خلال الفترة (1798-1801)
العثمانيون تركوا المصريين يواجهون مصيرهم أمام الفرنسيين
قبل الحديث عن الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت على مصر، لا بد من الإشارة إلى أن مصر كانت تحت حكم المماليك لقرون عديدة، فلقد كان المماليك في الفترة الأولى ينتمون في الغالب إلى أصول تركية، متمثلة في المماليك الذين جلبهم آخر ملوك الأيوبيين، وأسكنهم قرب نهر النيل، ومنه جرت تسميتهم بالمماليك البحرية، ولكن مع مطلع القرن الرابع عشر الميلادي بدأ السلاطين يحصلون على العبيد من الجراكسة أو المماليك البرجية بصفة خاصة، وقد سموا بالمماليك الجراكسة أو البرجية؛ كونهم سكنوا في أبراج القلعة.
قبل دخول المماليك إلى الخدمة في بيوت السلطان تم تعليمهم وتدريبهم من أجل إعدادهم إعدادًا جيدًا للجيش، أو حتى لمناصب الدولة الإدارية، وكانوا يتلقون تعليمًا دينيًّا إسلاميًّا، ويسمى: مملوك، أي: مَن يمتلكه السيد، وقد كان يُمنع على المماليك الوراثة، وقد بدأ الميراث مع سقوط المماليك البحرية، ومجيء المماليك البرجية، وكان المماليك بعد تسلُّطهم وسيادتهم على مصر يفرضون على الفلاحين الضرائب، ويحصلون على المكوس من تجارة الرقيق بينهم وبين أوروبا وآسيا.
وفي الوقت الذي بدأت فيه مظاهر الضعف تدب في سلطة وحكم المماليك في مصر، أخذت قوة المماليك العثمانيين في النمو والبروز على مسرح الأحداث، وذلك قبل الوجود العثماني الفعلي في مصر، فقد كانت هناك علاقات جيدة بين سلاطين المماليك والعثمانيين، حيث وقف العثمانيون إلى جانب المماليك في الدفاع ضد الهجمات البرتغالية، غير أن تلك العلاقات انهارت، وما لبثت أن تدهورت بعد معركة مرج دابق سنة (1516) بالقرب من حلب، وبعدها بسنة تقريبًا فقدت مصر استقلالها السياسي، وأصبحت تحت وطأة الاحتلال العثماني، وبعد زوال سلطة المماليك بدأ عصر الاحتلال العثماني، الذي ارتكز على ثلاث هيئات: الوالي أو الباشا، والحامية العثمانية، وما تبقى من البكوات المماليك.
كانت مصر مهيَّأة للاحتلال بسبب السياسات العثمانية الضعيفة وإدارتها الفاسدة.
عانت مصر خلال ذلك العصر من أنواع الظلم وسوء الإدارة، مما أضعف تجارتها وجعلها في تراجُع دائم، فبعد احتلال الدولة العثمانية لمصر لم يكن جميع المماليك مؤيدين للحكم العثماني، كما لم يكن كل الذين تم تعيينهم في مناصب مهمة مُخلِصين في ولائهم للدولة العثمانية، ولكن مع ذلك شهدت مصر فترة من الاستقرار السياسي، إلا أنه سرعان ما تغير الوضع، وبدأت مصر تعيش حالة من الاضطراب السياسي، ورجعت قوة المماليك وازداد نفوذهم، وأصبح الولاة العثمانيون مجرد رموز صورية وعرضة للعزل، بل وأصبح الوالي العثماني في القرن الثامن عشر لا يملك سوى لقب “الباشا”.
ولخبرة المماليك في إدارة شؤون البلاد استطاعوا من خلال نفوذهم محاولة استعادة السيطرة على مصر، حتى أصبحت الأمور في أيدي المماليك، الذين كانوا يمتلكون الأراضي الشاسعة، ومن ذلك المحاولة التي نجح فيها علي بك الكبير، الذي استغل انشغال العثمانيين بالحرب الروسية ليستقل بمصر عنهم، كما حاولت الدولة العثمانية الحد من نفوذ المماليك، فأرسلت أسطولًا بحريًّا بقيادة حسن باشا للقضاء عليهم، ووضع إصلاحات جديدة، وإن كانت محدودة، إلا أنه استطاع إعادة مصر إيالة عثمانية مرة أخرى، ويُفهم من تلك الأوضاع أن مصر لم تستقر للعثمانيين.
وقد كان يقيم بمصر في ذلك الحين كثير من الجالية الفرنسية والإنجليزية، ولكن المصريين لم يهتموا لإقامتهم بينهم، بل اكتفَوْا بالنظر إليهم بالازدراء ظنًّا منهم أن دولهم ما زالت على الضعف الذي سمعوه عنهم أيام الحروب الصليبية، ولم يدركوا أن أوروبا أصبحت على قدر من القوة والعلم بالفنون الحربية، وكانت فرنسا قد قويت شوكتها بين دول أوروبا، بعدما دعمها العثمانيون بالامتيازات التجارية منذ القرن السادس عشر الميلادي، وظهر تأثير ذلك واضحًا فيما بعد في قوة فرنسا أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وبروز نفَسها الاستعماري.
ففي أواخر سنة (١٧٩٨) جرَّد نابليون بونابرت حملة عسكرية على مصر، فاحتلها، ودخلت البلاد بذلك في طور التاريخ الحديث بدخول الفرنسيين، وبالرغم من أنهم لم يمكثوا فيها إلا ثلاث سنوات.
وعلى أية حال لم تكن الحملة الفرنسية على مصر غير متوقَّعة، وتشير المصادر التاريخية إلى أن “ليبنتز” -أحد وزراء لويس الرابع عشر- ألحَّ عليه سنة (١٦٧٢) بوجوب غزو مصر، وبيَّن له أن امتلاكها يجعل فرنسا سيدة العالم، وقد رأى ذلك غيرُه من وزراء فرنسا بعده، ولكن فرنسا لم تَخْطُ خطوة في هذه السبيل إلا في عهد نابليون، على أنه لم يُقْدِم على هذه الحملة إلا بعد تفكير طويل، فاستشار العلماء، وقرأ لأجلها الكتب، وبعدئذٍ عرض اقتراحه على هيئة الحكومة الفرنسية مع إيضاح طويل.
أما أهم الأسباب التي حَدَتْ بنابليون إلى الإقدام على هذه الحملة واقتنعت بها الحكومة الفرنسية فهي:
أولًا: رغبته في زيادة نفوذ فرنسا في البحر الأبيض المتوسط، وضم وادي النيل إليها؛ لِمَا فيه من الخيرات الكثيرة التي تُغني فرنسا عن كثير من المستعمرات البعيدة، ولِمَا له من المكانة التجارية العظمى.
ثانيًا: تمهيد الطريق لقهر الإنجليز بطردهم من الهند، واستيلاء الفرنسيين عليها؛ لأن مصر هي مفتاح الطريق إلى تلك البلاد.
وفي الحقيقة كانت لنابليون أطماع كبيرة في الشرق بأسْره، وكانت نفسه تَتُوق إلى أن يقوم بمثل ما فعله الإسكندر من قبله.
كل هذه الاعتبارات، مع ادِّعاء الحكومة الفرنسية أن الجالية الفرنسية المقيمة في مصر قد نالها التعسف والظلم من المماليك، جعلت فرنسا تُجرِّد تلك الحملة العسكرية، وصلت الحملة بدايةً إلى الإسكندرية، حيث نزلت الحملة على سواحلها، ومنها اتجهت نحو القاهرة، ولكن نابليون قبل غزوه القاهرة أرسل منشورًا باللغة العربية جاء فيه قوله: “يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الظرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تُصدِّقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قَدِمت إليكم إلا لأخلصكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم”، وأظهر لهم أنه لم يأتهم غازيًا، وإنما محرِّرًا، وهكذا كان دائمًا أسلوب المستعمر في البداية.
لم يركن المصريون لادِّعاءات نابليون، ففي 21 أكتوبر/تشرين الأول (1798) ثار الشعب المصري على الجيش الفرنسي، بعد أن فرض الفرنسيون ضرائب عالية على المصريين، كي تكفل إمداد الجيش بالمؤن والأموال للمحافظة على سيطرتهم على مصر، بعد تحطم الأسطول البحري الفرنسي وانقطاع الإمداد عنه.
كما قام الجيش الفرنسي أيضًا بهدم الجوامع والمآذن، واعتدى على الحريات العامة، وقتل حاكم الإسكندرية بتهمة معارضته فرنسا، مما دفع المصريين إلى الخروج في انتفاضة كبيرة تجمعت حول جامع الأزهر، وانضم إليها المشايخ والعلماء والأئمة، ثم اتسعت وضمت أحياء القاهرة خلال وقت قصير، واشتبك الثوار مع الجنود الفرنسيين، وقتلوا عددًا منهم.
في 22 أكتوبر/تشرين الأول (1798) توافَد سكان الريف على المدينة، ودار قتال عنيف مع الجيش الفرنسي، وقُتل رئيس أركانه، فبدأت المدفعية الفرنسية تضرب المدينة والثوار والجامع الأزهر والأحياء المجاورة له، وقتل أكثر من 4000 من أهالي مصر.
هذه الخسائر دفعت مشايخ الأزهر إلى طلب الهدنة، فقبل نابليون، وتم الاتفاق على إلقاء السلاح ورفع المتاريس، إلا أنه انقلب على الثوار، فدخلت قواته الجامع الأزهر، وعاثت فيه فسادًا، كما أمر بإعدام عدد من الثوار والعلماء، وقطع رؤوس بعضهم.
تبع ذلك انتفاضة القاهرة الثانية، حيث هرب نابليون سرًّا إلى فرنسا يوم 23 أغسطس/آب (1799)، واستلم قيادة الحملة الفرنسية الجنرال جان بابتيست كليبر، الذي ركَّز جهده على قتال العثمانيين، فانتهز المصريون فرصة انشغال الجيش الفرنسي بقتال العثمانيين، وأعلنوا ثورتهم داخل القاهرة يوم 20 مارس/آذار (1800)، وكان في صفوف الثوار العلماء والتجار والأئمة والأعيان، إلا أن الجنرال كليبر انتهى من قتال العثمانيين، وعاد إلى القاهرة وحاصرها، ودك المدينة بالمدفعية، وانتهى الحصار بهدنة يوم 21 أبريل/نيسان (1800)، وكان من بنود الهدنة خروج العثمانيين وعساكرهم من مصر، وكذا قسم من المماليك وكثير من أبناء أهل مصر، وعُوقِب الشعب بفرض غرامة ضخمة عليه، مما زاد الأوضاع الاقتصادية سوءًا.
- أندرية ريمون: القاهرة.. تاريخ وحضارة، ترجمة: لطيف خبير (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1991م).
- روبية سولية، ترجمة: لطيف فرج، مصر ولع فرنسي (القاهرة: مهرجان القراءة للجميع، 1999م).
- عبد الله عبد الرزاق إبراهيم وآخر، تاريخ مصر والسودان الحديث والمعاصر (القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1997م).
- عبد الرحمن حسن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج3 (القاهرة: دار الكتاب المصرية، د.ت).
- عصام محمد شبارو: المقاومة الشعبية المصرية المقاوِمة للاحتلال الفرنسي والغزو الإنجليزي (بيروت: دار التضامن، 1992م).
- محمد مؤنس: الشرق الإسلامي في العصر الحديث (القاهرة: مطبعة حجازي، 1935م).