تسلط السلطان عبد الحميد الثاني على الصحافة
تعد الصحافة في العصر الحديث واحدة من أهم مظاهر نهضة الأمم والشعوب فهي دليل على تقدمها ونهضتها ولسان حالها، وترجمان لأفكارها، والمدافع عن حقوقها أمام الأمم الأخرى بل هي بيان لتطلعاتها إلى المستقبلية. ومن خلال القراءة التاريخية لمذكرات السلطان عبد الحميد 1909 م، فماذا كانت تعني – الثاني، الذي حكم الامبراطورية العثمانية ثلاثًا وثلاثون سنة من 1876 الصحافة للسلطان عبد الحميد؟ حينما نجده يقول: “من الغريب أن يكون عدد الصحف التي تلتزم جانب الحق والصدق في مقالاتها وأخبارها قليلاً، والحقيقة أن حصول المراسلين على أخبار صحيحة ودقيقة من خلف الستار والكواليس أمر صعب المنال، لذلك يعمد هؤلاء إلى سوق الأكاذيب فيجدون فيها مبتغاهم”، بهذه الكلمات ختم السلطان عبد الحميد الثاني خواطره ومذكراته الشهيرة، التي يفهم منها انعكاس لأبعاد شخصية السلطان عبد الحميد المليئة بالوهم والشك والقلق من كل شيء وحول كل شيء، ويبدو أن الصحافة قد زادت من حالة الوهم والشك في شخصيته، لذا حرص على إدارتها بصورة مبالغ فيها من التدقيق والتمحيص لكل ما يكتب أو ينقل من أخبار، بل ضيّق على كثير من الصحف والجرائد تارة بالإغلاق وتارة بالمنع من الانتشار في معظم ولايات الدولة، ولم يكتف بذلك بل سلط الجواسيس على الصحف وما تكتبه من داخلها وخارجها حتى القراء لم يسلموا من ذلك التجسس، وكل ذلك ضمان لسلامته والمحافظة على مكانته، فقد كان يخشى على حكمه وحياته من خطر الصحافة، ولذا ناصبها العداء، وأصدر أوامره بتقييد حريتها، وضيَّق عليها بالمراقبة والتجسس خاصة بعدما عطل عمل “مجلس المبعوثان” وأوقف العمل بالدستور، بل شكل في سنة 1877 م، هيئة رقابة خاصة جعلها تابعة لمديرية المطبوعات. وبعدها بسنة ألغى أول قانون عثماني للمطبوعات، الذي كان قد صدر في سنة 1865 م. حتى وصل به عدم الثقة والشك بالصحف أنه في سنة 1898 م، جعل بعضًا من المطابع تخضع لإشراف الشرطة وصلاحيتها كي تتم السيطرة على ما يطبع وينشر؟!.
يعلل السلطان عبد الحميد تلك الرقابة الشديدة بأنها أمر حيوي في البلاد العثمانية، ومن ير غير ذلك فهو مخطئ!! ويرى أن تَقَبٌّلَ النقد الصحفي لدى الأوربيين لزيادة الوعي الثقافي لديهم أكثر من الشعب العثماني قليل المعرفة؟! بل يرى أن معاملة الناس يجب أن تكون كمعاملة الأطفال الذين لا يدركون مصلحتهم، لذا جرى منع الكتب والمنشورات والروايات الأجنبية التي يمكنها أن تفسدهم. وهذا -مما لاشك فيه- صورة من صور الاستبداد غير المسبوق بالتسلط على الحريات الفكرية والثقافية لدى الناس وتجهيل لهم، وليس تنويرا ينشده السلطان لشعبه!.
وفي الواقع إن ما كان ينشر في الجرائد والصحف العثمانية الرسمية كجريدة “تقويم وقائع” الجريدة الرسمية للدولة العثمانية، التي اشتملت على الأوامر والتوجيهات السلطانية والتعيينات والأخبار الداخلية والخارجية والفنون. أو جريدة “الحقوق”، التي تتناول المسائل العدلية والقانونية فقط، أو جريدة “الجوائب” وجريدة “الكوكب العثماني” اللتين كانتا تنشران ما يريده السلطان ويراه مناسبا ويرضيه من ألفاظ التفخيم والتعظيم والتمجيد في مدح عدالته وغيرهما مما سار على نهجهما من الجرائد والصحف الأخرى. ولا يمكن هنا أن نغفل الدور الذي مارسته مديرية المطبوعات في عهد السلطان عبد الحميد من كبت الحريات وتكميم الأفواه، متخذة من السلطة المستبدة قوتها ضد المفكرين والمثقفين وأعلام الصحافة، وتولت الرقابة المسبقة على كل ما ينشر من خلال جواسيسها ومخبريها الذين يكتبون تقاريرهم لتصل بعد ذلك إلى السلطان عبد الحميد شخصيًّا، وقد شغلت تلك التقارير حيزًّا كبيرا من اهتمامه، بالرغم من افتقاد كثير منها إلى المصداقية.
وكان السلطان عبد الحميد يرسل من خلال مديرية المطبوعات تعليماته إلى رؤساء تحرير الصحف وأصحاب امتيازاتها، فهي الجهة الرسمية التي كانت تراقب المواد الصحفية مسبقاً قبل طباعتها ونشرها، وتقوم بمنع نشر أي ترجمات عن الصحف الأجنبية. إضافة إلى منعها من استخدام الأسماء المستعارة في المقالات الصحفية وحتى الجرائد الفكاهية، فكثرت القيود الصارمة التي أثرت بدورها في الحياة الصحافية والثقافية، فأصبحت أُحادية الجانب والتوجه. وبذا ذلك جليًّا من إصدار مديرية المطبوعات قوائم كثيرة بالممنوعات من الطباعة والنشر على المستوى الصحفي والإعلامي والثقافي، ولم تسلم معظم ولايات الإمبراطورية من ذلك النهج الاستبدادي بما فيها منطقتنا العربية في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية ونسوق هنا -على سبيل المثال- الشيخ عبد الله المغيري وهو أحد أبناء الجزيرة العربية من أهل الأفلاج، الذي أصدر أثناء إقامته في الآستانة سنة 1880 م، صحيفة أسماها “المنبه”، وبعد أن انتهى من صف عددها الأول وأرسله ليرى النور في المطبعة صدر أمر من السلطان بإيقاف الصحيفة ومنع نشرها ، مما جعل المغيري بعد مدة ينتقل إلى القاهرة وينضم إلى المعارضين لسياسة الاستبداد وتكميم الأفواه، حتى غدت مصر الخديوية ملجأ لكثير من المفكرين والصحفيين الهاربين من جحيم الاستبداد، ولم يتوقف الأمر على المفكرين فقط بل تجاوزه إلى بعض التجار والأعيان العرب في الخليج العربي الذين تعرضوا هم بدورهم للمضايقة، بسبب اشتراكهم في بعض الصحف والجرائد التي تصدر من مصر، وبهذا التصور والتصرف كانت الدولة تتعامل مع الصحافة والرموز الثقافية بروح الاستبداد المظلمة.