ذي قار
جعلت الفرس يختبئون خلف الشعوبية والزندقة ويمارسون المكائد والدسائس
كانت معركة “ذي قار” فاصلةً بين القبائل العربية – خاصة قبيلة بكر بن وائل ومن تحالف معها – التي عانت كثيرًا من تسلط الإمبراطورية الساسانية وجبروتها لسنوات بعيدة على مكانتها ومقدراتها، بل حتى على معتقداتها الدينية، فقد جعل الفرس من قبائل العرب وقودًا للصراع الدولي بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، من خلال تكوين إمارة عربية حدّيّة تحمي حدود القوة الكبيرة، ورغم ما حصل عليه بعض أمراء الحيرة العربية لدى العرش الكسروي من تفضيل وحرية نسبية إلا أن النظرة السائدة إلى العرب كانت نظرة استعلائية دونية، وأنهم أتباع ورعايا وأدوات يُسْتَخْدَمون في المُلِمَّات والأزمات ووقت الحاجة فقط.
وتكمن أهمية ذي قار في مظاهرها القومية، فقد جرؤ العرب -لأول مرة- في التاريخ على لقاء الفرس في معركة سافرة كبيرة، فقويت معنوياتهم. ومع أن عددًا من القبائل العربية كانت في جانب الفرس، غير أن شعورهم كان مع العرب، وقد دل على ذلك خذلان قبيلة إياد للجيش الفارسي في اللحظة الحاسمة من المعركة، وتضامن بني السكون وبعض بني تميم مع بكر بن وائل وشيبان ضد الفرس.
خلَّد العرب انتصارهم على الفرس في الذاكرة التاريخية والأدبية.
وقد افتخر العرب وخلَّدوا انتصارهم العظيم على الفرس في قصائد شعرية كثيرة في الجاهلية وفي الإسلام، وتأتي بعد قصيدة الأعشى؛ قصيدة أبي تمام مادحًا أبا دلف العجلي:
زال الخوف من نفوس العرب بعد ذي قار، وارتفعت معنوياتهم حتى أصبحوا يهددون حدود الإمبراطورية الساسانية، وانعكست آثار المعركة الخالدة على زيادة اللُّحمة والترابط بين القبائل العربية ووحدتهم لأول مرة ضد العدو الفارسي المجوسي بكل قوة ورباطة جأش، فهزيمة الفرس كانت ضربة موجعة لكسرى، الذي لم يتمكن من استعادة هيبته مرة أخرى على الجزيرة العربية، التي استطاعت توحيد القبائل والاستقرار في البحرين، فالعرب لم يعودوا يخشون الفرس كما كانوا، ولعل هذه الهزيمة الكبرى التي تلقاها الفرس كانت لحكمة يعلمها الله جل شأنه، فمن ينظر إلى تاريخ وقوع المعركة بحسب ما ذكر كثيرٌ من الإخباريين بأنها وقعت قبيل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقليل، وهذا أمر يثير التساؤل عن توقيت تلك المعركة؟ فلا شك أن العرب كان ينتظرهم أمر عظيم وحدث كبير ومسؤولية جسيمة أُلقيت على عاتقهم بدخول الإسلام، بإبلاغ رسالته للعالمين بعدما اصطفاهم الله عز وجل على جميع أمم الأرض، هذا من جانب ومن جانب آخر حتى لا تكون هناك هيبة كما كانت للفرس وإمبراطوريتهم، ومن يقرأ في سير الصحابة الفاتحين يدرك تمامًا كيف نُزِعَت تلك الهيبة من الفرس، وأن من نتائج معركة “ذي قار” أنها وضعت أساسًا ممهدًا لبداية جديدة ومنطلقًا لمعارك الفتح الإسلامي لبلاد فارس منذ عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبقيادة الصحابي الجليل خالد بن الوليد حتى كان فتح العراق، وتحول خالد بن الوليد إلى الجبهة الشامية لمحاربة الروم، ولكن استمرت غارات الفرس على العراق حتى استردوا أكثرها، فعاد المسلمون إلى محاربة الفرس بقيادة سعد بن أبي وقّاص، وكسرت هيبة الفرس في معركة القادسية وخسر الفرس الجزء الغربي من إمبراطوريتهم، ولكن الغارات الفارسية لم تتوقف، فقرر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تركيز الجهود العسكرية الإسلامية على الفرس بعد معركة القادسية حتى أخضعوا بلاد فارس بأكملها في أقل من عشر سنوات، وبذلك انتهت الأسطورة الساسانية الفارسية التي استمرت في إرهاب العالم القديم من روم ويونانيين وعرب وغيرهم ممن جاورهم.
ولا مناص من أن معركة ذي قار بنتائجها المتحققة وأثرها الواسع حطمت الكبرياء الفارسي المجوسي إلى الأبد، ذلك الذي ظل مختبئًا خلف كواليس الشعوبية والزندقة وغيرها من الادعاءات الكاذبة الرنانة، وأصبح يمارس الدسائس والمكائد ضد العرب والإسلام من الخلف، بطرق ملتوية فلم يعد قادرًا في الواقع على المواجهة المباشرة من جديد.
- توفيق برو، تاريخ العرب القديم، ط2 (بيروت: دار الفكر، 1996).
- السيد عبد العزيز سالم: تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر ، د.ت).
- لطفي عبد الوهاب يحيى، العرب في العصور القديمة (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1996).
- محمد سهيل طقوش، تاريخ العرب قبل الإسلام (بيروت: دار النفائس، 2009).
- ياقوت الحموي، معجم البلدان (بيروت: دار صادر ، 1957).