"الامتيازات الإنجليزية في الدولة العثمانية وأثرها على منطقتنا العربية"

طرح المؤرخ اليوناني “ديمتري ليتسيكس Dimitri Kitsikes” في كتابه ” تاريخ الإمبراطورية العثمانية” تساؤلًا مهمًّا عندما قال: “فيما إذا كان نظام الامتيازات التجارية، الذي منحه العثمانيون لأوروبا، هو السبب الرئيس في استعمار أوروبا الاقتصادي للإمبراطورية العثمانية”؟ وقد نتفق معه كثيرًا مع ما ذكره؛ لما فيه من الواقعية والحقيقة في التاريخ العثماني، فمن ينظر في تاريخ الدولة العثمانية وبمراحلها المتعددة من حالة القوة والانتشار، ثم مرورها بمرحلة الهدوء والسكون، وانتهاءً بحالة الضعف والانحطاط، سوف يدرك أن نظام الامتيازات التجارية الذي كان في يوم الأيام أحد عوامل القوة السياسية والاقتصادية في مرحلة القوة للدولة العثمانية هو نفسه العامل الذي أودى بها إلى حالة من الضعف والاندحار، ثم الوصول بها إلى النهاية الحتمية – بدايات ونهايات – للدول والممالك في التاريخ.

إذًا فالامتيازات التجارية للوهلة الأولى كانت وسيلة ناجعة لتحقيق أهداف الدولة العثمانية السياسية والاقتصادية منذ منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، اعتمدت عليها الدولة العثمانية للحصول على توازُن بين مختلف القوى الأوروبية المحيطة بها، كالاتفاقية التجارية مع مدينة جنوة، التي بموجبها أعطتها امتيازات تجارية؛ كونَها منافسة للبندقية عدوِّ الدولة العثمانية، وقد استمر العثمانيون في اتِّباع ذات النهج في مراحل قوتهم، وجعلوا منه سلاحًا سياسيًّا في التدخل في الشؤون الأوروبية.

ومع التوسع العثماني خلال القرن السادس عشر، وازدهار الدول القومية في أوروبا، كفرنسا وبريطانيا وهولندا والبرتغال وإسبانيا وألمانيا، فقد لعبت الامتيازات التجارية الموقَّعة بين هذه الدول دورًا  في العلاقات بين الشرق والغرب؛ إذ سارعت الدول الأوروبية  للارتباط بالشرق بمعاهدات واتفاقيات دبلوماسية ذات أهداف تجارية، فحقَّقت بذلك مكاسب تجارية كبيرة من تجارة الشرق، فمنح العثمانيون التجار الأجانب امتيازات خاصة، كإعفائهم من الخضوع للولاية القضائية، وتنفيذ القوانين في الأراضي التركية، إضافة إلى أن الرعايا الأجانب المقيمين في الدولة حصلوا على مثل تلك المميزات من عدم الخضوع لسلطات التشريعات العثمانية، كالقضاء والضرائب، بل سمحت الدولة العثمانية بعقد محاكم خاصة لأولئك الأجانب، إضافةً إلى التسهيلات التجارية في المدن والموانئ العثمانية المختلفة.

ومع ضعف الدولة العثمانية، وظهور الدولة القومية الأوروبية تحوَّلت الامتيازات إلى مصلحة أوروبية بحتة، فقد غدت هذه الامتيازات سببًا رئيسًا لتدخل تلك الدول في شؤون الدولة العثمانية، خاصة في القرن الثامن عشر الميلادي، وعادت لآثار سلبية عديدة أضعفت الدولة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، فعملت الدول الأوروبية على استغلال تلك الامتيازات من أجل التوغل في الأراضي العثمانية وإضعافها من الداخل، فكانت سلبية الامتيازات أكثر من إيجابياتها، حيث أصبحت أحد أهم أدوات السيطرة على مقدرات الدولة العثمانية في مراحلها الأخيرة. 

ومن الدول الأوروبية التي استفادت من نظام الامتيازات بريطانيا، التي أخذت العلاقة العثمانية البريطانية فيها مسارًا جديدًا، حيث دخلت إنجلترا حيِّز التنافس الاقتصادي منذ عهد مبكر، خاصة في المجال التجاري عن طريق حصولها على الامتيازات، فكانت المحاولة الأولى عن طريق التجار من قِبَل التاجر “أنتوني جنكسون” عام 1553م، الذي قابل السلطان سليمان القانوني في حلب، وحصل “جنكسون” على امتيازات واسعة في جميع أنحاء الدولة العثمانية، حيث منح العثمانيون أول امتياز تجاري عام 1580م، ثم أتبَعوه بامتياز آخر بعد ثلاث سنوات، وبموجبه سُمح للتجار الإنجليز بالتجارة والبيع والشراء تحت الحماية العثمانية، وأصبح لهم قناصل في إستانبول وأزمير وحلب والإسكندرية.

وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادي تبنَّت بريطانيا سياسة تعزيز نفوذها داخل الدولة العثمانية، والحد من نفوذ الدول الأوروبية الأخرى التي تهدد مصالحها في الهند، فاستغلت التطورات السياسية التي مرَّت بها الدولة العثمانية أمام تطلعات محمد علي باشا نحو الاستقلال والانفصال عن الدولة العثمانية، وفرضه نظامًا اقتصاديًّا جديدًا امتد أثره إلى دول شرق البحر الأبيض المتوسط، ودخل في منظومة المنافسة الاقتصادية مع بريطانيا، مما اعتبروه  احتكارًا تجاريًّا ضدهم وضد مصالحهم الاقتصادية في الشام، إضافة إلى التطورات العسكرية التي شنَّها محمد علي باشا على  أراضي الدولة العثمانية، جعلت بريطانيا تستغل الموقف لتطالب بالمزيد من الامتيازات التجارية، فوقَّعت مع السلطان العثماني المعاهدة التجارية البريطانية 1838م، حقَّقت بريطانيا منها مكاسب وامتيازات سياسية مؤثرة داخل الدولة العثمانية على حساب القوى الأوروبية الأخرى، وكان لها بالغ الأثر على تدخلاتها لاحقًا في الشام ومصر والعراق، ولتضع أساسًا خصبًا لحقبة الاستعمار في بدايات القرن العشرين.