خلال كفاحهم للمحتل العثماني
أثبت السعوديون تاريخيًّا أن: منطق القوة لا يمكن أن يهزم قوة المنطق
شهد مطلع القرن التاسع عشر تطورات سريعة متلاحقة، وجاء ذلك بعد أن قامت الدولة السعودية الأولى، وانتشار دعوتها في معظم أجزاء الجزيرة العربية. وبدأ الصدام الحقيقي عندما بدأ السعوديون التمدد في أرجاء وطنهم، مسيطرين على الجزيرة العربية مستردين الحرمين الشريفين من الاحتلال العثماني، كذلك وصولهم إلى حدود ولاة العثمانيين في العراق والشام.
هنا أحس العثمانيون أن الصراع لم يعد صراعًا سياسيًّا مجردًا للسيطرة على الجزيرة العربية، إنما هو صراع فكري أيديولوجي؛ إذ أراد السعوديون نشر الوعي ضد ما كان العثمانيون يؤصلونه من خرافات وخزعبلات في المناطق التي احتلوها من الجزيرة العربية والعالم العربي بشكلٍ عام، كما أن السعوديين كسروا الدعاية الكبرى للعثمانيين في ادعائهم لمنصب الخلافة، والتأكيد عمليًّا على أن هذا المنصب لا ينطبق على سلاطينهم التُّرك.
من هنا بدأت المعارك الحامية بين السعوديين والعثمانيين، وبدأت حملات الترك الفاشلة من خلال بعث ولاتهم في الأقطار العربية التي أصبحت حدودها على تماسٍ مع الدولة السعودية الأولى، فمن فشلِ والي العثمانيين في العراق إلى تقاعس واليهم في الشام عن المواجهة؛ أمرت الدولة العثمانية واليها على مصر محمد عليّ بمواجهة السعوديين.
وبدايةً عانى طوسون باشا ابن محمد عليّ في مواجهة قوات الدولة السعودية الأولى، واستمرت معاناته منذ أن نزلت قواته سواحل الحجاز وقدمت من الشمال الغربي برًّا، لذلك أراد محمد علي أن يُحدِث تغييرًا بإرسال ابنه الآخر إبراهيم باشا، الذي كان أكثر إلحاحًا وجُرمًا وعنفًا من طوسون، والذي ألحَّ على والده والدولة العثمانية بإرسال المزيد من المقاتلين والعتاد والمدافع، الأمر الذي مكنه من إسقاط عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية عام (1818م) بعد أن رأى مقاومة السعوديين الشرسة من أصغر بلدة إلى أكبر مدينة، وخسر خلالها أشرس رجاله وأقربهم إلى قلبه وخسر الآلاف من المقاتلين الذين كان أغلبهم من المأجورين المرتزقة بعد معارك حامية.
تمسك السعوديون بوطنهم رغم سقوط الدرعية سنة (1818م)... لذلك تعجب المؤرخون من سرعة قيام الدولة السعودية الثانية خلال سبع سنوات في (1825م).
هذه المعارك ترتبت عليها العديد من النتائج الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ من زيادة الوعي وتشكُّل مفهوم الوطن في أرواح الناس إلى إيمانهم بحقيقة نقاء دعوتهم وخلوها من الخرافة المدعومة من التُرك، وما ترتب على حروب الغُزاة من خسائر اقتصادية جمة، وجرائمهم في حق الناس، التي تمثلت بالقتل والتمثيل والإرهاب، ومحاولة إحداث المجاعة بحرق أشجار النخيل التي شاعت آنذاك باعتبارها أحد أساليب جيش إبراهيم باشا التي طبقها في كل بلدة تسقط في يديه، ولأن النخيل من أهم الثروات الاقتصادية الكبرى في الجزيرة العربية حينها، كما تأثرت طرق القوافل سواءً في الحج أو التجارة بشدة، حيث إن هذه القوافل كانت رافدًا مهمًّا من روافد الاقتصاد لسكان الدولة السعودية الأولى.
ويصف المؤرخ عثمان بن بشر الأوضاع المضطربة في أعقاب سقوط الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية قائلاً: “كانت هذه السنة، كثر فيها الاختلاف والاضطراب، ونهب الأموال، وقتل الرجال”، ويؤكد على المتغيرات السياسية المترتبة على ذلك قائلاً: “وتقدم أناس وتأخر آخرون وذلك بحكمة الله سبحانه وتعالى، وقد انحل فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة”. كما يشير إلى انعكاس كل ذلك على الأوضاع الدينية والعدلية قائلاً: “وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة”، ويوضح حالة الفراغ السياسي، وما ترتب عليها من انعدام الأمن وأوضاع الناس “وسُلّ سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في جوف بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان وتطاير شرر الفتن في الأوطان”.
ما أحدثه العثمانيون من فوضى بعد سقوط الدولة السعودية الأولى (1818م) كان أقصى طموحات ثقافتهم في التشفي والتدمير ومحاربة الناس بأرزاقهم وقطع نخيلهم.
ويقف المؤرخون عند قضية وملاحظةٍ مهمة وهي سرعة قيام الدولة السعودية الثانية بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، ويسوغون ذلك بقوة ما زرعه السعوديون من معانٍ وطنيةٍ واستنادهم إلى الإيمان بقوة وطنهم ومعتقدهم؛ ليعطوا درسًا للتاريخ بأن منطق القوة لا يمكن أن يهزم قوة المنطق؛ إذ ربما تُوَجَّه ضربات قوية لها مثلما حدث مع سقوط الدرعية وحتى مع الإمساك بالإمام عبدالله بن سعود وخيرة أتباعه وإرسالهم إلى إسطنبول بعد الاستسلام حقنًا للدماء إلا أن الدولة التي بناها السعوديون سرعان ما عادت من جديد.
- أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).
- ألويس موزيل، آل سعود، ترجمة: سعيد السعيد (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2003).
- بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005م).
- جورج سادلير، رحلة إلى الجزيرة العربية، ترجمة: عيسى أمين (بيروت: المؤسسة العربية، 2000م).
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971م).