هل خان العرب العثمانيون؟!
يدَّعي بعض المؤرخين الأتراك المتطرفين أن العرب كانوا السبب الرئيس وراء سقوط الدولة العثمانية، بل ويتَّهمون العرب بخيانة إستانبول، والانضمام إلى جانب الدول الأوروبية. وينسى هؤلاء المؤرخون أو يتناسون أن الدولة العثمانية سقطت بفعل عوامل ضعف أساسية في بنية نظام الدولة، من خلال الامتيازات الأجنبية، ودورها في فتح الأبواب أمام النفوذ الأجنبي، والوصاية الغربية على الأقليات في داخل الدولة العثمانية، إضافةً إلى “التنظيمات” التي دفعت المجتمعات العثمانية دفعًا نحو التغريب، إلى جانب الصراع بين القوانين الوضعية التي فرضتها الدولة العثمانية والشريعة الإسلامية، مما ساعد على انهيار المجتمع من الداخل.
والحق أن العرب قد وقفوا دائمًا إلى جانب الدولة العثمانية، وخاصةً في أحلك لحظاتها، في الفترات الأخيرة من عمر الدولة، وتؤكد المصادر التاريخية أن العرب في مطلع القرن العشرين، وفي عام 1909 على وجه الخصوص، كانوا يشكِّلون الأغلبية السكانية في الدولة العثمانية؛ إذ كان عدد سكان الدولة العثمانية يصل إلى حوالي 22 مليون نسمة، منهم 10.5 مليون عربي، و7.5 مليون تركي، والباقي قوميات أخرى، ومع ذلك لم يتمتع العرب بنفس الحقوق التي كان يتمتع بها العنصر التركي.
وقد وقف العرب إلى جانب السلطان عبد الحميد الثاني في بداية حكمه عندما ارتضى النظام الدستوري، وقام بإنشاء برلمان عثماني “مجلس المبعوثان”، لكن السلطان عبد الحميد انقلب على الدستور، وعمد إلى تطبيق نظام المركزية لا سيما في الولايات العربية، كما ضيَّق على الحريات بشكل كبير، وزرع أعوانه في الولايات العربية، لقمع أي حركة تطالب بعودة الدستور، ونظام اللامركزية، كما عمدت السلطات العثمانية على إبعاد الضباط والمجندين العرب في الجيش العثماني عن بلادهم العربية، وإرسالهم إلى الأماكن النائية في السلطنة.
وأدَّى ذلك إلى ظهور المعارضة من الجانب العربي، وكان من أبرز المعارضين العرب عبد الرحمن الكواكبي، الذي وضع كتابه الأول “أم القرى” داعيًا إلى خلافة عربية، كما وضع كتابه الثاني “طبائع الاستبداد” في رفض الطغيان الحميدي، وسعيًا إلى الديمقراطية.
وانضم الكثير من العرب إلى الحركات الإصلاحية العثمانية، وعلى رأسها حركة الاتحاد والترقي، أملًا في نظام لامركزي، يُتيح للعرب وضعًا خاصًّا في إطار الدولة العثمانية، بل ولعب الضباط العرب في الجيش العثماني دورًا مهمًّا في نجاح حركة الاتحاد والترقي، ويذكر في هذا الصدد ما قام به الجنرال العراقي محمود شوكت، والعقيد المصري عزيز عليّ المصري في تقديم الدعم العسكري للاتحاديين، بل والزحف إلى إستانبول لمساندة الاتحاديين أمام خصومهم.
لكن الاتحاديين في حقيقة الأمر ما أن توطدت لهم السلطة في الدولة العثمانية حتى تخلَّوا عن وعودهم للعرب، بل وانقلبوا عليهم، وقاموا بحركة “تتريك” واسعة أثارت غضب العرب عليهم، ويكفي أن نذكر هنا مصير عزيز عليّ المصري، الذي ساند الاتحاديين عسكريًّا كما ذكرنا من قبل؛ إذ انقلب عليه الاتحاديون، بل وتم إلقاء القبض عليه، وإصدار حُكم الإعدام عليه، لكن هذا الحكم أثار الرأي العام في مصر، كما تدخلت العديد من الدول الأوروبية، فاضطرت السلطات التركية إلى العفو عنه وإبعاده إلى موطنه مصر، مما دفعه إلى العمل بعد ذلك ضد الدولة العثمانية.
ولدينا نموذج آخر على كيف دفع استبداد الاتحاديين الرموزَ العربية التي كانت مقتنعة بفكرة اللامركزية، والبقاء في ظل الدولة العثمانية، مع مكانة خاصة للعرب، كيف تحوَّل هؤلاء العرب عن هذه الفكرة، ومن أشهر هؤلاء المفكر السوري ساطع الحصري؛ إذ بدأ ساطع الحصري عثمانيَّ النزعة، يؤمن بدولة كبرى يجتمع فيها العرب والترك، على غرار إمبراطورية النمسا والمجر التي كانت قوة كبرى في وسط أوروبا، لكن ساطع الحصري سرعان ما تتحول أفكاره، بل ويصبح من أكبر مُنَظري القومية العربية.
كما أخطأت الدولة العثمانية في محاولتها فرض الحكم المركزي على أقاليم الجزيرة العربية، ذات الطابع القَبَلي، والتي تتميز بوجود قوى محلية تعتز بطابعها العربي، من هنا ستصطدم الدولة العثمانية مع القوى المحلية في الجزيرة العربية، مما سيدفع هذه القوى إلى رفض السياسات التركية في فرض المركزية وحركة التتريك على المنطقة، وتبدأ هذه القوى في توحيد القبائل العربية، من أجل بناء دولة وطنية، لذلك لن تقف هذه القوى مع الدولة العثمانية في أثناء الحرب العالمية الأولى؛ لأن سياسة الاتحاديين الاستبدادية كانت قد قطعت الشعرة الأخيرة بين العرب والعثمانيين.
هكذا يتَّضح لنا كذب المقولة التي يروِّج لها بعض أنصار القومية الطورانية المتطرفة حول خيانة العرب للدولة العثمانية، ووقوفهم مع القوى الأوروبية ضد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، مما أدَّى إلى هزيمة الدولة العثمانية وسقوطها بعد ذلك؛ إذ تؤكد الحقائق التاريخية – كما رأينا – أن عوامل سقوط الدولة العثمانية هي عوامل أساسية في بنية النظام، خاصةً مع مرحلة ضعفها وتحوُّلها إلى رجل أوروبا المريض، وأن معظم العرب وقفوا مع الدولة العثمانية في البداية، وشاركوا في محاولات إصلاح النظام من الداخل، لكنهم عانوا من الاستبداد الحميدي، ومِن تَنصُّل الاتحاديين من وعودهم السابقة بإقامة نظام لامركزي يحترم الهوية العربية، وبالتالي كان خروج العرب على الاتحاديين هو نتيجة لفرض سياسة التتريك عليهم.