رغم تزييفهم بالتبرؤ من جرائمه

محمد علي كان ذراعًا عثمانية في الجزيرة العربية واليونان

يُجمِع جُل المؤرخين على أن الدولة العثمانية قد وصلت إلى مرحلة خطيرة من التدهور والانحدار في القرن التاسع عشر، حتى وُصِفَت في الأدبيات السياسية الأوروبية بأنها “رجل أوروبا المريض”. ويصف المؤرخ الإنجليزي هنري دودويل الحالة التي وصلت إليها الدولة العثمانية آنذاك قائلًا: “لقد كانت الحالة الداخلية في الإمبراطورية العثمانية كثيرة الشبه وقتئذٍ -في القرن التاسع عشر- بحالة إمبراطورية المغول في أوائل القرن الثاني عشر؛ فقد نخر السوس عظامها سواءً بسواء، فديوان الأستانة -كقصر المغول من قبله- كان قد أصبح لا شاغل له إلا شؤون الوزراء الخصوصية والمصالح الفردية لكل منهم”.

من هنا دخلت الدولة العثمانية في مرحلة عجز حاد عن مواجهة التحديات الخارجية والداخلية التي تعاظم خطرها منذ القرن التاسع عشر، ولجأت إلى سياسة “فَرِّق تَسُد” في الكثير من ولاياتها، أضِف إلى ذلك رغبتها في الزج ببعض حكام الولايات الطامحين في الدخول إلى حروب عديدة، ولعل قصتها مع محمد عليّ باشا والي مصر خير مثال على ذلك.

في الحقيقة تُعتبَر قصة وصول محمد عليّ إلى حكم مصر دليلًا على ما وصلت إليه الإدارة العثمانية من ضعفٍ وتردٍّ؛ إذ وطئت أقدام محمد عليّ مصر في عام (1801) ضمن القوة العثمانية التي أُرسِلَت إلى مصر للمساعدة في خروج الحملة الفرنسية من مصر، لكن مصر عاشت فترة اضطراب وتقلبات عنيفة حينها حتى عام (1805)، نتيجة ضعف الولاة العثمانيين، وتجبُّر الأمراء المماليك، هذا فضلًا عن إرهاق كاهل المصريين بالضرائب الباهظة. من هنا دخلت القاهرة في ثورة عارمة في عام (1805) خرج فيها الأهالي بزعامة علماء الأزهر إلى محاصرة الوالي العثماني في القلعة، والمناداة بعزله. وتقرب محمد عليّ إلى الزعامات الشعبية في خضمِّ هذه الثورة، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى المطالبة بتوليته على مصر، وبالفعل كتبوا عليه حُجة ألا يفرض ضرائب جديدة على مصر إلا بعد موافقة الزعامات الشعبية على ذلك. وأمام الضغط الشعبي وحالة الفوضى التي كانت تعيش فيها مصر بعد عودة الاحتلال العثماني لها في عام (1801)، اضطر السلطان العثماني إلى قبول الوضع القائم واختيار الزعامات الشعبية لمحمد عليّ، وأصدر السلطان فرمانًا بتولية محمد عليّ.

في الحقيقة وافقت إسطنبول على تولية محمد عليّ على مضض، وعقدت العزم على التخلص منه في أسرع وقت. ويرصد المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي موقف الدولة العثمانية من محمد عليّ حتى بعد صدور فرمان توليته قائلًا: “كانت السياسة التركية مترددة غير مستقرة… ولم تكن خالصة النية نحو محمد عليّ باشا، بل كانت ترميه بعين البغض، وتنفس عليه رسوخ قدمه في مصر، وحسبه جرمًا في نظرها أنه لم يكن من الولاة الذين ترسلهم كل عام إلى مصر، وتوليهم وتعزلهم كما تشاء”.

أراد السلطان التخلص من والي مصر بزجه في حروب طاحنة.

أدركت الدولة العثمانية مبكرًا الطموح الشخصي لمحمد عليّ، خاصةً وهو يحكم القاهرة، أكبر وأغنى مدينة في الدولة العثمانية بعد إسطنبول. من هنا عقدت العزم على إبعاد محمد عليّ عن مصر، وبالفعل سرعان ما أصدرت في العام التالي -أي: في عام (1806)- فرمانًا بضرورة ترك محمد عليّ ولاية مصر، وتوليه ولاية سالونيك، لكن الزعامات الشعبية في القاهرة -وعلى رأسهم علماء الأزهر- رفضوا ذلك، واستند محمد عليّ إلى ذلك في رفض الفرمان السلطاني، ومرة أخرى اضطر السلطان العثماني إلى الرضوخ للأمر، وإبقاء محمد عليّ في ولاية مصر.

في تلك الأثناء كانت شتى ربوع الجزيرة العربية بعد قيام الدولة السعودية الأولى تنتفض ضد الاحتلال العثماني لبعض أجزاء وطنها في الحجاز، وفشلت الدولة العثمانية في مواجهة قوة السعوديين الوطنية، فهذا التطور السياسي الذي بدأ في الصعود في الجزيرة العربية، زج العثمانيون لمواجهته بوالي بغداد ووالي دمشق، ولم ينجحا. من هنا لجأت الدولة العثمانية إلى الزج بوالي مصر محمد عليّ في هذه المواجهة.

ويشير هنري دودويل إلى السياسة البراجماتية للدولة العثمانية في الزج بمحمد عليّ في حربٍ ضروس في الجزيرة العربية قائلًا: “قد خُيِّل إلى السلطان العثماني أن يكون في الوقت نفسه قد قام بمناورة عظيمة لو أنه تمكن من حمل باشا القاهرة -محمد عليّ- على إنهاك قواه وتبديد موارده… لأنه بذلك لا يستعيد الحجاز فقط، بل ويستعيد أيضًا مصر إلى قبضة يده”.

أدرك محمد عليّ المأزق الذي يُدفَع إليه والكمين الذي نصبه له السلطان، وأن الأخير بعد إعادة احتلال الحجاز، سيعمل على القضاء عليه، لذلك تلكأ محمد عليّ كثيرًا في إرسال الحملة العسكرية إلى الدولة السعودية الأولى، لكنه اضطر أخيرًا إلى إرسالها، حيث خسر كثيرًا من جيشه في المواجهة مع السعوديين.

يصف المؤرخ الإنجليزي ريمون فلاور أثر حروب محمد عليّ في الجزيرة العربية على الجيش المصري والميزانية المصرية قائلًا: “تركت حملة الجزيرة العربية محمد عليّ وهو يعاني نقصًا مدمرًا في المال والرجال”.

وبعد ذلك كرر السلطان العثماني ما فعله مع محمد عليّ وزج به وجيشه في حروب خارجية، لخدمة الدولة العثمانية، بهدف إضعافه والتمهيد للقضاء عليه؛ حيث استغلت إسطنبول اندلاع الثورة اليونانية على الحكم العثماني، وعجز السلطان العثماني عن قمع هذه الثورة، لذلك أصدر أوامره إلى محمد عليّ بضرورة إرسال جيشه وأسطوله من أجل مواجهة الثورة اليونانية، وبالفعل تورط محمد عليّ في هذه الحرب الضروس، والأمر المثير للانتباه أنه في أثناء هذه المعارك، التي اشترك فيها جيش محمد عليّ بقيادة ابنه إبراهيم باشا إلى جانب الجيش العثماني في مواجهة الثورة اليونانية، كان إبراهيم باشا على خلاف دائم مع القائد التركي للجيش العثماني المشارك في القتال ضد الثوار اليونانيين، وكثيرًا ما اشتكى إبراهيم باشا أن القائد التركي لم يقدم له المساعدة في أثناء الحرب، بل والأكثر من ذلك كان القائد التركي يبذل قصارى جهده لإعاقة جيش محمد عليّ. ومرة أخرى ومثلما حدث في حروب محمد عليّ ضد الدولة السعودية الأولى، تترك حروب محمد عليّ في اليونان آثارًا سيئة على الميزانية المصرية.

وترصد عفاف لطفي السيد هذه الأثار الوخيمة قائلةً: “ألقت سَنَتا الحرب في المورة عبئًا هائلًا على مصر وشعبها. وقد قُدِّرت تكاليف الحملة مضافًا إليها نفقات الصيانة والإصلاحات والمعدات الخاصة بالأسطول العثماني التي تكفل بها المصريون، ربما يتراوح بين 20 إلى 25 مليون ريال”.

أدرك محمد علي أخيرًا مدى عِظَم المأزق الذي وضعه فيه السلطان العثماني، والكلفة الزائدة التي تكبدها، لا سيما في حروبه في جزيرة العرب وشبه جزيرة المورة في اليونان، ورفض السلطان العثماني تعويضه عن خسائره، لذلك كانت القطيعة الكبرى بين محمد عليّ والسلطان العثماني، خاصةً بعدما تيقُّن محمد عليّ من ضعف الدولة العثمانية. وعلى هذا تتحرك جيوش محمد عليّ وتستولي على بلاد الشام، بل ويزحف إبراهيم باشا إلى قونية، العاصمة القديمة للدولة العثمانية، وأصبحت إسطنبول نفسها هي المحطة التالية لإبراهيم باشا، وهنا لم تتورع الدولة العثمانية عن طلب المساعدة من عدوتها التقليدية روسيا، للوقوف بجانبها ضد محمد عليّ، وهكذا اضطرت بريطانيا إلى الوقوف بجانبها حتى لا تسمح لروسيا بدور أكبر في السياسة العثمانية، وانضمت لهم فرنسا، واشترك الجميع في حربٍ ضروس لقمع طموح محمد عليّ وإعادة جيوشه مرة أخرى إلى مصر.

هكذا تلاعبت الدولة العثمانية -رجل أوروبا المريض- بطموحات محمد عليّ، لكنها في الوقت نفسه فتحت الباب على مصراعيه للقوى الأوروبية لالتهام العالم العربي.

  1. عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد عليّ، ط5 (القاهرة: دار المعارف، 1989).

 

  1. عبد الرحيم عبد الرحمن، تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1990).

 

  1. عفاف لطفي السيد مارسو، مصر في عهد محمد عليّ، ترجمة: عبد السميع عمر (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2004).

 

  1. ريمون فلاور، مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ترجمة: سيد الناصري (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2000).

 

  1. هنري دودويل، الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد عليّ، تعريب: أحمد محمد عبد الخالق وعليّ أحمد شكري (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2007).