مستنزِفًا مقدَّراتهم في سبيل حلمٍ مستحيل

الاختراق الفارسي للوطن العربي سبَّب حالةً من البؤس الطويل للشعب الإيراني

في عام (2003) قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق، وإسقاط نظام صدام، وكان ذلك بمثابة نقطة مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط؛ خاصةً أن الأمر حدث بتواطؤ إيراني لصالح أمريكا في غزوها العراق، ويُشار إلى أن دور بعض المعارضين العراقيين، مثل أحمد الجلبي، في تجسير العلاقات السرية بين إيران والولايات المتحدة، جعل إيران تسمح للمعارضين العراقيين على أراضيها بالعمل لصالح إسقاط النظام العراقي، في محاولة للاستفادة من حالة الفراغ السياسي التي شهدتها العراق والمنطقة العربية بعد هذا الغزو، ووصف البعض هذا الأمر بأن الولايات المتحدة قدَّمت العراق محطمًا ومُشرَع الأبواب لإيران.

وقد أكَّد رضوان السيد ذلك في نقاشاته مع المؤرِّخ الأمريكي من أصل إيراني “روي متحدة” قائلًا: “كان روي متحدة يدرك المرارة التي اشتعلت في نفوسنا جميعًا نتيجة دور إيران في الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق (2001- 2003)”.

وفي إطار النظرية الإستراتيجية التي يطرحها المفكر اللبناني جمال واكيم حول ما أطلق عليه “النزوع التاريخي لإيران للوصول إلى شرق المتوسط”؛ عملت إيران منذ ذلك الوقت على محاولة تأكيد أنها القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة، متحدِّيةً بذلك القوى التقليدية الكبرى في المنطقة، وهذا ما تؤكِّده الوثيقة المستقبَلية التي أعدَّها ما يُعرف بمجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران عام (2005)، لتحويل إيران إلى قوة إقليمية مركزية في منطقة جنوب وغرب آسيا.

ظهر تطوُّر جديد في نظرية تصدير الثورة التي رفعها الخميني بعد ثورته (1979)؛ إذ عملت إيران على دعم قوى سياسية خارج إيران، خاصةً القوى الراديكالية المعادية للنظم القائمة في العالم العربي، لإنشاء حكومات على النمط الإيراني، كما لعبت على تصدير فكرة ولاية الفقيه لكي يتم الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية، ورفض الفصل بينهما، من هنا بدأت إيران في التغلغل في المنطقة من خلال بعض القوى المحلية المؤيدة لها، أو المرتبطة بالمؤسسات الإيرانية، سواء بحكم الانتماء الطائفي أو الارتباط الأمني، كما حاولت الاستفادة من وجود بعض الفئات الاجتماعية الشيعية في العديد من دول المنطقة في فتح الباب للوجود الإيراني، كما عملت إيران على المتاجرة بالبُعد الديني لملف القضية الفلسطينية، التي أصبحت تمثل محورًا جوهريًّا في ماكينة الدعاية الإيرانية.

وكما أكَّد رضوان السيد أنه منذ عام (2005) تأزَّمَت العلاقات بين إيران والعرب جرَّاءَ استخدام إيران لعوامل الدين والمذهب والقوة في إحداث التقسيم والشرذمة في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن، ويربط بين صعود تيار المحافظين الجدد في أمريكا، وتأثيره على الشرق الأوسط، ومجريات السياسة الإيرانية: “مثلما كانت الحقبة الواقعة بين العامين 2001 و2009 هي حقبة المحافظين الجدد في السياسة الأمريكية، يمكن القول دونما تجاوز كثير: إنها كانت حقبة المحافظين الجدد الإيرانيين في إيران وسياستها الخارجية”.

وهكذا استطاعت إيران عبر نفوذها من خلال الجماعات المسلحة في العراق، ودعمها للنظام السوري، وذراعها في لبنان المتمثل بحزب الله، أصبح لها إطلالة على شرق المتوسط، تأكيدًا لحلمها القديم منذ الإمبراطورية الفارسية، كما دخلت إيران في علاقات وثيقة مع جماعة حماس التي اغتصبت قطاع غزة، وبهذا الوضع أصبح لإيران مِخلَب قط تستطيع من خلاله استفزاز إسرائيل، ومساومتها على أمنها القومي إذا اقتضى الأمر، لكن الأخطر أيضًا في علاقة إيران الوثيقة بحماس؛ لأنها أصبحت بذلك الوضع تشكِّل خطرًا على الأمن القومي المصري، بوجودها بالقرب من سيناء وقناة السويس، كما استطاعت إيران عن طريق علاقاتها المريبة مع جماعة الحوثي في اليمن، والدعم غير المسبوق لهم أن تشكِّل خطرًا شديدًا على حرية الملاحة في باب المندب، بوابة البحر الأحمر إلى المحيط الهندي.

من ناحية أخرى يشير الباحث الأمريكي من أصل عربي وليد فارس إلى أمرٍ مهم وخطير في مسألة الأطماع الإيرانية في المنطقة؛ إذ يحدِّد الأهداف بعيدة المدى لإيران في السيطرة على المناطق ذات الأغلبية الشيعية في العالم العربي، لكن الأخطر من ذلك محاولتها افتراض الصراع مع المملكة العربية السعودية لمحاولة تحقيق “الشرعية الإسلامية العالمية الموحدة” التي أعلنها الخميني عندما أعلن الجمهورية الإسلامية عام (1979).

لم يقنع المسؤولون الإيرانيون أن طموحات "الخميني" في تحقيق "العالمية الموحدة" تحت سلطة ولاية الفقيه ضربٌ من الجنون.

ويدرك الإيرانيون أن المملكة العربية السعودية بما لها من وزن وبُعد عربي وإسلامي هي التي تستطيع أن تقف في وجه الأطماع الإيرانية، ونتيجة عدم قدرة إيران على المواجهة المباشرة مع السعودية لجأت إيران إلى سياسة “الحرب بالوكالة”؛ حيث فتحت عدة جبهات في عدة جهات مع المملكة العربية السعودية، محاوِلةً فتح جبهة عن طريق الميليشيات العراقية المتحالفة مع إيران؛ للقيام بعمليات ضد المملكة، لكن هذه الجبهة أغلقت بعد زيادة الارتباط في العلاقات السعودية العراقية، أما الجبهة الإيرانية عن طريق عصابات جماعة الحوثي، فالمملكة ضمن التحالف العربي ودعم الحكومة الشرعية اليمنية تواجه هذا التحدي بكل اقتدار.

ويُفاخر الإيرانيون بتدخُّلهم السافر في الشأن العربي؛ إذ فاخَرَ المرشد الإيراني علي خامنئي بإستراتيجية تصدير الثورة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن، بل واتَّهَم الولايات المتحدة بالسعي لإسقاط ست دول عربية لتقليص ما أطلق عليه “العُمق الإستراتيجي الإيراني”، ومن ناحية أخرى بدأ هذا التدخل الإيراني ومبدأ تصدير الثورة يثير غضب الداخل الإيراني، بل وبعض رجال الدين المستنيرين في إيران؛ إذ يقول أحد الملالي الإيرانيين: “هناك اعتقاد أن أموال الشعب الإيراني تُنفَق في لبنان واليمن وسوريا، وحتى العراق، بينما يُرجِع النظام الإيراني بؤس الشعب الإيراني إلى مسألة الحصار الأمريكي”.

  1. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط (بيروت: دار أبعاد، 2016).

 

  1. رضوان السيد، العرب والإيرانيون: العلاقات العربية- الإيرانية في الزمن الحاضر (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014).

 

  1. راشد أحمد الحنيطي، مبدأ تصدير الثورة الإيرانية وأثره على استقرار دول الخليج العربية، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشرق الأوسط (2013).

 

  1. مؤسسة كارنيجي، المعضلات الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية، صحيفة الشرق الأوسط، 30 نوفمبر (2016).

 

  1. وليد فارس، سيناريوهات حرب إيران على العرب، إندبندنت عربية، 30 نوفمبر (2021).