توابع ذي قار
جاء في تاريخ الطبري، أن كسرى الثاني (590-628م) المعروف بـكسرى أبرويز، وهو ابن هرمز بن كسرى أنوشروان اتبع خطوات جده وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ خلقيدونية، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة 614م، ثم استولى على مصر في 619م، ودوّخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه، فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب، وقد أضعفت تلك الحروب المتوالية الحكومة الساسانية، وأصبح تكوين جيشهم يقوم على جنود قد جيء بهم إلى الجيش قسرًا بطريقة “السخرة”، وهو العمل بالإكراه، ويصل إلى حدّ التعذيب
حدثت معركة ذي قار واستطاع العرب بعدها أن يغيروا على الحدود من كل مكان فيه نفوذ وجنود للساسانيين، وقد منحتهم قوة معنوية عالية، وعلمتهم مواطن الضعف عند الساسانيين، فلما جاء الإسلام من جزيرة العرب صار عونًا في تقويض تلك الدولة، ودالًا في تفهم مواطن الضعف فيها، وقد نفذ الإسلام إلى ما وراء البحار، وقوّض الحكومة الضخمة بسرعة عجيبة وبمحاربين لم يكونوا قد عرفوا من قبل أساليب القتال المنظم، ولا المعارك الضخمة التي صادفوها لأول مرة في حروبهم مع الساسانيين والبيزنطيين، وجاءت تلك الرواية في المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام.
لقد أدركت القبائل العربية أن حكومة الحيرة ظهر عليها الوهن، حين عجزت الدولة الساسانية عن حماية الطرق التجارية وتأمين البضائع في أسواق الحجاز واليمن، وكان وراء هذا الضعف الفتن الداخلية والصراعات المستمرة على الحكم، وهذا أدى إلى تصميم القبائل على مهاجمة ملوك الحيرة وحدود الفرس في آن واحد، ولعل هذه الغارات كانت ضمن جملة الأسباب التي حملت كسرى على القضاء على النعمان وعلى إنهاء حكم آل نصر، إما بسبب ما رآه كسرى من عدم تمكن الملك النعمان من تأديب القبائل ومن ضبط الطرق والأمن، فارتأى استبداله بعربي آخر أو برجل قوي من قادة الجيوش الموالية للفرس.
وإما لظنه أو لما وصل إلى علمه من خبر يفيد بأن النعمان قد أخذ يفاوض سادة القبائل الكبار لإرضائهم وضمهم إليه، وفي هذا العمل تهديد لمصالح الفرس ومحاولة للابتعاد عنهم، فأراد لتلك الأسباب وغيرها القضاء عليه وعلى الأسرة الحاكمة، قبل أن يتمكن من الحصول على تأييد أولئك السادة الذين أدركوا نواحي الضعف في حكومة الساسانيين.
وهناك روايات مثل ابن عبد ربه في مؤرخه العقد الفريد يقول: “إن النعمان قال لسادات القبائل إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكتُ وعززتُ بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم ليعلم أن العرب على غير ما ظن وحدث”، وروايات أخرى تفيد أن كسرى إنما قتل النعمان؛ لأنه وسائر أسرته سايروا سادات القبائل وتواطئوا معهم على الساسانيين، ولعل عجز ملوك الحيرة عن حماية قوافل الفرس الذاهبة إلى اليمن والعائدة منها، وعن حماية الطرق البرية المهمة التي توصل العراق باليمن، ثم عجز ملك الحيرة عن منع الأعراب من الإغارة على حدود الساسانيين، ثم اضطرار الملك النعمان إلى الاتصال بسادات القبائل لترضيتهم ولضمهم إليه لتأييده ولتقوية ملكه الضعيف، الذي كان يهدده خصوم له. لعل هذه الأسباب وغيرها، كانت في جملة العوامل التي حملت كسرى على القضاء على النعمان وعلى استبدال الأسرة الحاكمة بأسرة أخرى، أو تسليم أمور الحيرة نهائيًّا إلى قائد فارسي يحكمها حكمًا عسكريًّا.
وقد نصّب الفرسُ حاكمًا منهم على الحيرة، لكنه لم يتمكن من سد أبواب الحدود الطويلة وغلقها، ومنع العرب من دخولها، لقد أتعبتهم الأوجاع بينما جاء العرب بإيمان برسالة، وبعزم وتصميم، لقد بدأ ذلك العزم على التغيير قبل “ذي قار”، وجاءت توابعها انكسارًا للفرس.