زرائب العبودية في التاريخ العثماني
.. استعباد للجنس والعمل والحروب!!
في المجتمع “العثماني” العنصري. شديد التعصب للعرق التركي، كان لابد للطبقات الفقيرة المسحوقة اجتماعيًّا، الباحثة عن فرص للحياة والحماية والمال والصعود الاجتماعي من الدخول إلى عالم (العبيد والحرملك والإنكشارية) ، إنها الخلطة التي رسمت معالم السلطنة طوال عقود، لقد دفع ذلك الأمر الأسر إلى محاولة تسلق السلم الاجتماعي من خلال وهب بناتهن وأولادهم عبيدًا لدى الأمراء العثمانيين.
لم تكن العبودية في السلطنة، سلوكًا بشريًّا مجردًا كما هو الحاصل بين الأمم الأخرى، بل تحول إلى سياسة ممنهجة لها جذرها وعمقها داخل مفاصل الحياة العثمانية، بل صدرت القوانين و”الفرمانات” التي تنظم وتشكل أعمالها، وكذلك التي تنظم طبقات العبودية فيما بينها، فالعبد المخصي جزئيًّا يختلف عن العبد المخصي بالكامل، والعبد الأوربي يتسيد العبد الأفريقي، والفتاة المحظية التي تصبح من خواص السلطان تتحول إلى مرتبة أعلى من غيرها.
ومن الغريب جدًّا أن العبيد في الدولة العثمانية كانوا في سلمٍ نحو الترقي والنجاح في مجتمع عنصري يرى أن العرق التركي هو العرق الناجي الوحيد الذي يستحق الحياة الكريمة.
كان مجتمع العبيد متنوعًا بتنوع الحاجة إليه، فالعبيد الإنكشاريون – وهم جيش من العبيد-، جُلبوا في أغلبهم من الأطفال الأوربيين والعرب، حيث يجري اختطاف صغار السن من بين أسرهم عنوة ومن ثم تحويلهم إلى مجندين صغارًا في جيش الإمبراطور العثماني، كان استعبادًا عسكريًّا محضًا، إذ ينقطع الطفل عن أسرته ويتعلم التركية وتصبح حياته مُسَخَّرة لخدمة سيده التركي وحمايته والقتال والموت بدلاً عنه، كانوا يشكلون أهم وأقوى فرق الجيش العثماني وعليهم يعوَّل، إذ يُربَّون على السمع والطاعة المطلقة، فلا ولاء لهم إلا للسلطان.
لم يكن ذلك هو المورد الوحيد للأطفال العبيد، بل طبقت الدولة العثمانية على المناطق المحتلة وخاصة في دول البلقان وأوربا، ما يعرف بضريبة البشر “الدوشيرمة”، حيث تجبر العائلات في المناطق المحتلة على تسليم بعض أبنائها سنويًّا كضريبة حياة، إلى العثمانيين ليتحولوا تلقائيًّا إلى عبيد في السلطنة، ومن ثم يتحولون إما إلى إنكشاريين أو خدم في القصور.
في مجمل عمليات الخطف كان هناك عشرات الآلاف من الفتيات الصغيرات، اللاتي يُسرقن من أحضان أمهاتهن، ويتم استحلالهن من قادة الجيش وكبار رجال الدولة أو أبناء الأسرة العثمانية الحاكمة، لتبدأ رحلة الاستعباد “الجنسي” لهن، وهي رحلة طويلة من العذابات لا رحمة فيها، حيث تسخر الطفلة منذ وصولها إلى القصور للمتعة والجنس.
الفتيات الجميلات يلحقن بقصور أمراء بني عثمان، ولهن عدة أدوار منها مرافقة الأميرات وخدمتهن، أو يوجهن إلى الأمير العثماني ليصبحن ضمن جواريه.
وكان معظم العبيد يتشكلون من يونانيين وجورجيين وأرمن وشركس وعرب، وكذلك أفارقة يتم جلبهم من جنوب الصحراء الكبرى.
لقد شكلت “العبودية في السلطنة العثمانية، بنية اجتماعية عميقة ومؤثرة داخل طبقات الحياة، في مجتمع اتسم بالسرية والانغلاق، وبرز ذلك بشكل حاد في الجيش وقصور السلاطين والأمراء، إذ تحول بعض العبيد والإماء إلى أصحاب نفوذ وقوى محركة ذات ميزات اجتماعية لا يمكن تجاهلها.
بل إن أمهات بعض السلاطين كن من الجواري اللاتي سُبين وهن صغيرات، ليصبحن فيما بعد محظيات، ويبدأن في ممارسة سلطة حرمن منها طويلاً، وتسببن في نزاعات واغتيالات وخلع للحكم داخل البلاط السلطاني، إما بسبب إنجاب الأمراء، أو بسبب وقوع السلاطين في حبهن.
استخدم العثمانيون نظامًا غريبًا خالفوا فيه الشريعة الإسلامية التي زعموا تطبيقها، ففضلا عن سرقة الأطفال الصغار واختطافهم من القرى والبلدات المحتلة، كان يتم (خصي) الأطفال الذكور ليتمكنوا من الخدمة في القصور بين النساء، لقد كانت تجارة رابحة إذ يتم تدويرهم في أسواق النخاسة في المدن من إسطنبول إلى المدن المحتلة دمشق والقاهرة وصولاً إلى مكة المكرمة.
حاولت أوربا جاهدة إيقاف تجارة الرقيق الممنهجة التي أدارتها السلطنة العثمانية، وفرضت على “الآستانة” التوقيع على معاهدة بروكسل العام 1890 لتجريم الرق، تلك الاتفاقية حدت كثيرًا من الاستعباد الرقيق الأوربي، لكنها لم تحد من السلوك العثماني في استعباد العرب.
لقد وصف كثير من الباحثين العرب كيف حولت السلطنة العثمانية “ليبيا” إلى مستوعب كبير للعبيد، بحكم موقعها الجغرافي وتوسطها بين مناطق النفوذ العثمانية، وبنى العثمانيون ما يسمى بزرائب العبيد، حيث يتم تجميع العبيد السود المجلوبين من وسط أفريقيا، بجانب العرب والأمازيغ، وترحيلهم بعد ذلك إلى إسطنبول.
لم تكن تلك العملية المنظمة، هي لجلب العبيد فقط، بل للمتاجرة بهم أيضًا، لقد تحول بيع الأطفال والفتيات المخطوفين ممن تقطعت بهم السبل وأصبحوا تائهين في الصحراء الليبية، متراكمين في “زرائب العبيد” في انتظار مصيرهم المشؤوم، إلى تجارة رابحة تدر ملايين الليرات العثمانية على عمال السلاطين وتجار الحروب ولخزينة السلطنة نفسها.
نظام العبودية الصارم الذي بناه العثمانيون لخدمتهم، وضمان ضخ بشري دائم “للجنس والعمل والقيام بأعمال الحروب بالنيابة”، شكل واحدة من العلامات السوداء في تاريخ السلطنة العثمانية، فقد كان الاستعباد موجودًا ومتعارفا عليه في التاريخ الإنساني، لكنه في أغلبه قام على عصابات تخطف الأطفال والفتيات والأحرار لبيعهم والتكسب منهم، إلا عند العثمانيين الذين قاموا بسن القوانين والتشريعات التي قنَّنت تلك العبودية وضمنت استمرارها ونشرها وتسخيرها لخدمة العنصر التركي.