطق أخرى لأغراض التوسع، وكذا الاستفادة من خيرات المنطقة (اليمن والسواحل العربية)، ولو تعمل يومًا على تحسيس شعوب هذه (المستعمرات) بأنهم جزء من الدولة، ولذلك ارتفعت المطالب الاستقلالية لهذه الشعوب مع بروز أولى مؤشرات سقوط إمبراطورية “الرجل المريض”.

  1. أحمد عبد الرحيم، في أصول التاريخ العثماني، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1986).

 

  1. سعد الحميدي، الصراع بين القوميتين العربية والتركي وأثره في انهيار الدولة العثمانية (الدوحة: د.ن، 2011).

 

  1. السيِّد رجب، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1970).