أرطغرل:

قيامة الأساطير!

“كثيرًا ما تروج الأساطير والأكاذيب، وتتوارى حقائق التاريخ”، هذه مقولة يعرفها جيدًا المؤرخون، فإذا كنا نقول إن أعذب الشعر أكذبه، فإن الأسطورة هي أعذب التاريخ. ويتفاقم الأمر عندما تكون هناك آلة دعاية ضخمة تروِّج لهذه الأسطورة، بل وتعمل لتوظيفها لخدمة نظام سياسي ما.

وتعتبر سيرة أرطغرل، القائد التركي، خير مثال على صدق المقولة السابق الإشارة إليها. ويرجع السر وراء تضخيم دور أرطغرل إلى كونه والد الأمير عثمان، أو عثمان بك، الذي تُنسَب إليه الدولة العثمانية، وبالتالي كان من المهم صناعة الأساطير حول أصل الدولة العثمانية.

والأمر الجدير بالملاحظة هنا أننا لا نملك في حقيقة الأمر معلومات تاريخية مؤكدة حول سيرة أرطغرل، لدرجة أنه هناك خلاف حول من هو أبوه، هل هو سليمان شاه التركماني؟ أم كندز آلب؟ والأمر المثير أيضًا أننا نكاد لا نعثر على معلومات مؤكدة حول أرطغرل في المصادر البيزنطية والعربية المعاصرة له، أي في القرن الثالث عشر الميلادي. ويشير هذا الأمر إلى حقيقة واحدة وهي محدودية الدور التاريخي لأرطغرل، إن لم يكن عدم وجود دور تاريخي له من أصله، لأنه لو كان لعب دورًا تاريخيًا، أو قام بحدث كبير لورد اسمه على الأقل في هذه المصادر التاريخية الموثوق بها، سواء المصادر البيزنطية، وهي مصادر معادية، وبالتالي كان من الأجدر أن تذكر اسمه كعدو، أو حتى المصادر العربية، وهي مصادر محايدة وحريصة على ذكر الوقائع التاريخية، ولا سيما أن هذه المصادر مليئة بالأخبار عن العالم البيزنطي، وعن المغول، والسلاجقة، والعالم التركي بشكلٍ عام.

الأمر الآخر الجدير بالملاحظة والتدقيق التاريخي أن السجلات العثمانية التي يرد فيها ذكر أرطغرل وأدواره التاريخية، لا ترجع إلى عصر أرطغرل نفسه، بل تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، أي أنها كُتِبَت بعد أرطغرل بعشرات السنين، بل ما يقارب القرنان من الزمان! وتتسم هذه السجلات العثمانية فيما يتعلق بتاريخ أرطغرل بروح السير الشعبية، ويسود فيها طابع الأسطورة. ويرى جُل المؤرخين أن هذه السجلات وهذه السير الشعبية ذات الطابع الأسطوري منحولة، أي أنها وُضِعَت في القرن الخامس عشر الميلادي، وبعد قيام الدولة العثمانية واستقرارها وازدهارها، في محاولة لصناعة تاريخ مقدس لها، يبرر كيف استطاعت قبيلة صغيرة أن تحارب وتفرض نفوذها على القبائل التركية المجاورة، وأن تسيطر على أملاك الدولة البيزنطية، وأن تمد سيطرتها إلى البلقان. كانت هذه الأساطير حول أرطغرل، وحتى عثمان، هي محاولة صناعة تاريخ مقدس، ليعطي مشروعية سياسية ودينية لقيام الدولة العثمانية.

ويحاول بعض المؤرخين الأتراك، والمؤرخين من أصحاب تيار الإسلام السياسي تبرير عدم وجود مصادر عثمانية ترجع إلى زمن أرطغرل، بمقولة أن تيمورلنك القائد المغولي قام بحرق السجلات العثمانية أثناء اجتياحه الأناضول. لكن هذا الادعاء يرجعنا مرة أخرى إلى ما ذكرناه من قبل من حقيقة أن كلاً من المصادر البيزنطية والعربية تخلو من أي وقائع تاريخية تُذكَر لأرطغرل. وعلى هذا يبدأ المؤرخون الثقات، وحتى الأتراك منهم، تاريخ الدولة العثمانية بالحديث عن عثمان، ولا يذكر أرطغرل إلا في أسطر قليلة، تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة. وسواء بالنسبة لأرطغرل، وحتى بالنسبة لعثمان، يؤكد هؤلاء المؤرخون على حقيقة ثابتة وهي أن تاريخ بدايات الدولة العثمانية يتسم بالضبابية والغموض.

ورغم كل هذه الحقائق التاريخية حول الغموض الذي يلف تاريخ أرطغرل، وجدنا الإعلام التركي يخرج علينا بمسلسل تليفزيوني ضخم الإنتاج، وصلت حلقاته إلى حوالي 150 حلقة، وامتد عرضه عبر 3 مواسم، يروي فيه سيرة أرطغرل أو ما أطلق عليه صناع المسلسل “قيامة أرطغرل”!

ويتساءل المرء من أين أتى صناع المسلسل بالمادة التاريخية اللازمة لكتابة السيناريو والحوار؟ وخاصةً كما أشرنا من قبل أن كل ما يقدمه لنا التاريخ حول أرطغرل لا يتعدى أسطر قليلة. من هنا وجه الكثيرون سهام النقد إلى المسلسل، ونظروا إليه على أن كل ما جاء فيه هو من خيال كاتب ومخرج المسلسل، ولا يمت إلى التاريخ بصلة.

وحاول المسلسل صناعة تاريخ مقدس لأرطغرل حيث تم ربط تاريخه بتاريخ القطب الصوفي الكبير ابن عربي، ولجأ المسلسل إلى النبوءة وصناعة الأسطورة، بمنح ابن عربي البشارة إلى أرطغرل بأن من نسله سيكون عثمان، الذي يقيم “دولة إسلامية” كبرى، تقوم على الغزو والجهاد، وتفتح العالم! بينما حقائق التاريخ توضح أن ابن عربي لم يقابل في حياته أرطغرل.

في الحقيقة قامت الميديا التركية بصناعة أسطورة “قيامة أرطغرل” والترويج لها، وإبهار المشاهد بهذا الإنتاج الدرامي الضخم، ضمن حملة الدعاية المنظمة من أجل الترويج الآن لـ”النموذج التركي” في منطقة الشرق الأوسط، ولخدمة أغراض سياسية واقتصادية بحتة، لا علاقة لها بحقائق التاريخ.