في عهده جرى تتريك العرق واللسان وطمس الهوية الكردية

طبَّق أتاتورك مبدأ (الاستيعاب العنصري) مع الأكراد

يقول ابن خلدون في مقدمته: “إن التاريخ هو محاولة للتدقيق وتعليل الكائنات، والعلم بكيفيّة الوقائع، وأسباب حدوثها، وبذلك يكون التاريخ جديرًا بأن يكون علمًا يوقفنا على أخبار الأمم الماضية وأخلاقها”.

 

لقد شكّلت سياسة مصطفى كمال أتاتورك تجاه الأكراد، في بعدها العرقي، امتدادًا لسياسة سلاطين الدولة العثمانية، من خلال ازدواجية الاحتواء والقمع دون حصول الأكراد على حقهم في ممارسة التمظهرات الهوياتية للشخصية الكردية في تعبيراتها السلوكية والوظيفية. هذا التعامل العنصري لأتاتورك شكل “انقلابًا” على الوعود التي قطعها أتاتورك للأكراد بمنحهم حق اختيار مصير سياسي أفضل يليق بثقلهم الديمغرافي وبتعاونهم مع النظام الكمالي في الفترة الانتقالية التي سبقت وأعقبت سقوط الحكم العثماني في الآستانة.

استأصل مؤسس الجمهورية التركية الهوية الكردية بقمع لغتهم وإسكان الأتراك بينهم وتهجيرهم من مناطقهم.

إن الدهاء السياسي لأتاتورك كان ينقصه الاستعانة بدروس التاريخ التي أثبتت بأن المقاربة الأمنية والعسكرية ظلت عاجزة وقاصرة عن إيجاد حلول دائمة ومتوافق عليها للمسألة الكردية وهو ما كان يستدعي ضرورة الاجتهاد لبلورة تعاقد سياسي جديد مع هذا المكون العرقي الذي يمتد على أربعة دول مهمة وله قواعد خلفية يتحرك من خلالها بكل دينامية واحترافية.

في هذا السياق، ظلت سياسة أتاتورك تجاه الأكراد امتدادًا لسياسات مترددة وغير حاسمة، على اعتبار أن “سياسات الدولة (التركية) – في الحكومات التي تعاقبت عليها- قد صدرت عن تصورات ومرجعيات متقاربة؛ لأنها لم تقف عند إمكانية تشكل الكرد وفق خيار الانفصال أو الفيدرالية أو الإدارة الذاتية، بل انتهت عند تشكلهم في إطار الدولة التركية، وعلى هامشها”.

حافظ أتاتورك على التوجه العرقي نفسه في التعامل مع المسألة الكردية، ولم يكتف بالمناورة للالتفاف على حقوق الشعب الكردي من خلال إبرام مجموعة من التحالفات مع الغرب انتهت بإطلاق يده للتنكيل بالأكراد، بل تجاوز ذلك إلى محاولة محو الطبيعة العرقية والهوياتية للأكراد من خلال العمل على تتريكهم ودفعهم إلى ترك لغتهم وتغيير أسمائهم كمقدمة لإبادة الهوية الكردية وحرمانها من أي تواجد مادي أو حتى لا مادي.

أخذ التوجه الكمالي بعدًا قانونيًّا ومؤسساتيًّا تم تكريسه من خلال دستور سنة (1924م) الذي نص على أن اللغة “الحصرية” للدولة هي التركية، قبل أن يأخذ التوجه ذاته شكلاً حادًّا، خصوصا بعد ثورة الشيخ سعيد بيران. وهنا نجد المؤرخ أحمد تاج الدين يؤكد على هذه النقطة بالقول: “وعندما تأزمت الحالة في المناطق الكردية عقد اجتماع في الآستانة ترأسه رئيس الجمهورية…تم بعده اتخاذ عدة قرارات هامة، أبرزها: إلغاء حياة العشائر والأسلوب القبلي الذي يعيشه الأكراد بتوزيع أفراد القبائل على الولايات التركية المختلفة، وتتريك السكان بصورة إجبارية ومحو القومية الكردية محوًا تامًّا، وحظر التكلم أو القراءة والكتابة باللغة الكردية”.

واصل أتاتورك عملية استئصال الهوية الكردية عبر ما عرف بسياسة “الاستيعاب العنصري” من خلال “قمع اللغة الكردية وإسكان الأتراك بين الأكراد، ونقل بعضهم إلى الغرب”. كما “تجسدت نتائج التقريرين في “خطة إصلاحات الشرق” التي قدمت للحكومة في سبتمبر (1925). ونصت على ترتيبات إدارية خاصة للمناطق الكردية تخضع لمفتش عام، ونفي العائلات الكردية “الخطيرة” واستبعاد الأكراد من الخدمة الحكومية في مساقط رأسهم”.

تأسيسًا على ما سبق، حاول أتاتورك، تحت مسميات الإدماج، مسح كل ما له علاقة بالثقافة الكردية، ووصلت الأمور إلى حد إطلاق تسمية “أتراك الجبل” على الكرد كتغييب ونفي لتميزهم القومي، بالإضافة إلى تدريس الفولكلور التركي في المدارس لتكريس واقع التتريك وإزالة الفوارق الثقافية والعرقية على حساب الثقافة الكردية.

لم يكتف أتاتورك بهذه الإجراءات العنصرية بل حاول نسف القضية الكردية من الداخل حين لجأ إلى تشجيع تأسيس تنظيمات سياسية “كردية” تدين بالولاء المطلق لتركيا تفعيلاً لما أطلق عليه “سياسة الإنكار” ويقصد بها إنكار وجود شعب كردي منفصل عن الأمة التركية التي توحدها اللغة والثقافة التركيتين. هذا التوجه تم تقنينه في ديسمبر سنة (1926م) عندما أصدرت وزارة التعليم مرسومًا يمنع استخدام الأسماء “الإثنية” مثل كرد أو لاز أو شركس لأنها “تلحق الضرر بالوحدة التركية”.

قاوم كل ما له علاقة بالثقافة حتى قام بتسمية الكرد بلقب "أتراك الجبل".

بذلك فإن أتاتورك فشل في احتواء الأكراد حين أصر على تكريس عرقية النظام رغم تعددية المجتمع، كما أنه أرسى علاقات تعاقدية متناقضة عندما أخضع الدستور -الذي يُفترض أنه أحد مظاهر الممارسة الديمقراطية- لدكتاتورية الجيش وترك باقي التعبيرات العرقية على هامش المجتمع السياسي التركي وهو ما جعل تركيا تعاني من اهتزازات اجتماعية وسياسية لا تزال أنقرة تعاني من ارتداداتها إلى يومنا هذا.

  1. أحمد تاج الدين، الأكراد: تاريخ شعب… وقضية وطن (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).

 

  1. أندرو مانجو، أتاتورك: السيرة الذاتية لمؤسس تركيا الحديثة، ترجمة: عمر الأيوبي (أبوظبي: دار الثقافة والسياحة “كلمة”، 2018).

 

  1. باسيلي نيكيتين، الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة: نوري طالباني (بيروت: دار الساقي، 2017).

 

  1. عايدة العلي، الأكراد في العالم تاريخهم ومستقبلهم (بيروت: الدار العربية ناشرون، 2018).