رغم ادِّعائها أنها سُنيَّة.. الدولة العثمانية
تأثرت بخليط من الثقافات والعقائد التي أقحمتها في إسلامهم
ذكر المستشرق “كارل بروكلمان” أن الأتراك في القرن السادس للميلاد كانت لهم دولتان امتدَّتَا من منغوليا وتخوم الصين حتى البحر الأسود، فأما مؤسس الدولة الشرقية فهو “بومين” المتوفَّى منتصف القرن السادس الميلادي، وأما أخوه الآخر فقد بسط نفوذه على الأصقاع الغربية، فيما قضت أسرة “تانغ” الحاكمة للصين على الدولة الشرقية، وتفرَّقت جموعهم في الآفاق.
وكما هو معروف أنّ الأتراك قبائل بدويّة عاشوا حياة الترحال، وكانوا يتنقَّلون من مكان إلى آخر، وهم بذلك تأثروا بكثير من معتقدات الشعوب التي كانت حولهم، فانتشروا وعاشوا في مناطق واسعة، فعلى سبيل المثال تأثرت القبائل التركيّة التي على حدود الدولة البيزنطيّة بالديانة المسيحيّة، بينما القبائل التركيّة القريبة من حدود الصين تأثرت بالديانة البوذيّة والمانوية، فيقول “بروكلمان” عن ذلك: أما حياتهم الدينية فكان يهيمن عليها “الشامان” الكاهن الذي كان يدَّعي غيبوبةً مصطنعة، مدعيًا طرد الأرواح الشريرة المقيمة تحت الأرض، وأنه يستنزل البركة من رُوحَي الأرض والماء الخيرتَين، وأرواح الأسلاف الطائفة في الجنة، ولم يكن أحد ليجرؤ على أن يتصل بهذا العالم الذي يدَّعيه من غير طريق الشامان بالذات العليا، السماء، وهي الآهلة بالكائنات الصالحة.
كما تأثَّرت القبائل التركيّة بالمانوية، حيث كانت على الحدود الإيرانيّة، فكانت تربطهم علاقات بسبب التبادل والتعامل التجاري بين هذه القبائل مع جيرانهم، وقُبَيل القرن السابع الميلادي وصلت المانوية إلى الشرق الأقصى صوب تركستان الشرقية من خلال طرق القوافل من كشغر حتى كوتشا، وعلى ما يبدو لم يحدث أن تبنَّى الأتراك عقيدة دينية معينة ترعاها الدولة، وتعمل على نشرها أو تتبنَّى حمايتها، إلا في عهد الإيغور عندما اعتنق بوكو قاغان المانوية ديانة للفرس، واتخذ من الدين ذريعة للتدخل في شؤون الصين الداخلية، وأجبر الإمبراطور الصيني على إقامة المعابد المانوية، واستقبال الرهبان المانويين في مختلف المدن الصينية بما فيها العاصمة، إلا أن هذه الأحداث لا تشكِّل اتجاهًا عامًّا في التاريخ التركي، فالعقيدة الشامانية موجَّهة للسياسة الداخلية من خلال إضفاء صبغة إلهية على الأباطرة، وأفراد أُسَرهم من أمراء ونبلاء وقادة عسكريين من أجل ضمان السلطة المُطلَقة لهم، ولم يبرِّروا الحرب والتوسع بأي خلفية دينية، فكان هدفهم هو الحصول على الغذاء والكساء وسبل أفضل للعيش، وهذا في نظرهم أمر عادل ومشروع.
وأما الطابع العام للأتراك، فهو الاستفادة من عقائد الأمم التي دخلت تحت حُكمهم، وإفساح المجال أمامهم لإدارة شؤونهم الداخلية في ظل دولتهم الكبرى، ولعل هذا الأمر إلى جانب تعدُّد القبائل التركية، وتعدُّد الأمم أدَّى إلى التلاقي الثقافي معها، وبالتالي فإن ما أسماه المؤرخون بالدولة التركية الكبرى (220 ق.م – 940م) التي تعاقب العديد من القبائل التركية على حُكمها لم تكن دولة ذات طابع ديني، وقد تم التلاقح الثقافي بينها والإمبراطورية الصينية والفارسية، والإمبراطوريتين البيزنطيتين الشرقية والغربية، وأخيرًا مع الدولة الإسلامية رغم وجود العلاقات ذات الطابع العدواني بينها.
الطابع العام للأتراك تأثُّرهم بغيرهم ثقافيًّا ودينيًّا، وتضارُبهم في الأفكار والمعتقدات بما يخدُم مصالحهم العسكرية والسياسية.
وحين تشكَّلَت دولة الأتراك لاحقًا ودخلوا الإسلام لم ينعتقوا من أثر العقائد التي تلاقحوا معها، لذا تجد أثرًا شامانيًّا مانويًّا فارسيًّا وصينيًّا، وحاولوا صبغ بعض معتقداتهم المختلطة بالإسلام، وهذا ما نلحظه من تمسُّكهم إلى اليوم ببعض العادات القديمة ذات المنشأ العقائدي القديم، والوثني والديانات العديدة، لذلك على الرغم من أن الدولة العثمانية تعتبر نفسها دولةً سُنية؛ إلا إنها متأثرة بمجموعة من العقائد، ومنها الفكر الفارسي الشعوبي وما خلفه عن طريق التصوف والباطنية.
- كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس وآخر، ط16 (بيروت: دار العلم للملايين، 2006).
- فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي وآخر، (بكين: التكوين، 2016).
- هدى درويش، “المنهج الصوفي للطريقة البكتاشية وتأثيره على السلطة الحاكمة في تركيا”، بحث مقدَّم إلى مجلة كلية الآداب، جامعة الزقازيق، نوفمبر (2001).