بسبب الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية

تصفية حسابات الدول الغربية من خلال الصراع البروتستانتي الأرثوذوكسي على الأراضي العربية

لا شك أن نظام الامتيازات الغربية في الدولة العثمانية كانت له انعكاسات سلبية أثرت على التماسك الاجتماعي في البلاد العربية، وهو ما هيأ الاختراق والتغلغل وبداية الهيمنة الاستعمارية الأوروبية، وتغير الحال من مستعمر تركي إلى مستعمر أوروبي.

حين فشلت الدولة العثمانية في إدماج المسيحيين ضمن بنيتها؛ زاد الأمر سواءً بعد قبولها بنظام الامتيازات، الذي شكَّل ضربًا لمبدأ السيادة، خاصةً “بعدما انتزعت منها بعض الامتيازات بموجب معاهدات خلال مراحل ضعفها، وشكَّلت هذه الامتيازات الوثائق التي استندت إليها الدول الأوروبية في تثبيت جاليتها على الأراضي العثمانية، وبخاصة في الولايات العربية، كما اعتمدت عليها للتدخل في شؤون الدولة العثمانية الداخلية”.

وقد استطاعت دولة مثل فرنسا أن تُحدِث اختراقًا خطيرًا لمجال الدولة العثمانية، خاصة بعد مراجعة اتفاقيات الامتيازات التي وقعت سنة (1535)، في أعقاب بعض الحوادث المتفرقة في مصر، وبذلك استطاعت فرنسا أن تحصل من السلطان سليم الثاني عام (1569) على صك من 18 بندًا، استغلته فرنسا وعملت على إرسال “بعثات دينية عدة إلى كافة بقاع الدول التي يسكنها نصارى، وبخاصة بلاد الشام، لتعليم أولادهم وتربيتهم على الولاء لفرنسا”.

ويمكن القول أن الدولة العثمانية وضعت حاجزًا بين سكان المناطق التي تم إخضاعها وبين عناصر السلطة، وهو ما صعب من عملية إدماج السكان ضمن بنية الدولة، خاصة إذا ما علمنا أن عقيدة الاستعلاء العرقي تغلبت على منطق الدولة، والذي يجعل منها حكمًا فوق المؤسسات، وعلى مسافة واحدة من جميع التشكيلات الدينية والسياسية والعرقية.

ورأى بعض المؤرخين بأن إقدام الدولة العثمانية على منح الأجانب مجموعة من الامتيازات كان مدخلًا للتفريط في سيادتها، وكرمًا لم يجدوا له تبريرًا، خاصة وأن معظم الامتيازات تم منحها في أوج قوة السلطنة العثمانية، فكان ذلك مقدمة لتحويل الدول الأجنبية إلى شركاء للدولة العثمانية في الحكم.

في هذا الإطار يرى محمد كرد علي أن منح “محمد الفاتح، مثلًا، الروم امتيازات مذهبية، (أحدَثَ) دولة في دولة، وارتكب خطأ فاحشًا… وهذه العناصر فتحت للأجانب سبيل التدخل في شؤون الدولة الداخلية، فكانوا السبب في انقراضها… ومن أسباب هذه الذهنية المشؤومة الرأي الأخرق القائل بلزوم الإبقاء على صنف من الرعايا يؤدون الخراج للدولة”.

وتعليقًا على هذه النقطة، نستطيع القول بأن الدولة العثمانية غلَّبت المصالح الاقتصادية على واجب الانضباط لصريح النص الديني، وهنا نجد أن آل عثمان تهاونوا حتى في دعوة المسيحيين وغيرهم للإسلام، ولم يجتهدوا في ذلك، رغبة منهم في بقاء شريحة مهمة من الأفراد على ملتهم، وبالتالي تكون مصدرًا مهمًّا لتمويل خزينة الدولة.

إن غياب “منطق الدولة” (بتعبير ريشيليو)، وتفريط الدولة العثمانية في أحد أهم وسائل الضبط والربط الاجتماعيين، جعل المسيحيين يشكِّلون طابورًا خامسًا داخلها، وعيون تعمل لصالح القوى الأجنبية وتأتمر بأوامرها، وتطور الأمر إلى تسليح هذه الطوائف لتتحول إلى تشكيلات عسكرية كانت السبب في قصم ظهر العثمانيين، وهنا تحول الدروز بولائهم لإنجلترا، والمَوارنة لحليفتهم فرنسا “وكانوا يتلقون السلاح من فرنسا، بينما مدَّت إنكلترا الدروز بالسلاح”.

إن التغلغل المسيحي في البيئة الإسلامية نجمت عنه ظاهرة أشد وأخطر، وهي تلك المرتبطة بالصراع المسيحي-المسيحي نفسه، فتحولت المناطق المُحتلَّة من الدولة العثمانية (خاصة في جبل لبنان وسوريا) إلى مسرح لتطاحنات طائفية، خاصة بين البروتستانت والأرثودكس، بتحريض وتجييش من المبشرين المحسوبين على الطائفتين، وما “أن جاء المبشرون البروتستانت إلى سورية حتى وقف رجال المذهب الماروني والمذهب الأرثوذكسي موقف الدفاع الشديد… ولم يكتفِ الإكليروس الماروني بحَثِّ أتباعه على الابتعاد عن البروتستانت، بل إنه كان يحمل أتباعه على اضطهاد أهل المذاهب المسيحية الأخرى، وخصوصًا بعد أن طمع البطريرك الماروني ببسط سلطة زمنية على جبل لبنان”.

وإذا كانت الدولة العثمانية قد استفادت من تواجد التجار الأجانب على أراضيها، واستطاعت الانتفاع بتجربة وأموال اليهود دون تكلفة سياسية باهظة، وبالنظر إلى غياب دولة أجنبية تدافع عنهم أو تناصرهم، فإن هذه السياسة كانت لها تكلفة ثقيلة على المستوى الإستراتيجي، خاصة في العلاقة مع المسيحيين، وذلك مع ظهور أولى مؤشرات ضعف الدولة العثمانية حين “أخذت الدول الأوروبية تتدخل تباعًا في شؤونها، وكانت معاهدة الامتيازات الأجنبية الباب الذي دخلت منه هذه الدول لتحقيق أغراضها”.

وانطلاقًا مما سبق يمكن حصر أهم أسباب تصدُّع الدولة العثمانية في أمرين مرتبطين بالامتيازات الأجنبية، وهما: أولًا: السياسة التوسعية للدولة العثمانية لم تواكبها إستراتيجية وطنية، الهدف منها إدماج سكان المناطق التي تم إخضاعها ضمن بنية الدولة، وثانيًا: نظام الامتيازات الذي حاولت من خلاله الدولة العثمانية تمويل خزينة الدولة، فتحوَّل إلى لعنة عليها من خلال السماح لدول أجنبية بالوصاية على المسيحيين، وبالتالي التأسيس لأولى المجموعات التي ستعلن التمرد، وترفع سلاح الانفصال على الدولة العثمانية.

السماح بوصاية الدول الغربية على المسيحيين في حدود الاحتلال العثماني تحوَّل إلى لعنة قضت على العثمانيين.

  1. سحر علي وعبد المنعم الأحمد، “نظام الملل في الدولة العثمانية إبان القرن 19″، مجلة جامعة دمشق للدراسات التاريخية، سنة (2022).

 

  1. محمد طقوش، تاريخ العثمانيين (بيروت: دار النفائس، 2013).

 

  1. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية (بيروت: دار النفائس، 1981).

 

  1. محمد كرد علي، خطط الشام، ط3 (دمشق: مكتبة النوري، 1983).