رغم محاولات العثمانيين فرض معاهدة لصالحهم

الملك عبد العزيز طبق "ديبلوماسية المحاور" خلال الحرب العالمية الأولى

شكلت بدايات القرن العشرين تحولات مهمة في موازين القوى الإقليمية والدولية وأعادت من جديد، منطق الاصطفافات حسب المصالح تارة، وحسب الولاءات الأيديولوجية تارة أخرى. ولم تكن الجزيرة العربية لتنأى بنفسها عن التأثر بالواقع الدولي الجديد خاصة أن بعض أطراف الحرب الكونية كانوا على خط التماس، ومن ثم كان خطر التدافع العنيف يخيم على مسرح عمليات الجزيرة العربية.

في هذا السياق، تزامنت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مع مواجهة الملك عبدالعزيز لتحديات أساسية يمكن إجمالها في: مواجهته لإكراه النضال ضد التبعية التركية ثم إخماد الفتن الداخلية قبل التفرغ لمرحلة التوحيد والاستقرار، وهي التحديات التي استطاع الملك المؤسس أن يتجاوزها باقتدار كبير وبحكمة ودهاء شديدين.

ولعل الحرب العالمية الأولى، وإن كان من ارتداداتها المباشرة سقوط إمبراطورية الرجل المريض، إلا أن الملك عبدالعزيز استغل الظرفية الجديدة لتكون عاملًا مسرعًا في توطيد وتوحيد دعائم الدولة، مستغلًا في ذلك ما أطلق عليه فيما بعد في أدبيات العلاقات الدولية بــــــ “دبلوماسية المحاور”، وهي الاستراتيجية التي سينجح من خلالها في انتزاع اعتراف صريح من بريطانيا بدولته باعتبارها دولة مستقلة غير تابعة لأي قوى أخرى، وهو الاعتراف الذي تضمنته -فيما بعد- معاهدة العقير سنة (1915)، إذ أفاد متن هذه الاتفاقية بأن هناك مجموعة من المكاسب السياسية التي تَحَصَّل عليها الملك عبدالعزيز.

أثارت العلاقات السعودية البريطانية حفيظة الأتراك الذين ظلوا يتوجسون من أي تقارب بين الملك عبدالعزيز وبريطانيا، وعلى ضوء هذا الإكراه الجيوستراتيجي سارعوا بإرسال وفد برئاسة طالب النقيب لتقديم الوعود التي يعي المؤسس أنهم لا يصدقون فيها أبدًا، والتي تضمنت اعترافهم بسلطة الملك عبدالعزيز على المناطق التي تقع تحت السيادة الفعلية لدولته مقابل إعلانه التبعية لهم، غير أن قيام الحرب العالمية الأولى عجل عليها قبل انتهاء المفاوضات.

ويجدر بنا لفت الانتباه إلى أن دراسة البنية السلوكية للملك عبدالعزيز والعقلية السعودية الحُرَّة تقطع باستحالة قبوله الشروط التي تضمنها “مقترح الاتفاقية” مع العثمانيين، وهو ما دفع بالمؤرخين إلى اعتبار الوثيقة مشروع اتفاق مجرد أعدَّه سليمان باشا وأرسله إلى الملك عبدالعزيز لكي يوقعه ويعيده إليهم، ولكن المؤسس استبقاه لديه، ولم يوقعه.

اندلاع الحرب العالمية الأولى جعل العثمانيين في حاجة ماسة إلى الملك عبدالعزيز. ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج هو عدم موافقته الاصطفاف إلى جانبهم في الحرب العالمية وفضل مقابل ذلك استراتيجية الحياد الإيجابي واللعب على التناقضات واستثمارها لصالح الدولة الجديدة.

في هذا الصدد، تلقى الملك عبدالعزيز رسالةً من أنور باشا يطالبه من خلالها بإرسال قواته إلى سوريا لمساعدة الحكومة التركية العثمانية ضد بريطانيا، ولكن المؤسس أجاب بأسفه لعدم قدرته على القيام بهذا العمل بسبب الظروف المحلية. ويبدو أن بريطانيا وجدت نفسها في موقف جيوستراتيجي سيء خاصة عندما أبدى الشريف حسين نفس الموقف بل قام بإعلان الثورة عليها وهو ما جعل الملك عبد العزيز في موقف تفاوضي قوي مع جميع الأطراف.

الشق الذاتي المرتبط بالبنية السلوكية للملك عبدالعزيز كان حاسمًا في التمكين لدولته الفتية العريقة الممتدة جذورها التاريخية منذ العام (1744). لذا قضت حكمة الملك عبدالعزيز بتفادي الاصطفافات الحربية، ليعمل على مواصلة مرحلة البناء والتوحيد وبذلك تجنب حروبًا ومآسٍ. فأنهت حكمة القائد المؤسس ما يزيد على قرن من التدافع العنيف بين العرب والأتراك، وهو ما تم باعتراف تركيا “أتاتورك” بالمملكة العربية السعودية سنة (1929).

تفادى المؤسس الاصطفافات الحربية خلال الحرب العالمية الأولى ليواصل مرحلة البناء والتوحيد.

  1. تركية الجارالله، موقف الملك عبد العزيز من الحرب العالمية الأولى (رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، 2004).

 

  1. حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين (د.م: لجنة التأليف والترجمة، 1935).

 

  1. خير الدين الزركلي، شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، ط3 (بيروت: دار العلم للملايين، 1985).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1990).

 

  1. عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1995).