ذي قار

فاتحة انتصار القادسية!!

العلاقة بين الفرس والعرب، متشابكة ومعقدة للغاية، وهذا التعقيد ليس وارد اليوم بل ضارب في التاريخ والجغرافيا بين أمتين شاء القدر أن تتجاورا، وأن لا يفصلهما سوى خليج وحدود مشتركة.

الفرس رغم امتدادهم العِرقي نحو الشرق والشمال حيث أبناء عمومتهم الأوزبك والجورجيين، إلا أنهم لا يرون العالم إلا من خلال جيرانهم العرب في العراق والجزيرة العربية، إنها عقدة التاريخ ومحاولة فرض الهيمنة على جيران لا تربطهم بهم أي علاقة غير خط الجوار، ومع ذلك كله فكل محاولات الفرس لفرض الهيمنة والاحتلال كانت دائما ما تتجه غربًا إلى العراق والجزيرة العربية، لقد مثَّل العرب -بالرغم من بساطتهم وبداوتهم ونقص مواردهم الطبيعية وصعوبة حياتهم- عقدة استعلائية عند الفرس صعب فهمها.

صفات الحقد والتعالي هي التي فرضت قواعد اللعبة ورسمت العلاقة بين ملوك فارس وقادتهم، وبين الشعوب والقادة العرب منذ 2000 عام وحتى اليوم، أي منذ غزو سابور الثاني أو من يُطلق عليه ذو الاكتاف، لسواحل الجزيرة العربية وتوغله في أعماقها حتى وصل إلى المدينة المنورة، قاتلًا ومروّعًا وخالعًا أكتاف المقاتلين العرب بالمسامير.

ولعل حادثة ذي قار الشهيرة في تاريخ العرب والفرس، لم تأت اعتباطا أو نتيجة خلافات بين ملكين، بل كانت لها إرهاصاتها المبكرة بين أمتين وصلت بهما العلاقة للانفجار، فالفرس تعاملوا مع العرب بتعالٍ وتجبرٍ، والعرب يديرون العلاقة بدرء الخطر وبمحاولة تحييد من لا يرضىيهم ابدًا.

معركة ذي قار تحوّلت إلى خط فاصل في تلك العلاقة بين الاستعلاء ورفضه، وحوّلت العرب لند، ومهّدت لهم بعدها بسنوات قليلة ليس هزيمة الفرس فقط، بل اقتلاع ملكهم من جذوره، وهدم إيوانهم والاستيلاء على تيجانهم في معركة القادسية الإسلامية الشهيرة.

وعودًا على ذي قار، لعل من المفيد قراءتها تاريخيًّا أولا حسب الروايات المتداولة عنها: “ذي قار معركة شهيرة قامت في جنوب العراق بين العرب والفرس انتصر فيها العرب، وكانت من أعظم أيام العرب، ويعد أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم”.

وتقول الرواية أيضا أنه قد ذكر لكسرى بن هرمز الجمال العربي، وكان في مجلسه رجل عربي يقال له زيد بن عدي، وكان النعمان قد قتل أباه، فقال له: أيها الملك العزيز إن خادمك النعمان بن المنذر عنده من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة.

وأرسل كسرى زيداً هذا إلى النعمان ومعه مرافق لهذه المهمة، فلما دخلا على النعمان قالا له: إن كسرى أراد لنفسه ولبعض أولاده نساء من العرب، فأراد كرامتك، وهذه هي الصفات التي يشترطها في الزوجات، فقال له النعمان: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟ يا زيد سلّم على كسرى، قل له: إن النعمان لم يجد فيمن يعرفهن هذه الصفات، وبلغه عذري، ووصل زيد إلى كسرى فأوغر صدره، وقال له: إن النعمان يقول لك: ستجد في بقر العراق من يكفينك.

فطار صواب كسرى وسكت لكي يأمن النعمان غضبه، ثم أرسل إلى النعمان يستقدمه، فعرف النعمان أنه مقتول لا محالة، فحمل أسلحته وذهب إلى بادية بني شيبان حيث لجأ إلى سيدهم هانئ بن مسعود الشيباني وأودع عنده نسوته ودروعه وسلاحه، وذهب إلى كسرى، فمنعه من الدخول إليه وأهانه، وأرسل إليه من ألقى القبض عليه، وبعث به إلى سجن كان له، فلم يزل به حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه” انتهت الرواية التاريخية.

لكن قراءتها في بُعد آخر ذلك هو المهم:

فصحيح أن مماحكات وخلافات ووقيعة حصلت بين كسرى ملك الفرس وبين النعمان بن المنذر الملك العربي، إلا أن الخلاف في حقيقته كان أعمق من ذلك بكثير، فالملك الفارسي لم يكن يرى في العرب إلا اتباعًا يأمرهم فيطيعوا، ويشكل قرار الحرب والسلام بناءً على مصلحته فما عليهم إلا أن يستجيبوا ويرسلوا أبناءهم لمحرقته، وكان ذلك واضحًا في قراره بالحرب على الروم وقد امتنع أو حاول النعمان وقومه التهرب منها وعدم خوضها، فهي لم تكن في نهاية الأمر حربهم، ولا من مصلحتهم الدخول في معركة بين قوتين عظيمتين أحد المنتصرين فيها سيقتله وهو قدره الذي لقيه فيما بعد على يد كسرى.

لم يستطع الملك الفارسي تجاوز ذلك الموقف العربي المستقل، واعتبر أن مجرد وجود قرار عربي خطر عليه وعلى هيبة قومه الفرس، وما يروى من رفض النعمان تزويج كسرى من بنته أو إحدى كريماته لم تكن سوى ذريعة استخدمها الملك الفارسي للانتقام وقتل النعمان، بسبب موقفه السياسي في معركة الروم وهذا ماحصل.

ولعل من المفيد عند قراءة التاريخ وربطه بالحاضر، فهم العقلية الفارسية واستخلاص أدائها السياسي والعسكري ورؤيتها للجار العربي، رؤيتها المتجذرة في وجدانها من قبل ظهور الإسلام وحتى اليوم وهي تقوم على التالي:

 | عقلية سياسية عنصرية غادرة لا تقاتل خصومها إلا من خلال مقاولين من الباطن.

 | إذا حدثت أي معركة فإنها لا تقاتل بجنودها بل بمرتزقة وسجناء، وتقدم المقاتلين العرب المتحالفين معها إلى وجه المعركة.

 | من يقاتل خصومها العرب هم حلفاؤها المرتزقة العرب، أليس هذا ما يحصل الآن في العراق وسوريا ولبنان واليمن، أليست تلك هي نفس إدارة الحرب بالوكالة التي قام بها كسرى وسابور ضد جيرانهم العرب، فإيران اليوم هي فارس الأمس لا تقاتل إلا من خلال عملاء وميليشيات من العرب يقومون بأعمالها العسكرية وتنفيذ مصالحها وتبني أجنداتها إنه التاريخ الذي لا تفنى حكايته ولا يأت من العدم.