فرِّق تَسُد

استراتيجية العثمانيين لتفكيك القوى المحلية في الحجاز

يحاول المُتأدلجون والمتأخوِنون أن يُصوِّرُوا الاحتلال العثماني للحجاز على أنه فتح إسلامي جديد، وحَّدَ بلاد العرب تحت مظلَّة الخلافة الإسلامية، وكرَّم جزيرة العرب بحكم سلالة جاءت من الأناضول لإعادة إحياء الخلافة!

وإذا كان رؤوس المتأدلجين يعلمون حقيقة الحال وواقع المآل، فإن ولاءهم للباب العالي إنما يدخل في إطار تَوافُقات سياسية تضمن لهم قاعدة خلفية للتراجع والهروب، وحاضنة سياسية وإعلامية ومالية في إطار المشروع العثماني لإقامة كيانات كرتونية تَدِين بالولاء السياسي لأنقرة، وبالولاء الإيديولوجي للإخوان المسلمين.

اعتاد العثمانيون نقض العهود وخيانتها مع العرب.

غير أن محاولة تغطية الوجه الحركي المؤدلج يصطدم بالوقائع التاريخية والقرائن المادية التي تقطع بأن العثمانيين لم يكونوا مبشِّرين ولا منذِرين ولا فاتحين، بل محتلِّين غاصبين، أبادوا الحرث والزرع، وظلموا البلاد والعباد، وأبادوا البشر والحجر والشجر.

وبالعودة إلى الواقع السياسي في الحجاز في زمن الاحتلال العثماني يمكن القول بأن بدايات القرن الثامن عشر الميلادي عرفت وضعًا سياسيًّا صعبًا، وتطاحُنًا شديدًا على السلطة بين الحُكَّام المحليين، وعِوَضَ أن تتدخل الدولة العثمانية لإصلاح ذات البَين واحترام شكل الحكم الذاتي، الذي تمتَّع به الحجاز، قامت بتقوية أحدهم على الآخر، ونفخت في نار الفُرقة من أجل تعميق الشرخ بين أفراد الأسرة الواحدة من أجل تنصيب مُوالِين للعثمانيين، وهو ما نجح فيه الأتراك، نسبيًّا، ليُفسح المجال لإراقة دماء عربية عزيزة، عِوَض العمل على تعضيد الأرحام، ومنع سفك الدماء التي جعلها الله في مرتبة أقدس من الكعبة المشرفة.

في هذا السياق يجب أن نوضح بأن فرض الاحتلال والسيادة الرمزية للعثمانيين على الحجاز كان يقابلها نوع من الحكم الذاتي الموسَّع الذي مارَسَه أمراء الأشراف على إمارتهم، وهنا نسجل بأن عملية اختيار الأمير كانت تتم بشكل محلي، ثم تَعقُبها المباركة الشكلية للأستانة، ولذلك فقد “اتخذ التنافس والصراع بين الشرفاء من أجل إمارة مكة طابعًا حادًّا، فقبل ظهور نتيجة مسألة مصادقة الدولة على الشخص الذي “يرشحه الشرفاء لتولي الإمارة” يَرِد ترشيح شخص جديد، وهو ما يقطع بأن الدولة العثمانية كان لها امتياز المصادقة، وليس التعيين المباشر، وهو ما لم تلتزم به في مواجهة التدافعات بين الأشراف.

إن هذا الالتزام السياسي للعثمانيين لم يجد طريقه نحو التنزيل السليم إلا فيما ندر، حيث لجأت إسطنبول إلى إستراتيجية “فرِّق تَسُد” من أجل تنصيب أمراء يَدِينون لها بالولاء الصريح، ويُطلِقون يدَها في الحجاز بشكل مباشر.

في هذا الصدد يمكن الإشارة -على سبيل الاستدلال لا الحصر- إلى دعم الأتراك ليحيى بن بركات الذي لجأ إليها بعدما قام الأشراف بعزله وتولية الشريف مبارك بن أحمد بن زيد، وخارج إطار الأعراف، قام السلطان العثماني بإصدار أمر تعيين يحيى بن بركات “متغافلًا عن وجود الأمير مبارك الذي يتولى حُكمها بمرسوم صحيح.. وأمر بأن تُدعم أوامره الجديدة بقوة أمراء الحج الشامي والمصري العسكرية”، هذا التصرف خارج الأعراف الأميرية فتح المجال لفتنة كبرى، حين التقت السيوف وسط زحام موسم الحج.

في نفس سياقات التدخل التركي في تعيين رأس الأشراف نرصد نازلة عزل أصحاب الحل والعقد في الحجاز للشريف عبد الله بن سعيد سنة (1718) في ولايته الأولى بعدما “تغيَّر حاله وحصل بينه وبين الأشراف اختلاف كثير حتى خرج كثير منهم من مكة مغاضبًا له، وانجلوا إلى اليمن”.

غير أن الشريف عبد الله بن سعيد ناوَرَ من خلال طرق باب الأتراك من أجل محاولة استعادة الحكم وتثبيته، بالرغم من التزام الدولة التركية، الموثق، بعدم التدخل بين الأشراف لتزكية طرف على طرف، وهو الالتزام الذي أسقطه الأتراك مرة أخرى، بمناسبة مواجهة عبد الله بن سعيد للأشراف في مكة، وهنا يذكر صاحب خلاصة الكلام هذه النازلة فيقول: “وأما الأتراك فهم في بيوتهم حافِظون أيديهم عن الفريقيَن، إلا أنهم في آخر الأمر جنحوا إلى إعانة الشريف عبد الله بن سعيد بعد أن كان بينهم وبين السادة الأشراف عهود ومواثيق بعدم المعاونة، فرفضوا تلك العهود السابقة، فلما أعانوه حصل النصر، فأخرج الذين قاوموه من القصور مكسورين”.

إن دخول الأتراك على الخط ومناصرة طرف على آخر ساهم في تعقيد المشهد الأسري المعقَّد أصلًا بين الأشراف، وهو ما وأدَ أية محاولة لإصلاح ذات البَين، على اعتبار أن الأتراك أرادوا أن يُرسِّخوا قاعدة مفادها أنهم أصحاب السيف والشوكة، وعندهم الحل والعقد، ومناط الأمر أولًا وأخيرًا.

لجأ الأتراك العثمانيون إلى قاعدة “فرِّق تَسُد” من أجل ضرب أي وحدة عربية، ودقِّ إسفين بين القوى المحلية في العالم العربي، ومنها الحجاز، وساعدها في ذلك هوى السلطة الذي راوَدَ بعض الشرفاء، ودفعهم إلى الزيغ عن الأعراف السياسية والبروتوكولية التي كانت تنظم البيت الشريف في الحجاز، وهو الأسلوب الذي استمر مع استمرار الدولة العثمانية.

  1. أحمد دحلان، أمراء البلد الحرام (بيروت: الدار المتحدة للنشر والتوزيع، د. ت).
  2. إسماعيل حقي جارشلي، أشراف مكة المكرمة (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2003).
  3. محمد الفاسي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، تحقيق: علي عمر (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2008).