أربكان والمشكلة الكردية
لا تزال المسألة الكردية تمثل مشكلة مزمنة منذ تأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الدولة العثمانية، ويُرجِع البعض هذه المشكلة إلى زوال الرابط الديني الذي يلعب دورًا مهمًّا في انخراط الأكراد في زمام الدولة العثمانية، باعتبارها راعية للإسلام السُني. ومن ناحية لم تنجح الجمهورية التركية في جعل المواطنة هي الرباط الجديد الذي يجمع “الترك والكرد” في دولة جديدة علمانية، رغم محاولات أتاتورك العديدة في هذا الشأن. لكن إهمال تركيا الحديثة للحقوق الثقافية للأكراد، لا سيما ما يتعلق باللغة والأعياد والتقاليد الكردية، أدى إلى تفاقم الأمر، وظهور تيار كردي متطرف هو حزب العمال الكردستاني، الذي يرفع السلاح في وجه الدولة، ولذلك تعتبره الحكومة التركية منظمة إرهابية، بينما يلقى ترحيبًا في أوساط قطاعات عديدة من الشباب الكردي.
ومع ظهور الإسلام السياسي في الحكم في تركيا، لا سيما على يد نجم الدين أربكان، عادت أطروحة كون “الإسلام” هو أساس المواطنة، ورابطة وطنية تجمع من جديد بين “الترك والكرد”. وبالفعل بدأ نجم الدين أربكان وعبر رسائل غير مباشرة، واتصالات سرية، منذ عام 1997 في فتح حوار مع الأكراد، ولا سيما العناصر القومية في صفوفهم، في محاولة لإيجاد صيغة جديدة تعيد اللُحمة من جديد بين المجتمعات في تركيا، لا سيما “الترك والكرد”. لكن محاولات أربكان باءت بالفشل الذريع، بل تصاعدت المشكلة الكردية، واضطر أربكان إلى التخلي عن هذه المبادرة. ويُرجِع الإسلاميون الأتراك فشل هذه المبادرة إلى الضغوط المتزايدة من الأحزاب القومية اليمينية التركية، وإلى تدخلات جنرالات الجيش التركي، الرافضة فتحَ حوارٍ مع من يُطلق عليهم “الإرهابيون الكرد”، لكننا لا نستطيع أن نُلقي باللوم على الأحزاب القومية أو المؤسسة العسكرية التركية فقط؛ إذ يتحمل أربكان نفسه وحزبه قدرًا لا بأس به من فشل إعادة تطبيع العلاقات بين “الترك والكرد”، إذ إنه استمر في اتباع السياسة القديمة تجاه الأكراد، ولم يستطع أن يخرج من الصندوق، أو أن يقفز إلى الأمام، ويقدم حلولاً جديدة لمعالجة المشكلة الكردية.
وربما يتضح ذلك إذا قمنا بتحليل أحد خطابات أربكان التي تناول فيها المسألة الكردية؛ إذ وقع أربكان أسيرًا للنظرة الرسمية التقليدية، وهي النظر إلى الأمور وتفسيرها من خلال نظرية المؤامرة، لا سيما المؤامرة الخارجية.
في هذا الخطاب يشير أربكان إلى تقرير عسكري أمريكي، لا نعلم شيئًا عن صحة وجوده من عدمه. في هذا التقرير ووفقًا لأربكان تقترح العسكرية الأمريكية في سنوات التسعينات، بعد ضرب صدام حسين، قيام دولة كردية في كردستان العراق، لملء الفراغ في المنطقة بعد سقوط نظام صدام، وأن تُسَلَّح هذه الدولة بأسلحة يُستولى عليها من مخازن الأسلحة العراقية. ووفقًا لأربكان تطمح أمريكا إلى توسيع حدود هذه الدولة الكردية الوليدة وتقويتها عن طريق ضم أجزاء من “كردستان تركيا” إليها، وربما أيضًا مناطق من كردستان سوريا. ويشير أربكان إلى أن أمريكا بتحالفها مع الأكراد تعلم أنها ستُغضِب كلاً من تركيا والعراق، وأيضًا إيران وسوريا، ولكن تعتقد أمريكا أن الدولة الكردية الجديدة ستفرض نفسها في المنطقة بمساعدة أمريكا، بل ستكون الذراع اليمنى الجديدة لأمريكا في المنطقة!
هنا ندرك أن أربكان لم يخرج كثيرًا عن الخطاب الرسمي التقليدي، وتبنى نظرية المؤامرة، ومن ثم تعاون الأكراد- أو على الأقل قطاعات لا بأس بها منهم- مع العدو الخارجي، مما يشكل خيانة للدولة التركية و”الوطنية التركية”. وهكذا كان طَبَعِيًّا أن تفشل الاتصالات غير المباشرة بين أربكان والتنظيمات الكردية، ليس بسبب الأحزاب القومية التركية فقط، ولا المؤسسة العسكرية التركية، ولكن لأنه ليس هناك جديد يقدمه أربكان من أجل معالجة المشكلة الكردية.
إنه من المهم تجاوز الخطابات السياسية القديمة، وتحجيم النظر إلى المشكلة الكردية على أنها مواجهة أمنية مع الإرهاب، والأفضل الانتقال إلى المستقبل من خلال زيادة المشاريع التنموية في الولايات الكردية، وتوسيع مجال الحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، وتطبيق الحكم المحلي في الأقاليم الكردية وفقًا لمعايير الاتحاد الأوروبي، كل ذلك سيساعد على المزيد من إدماج الأكراد في بنية الدولة التركية، وتجاوز الماضي إلى مواطنة جديدة أكثر واقعية.