الحركات الباطنية والإسلام
الطابور الخامس
يختلف المؤرخون فيما بينهم في الحديث عن الأصول الفكرية للحركات الباطنية؛ فرجَّح فريق منهم أن مَرَدَّ هذه الحركات إلى الصابئة في حران، بينما يُرَجِح فريق آخر التأثير المجوسي في نشأتها.
والحق أن هذه الحركات الباطنية الفارسية ادعت الانتساب إلى الإسلام، لكنها في حقيقة الأمر استخدمت الإسلام- للأسف الشديد- ثوبًا تتستر وراءه من أجل زرع الفتن ومحاولة هدمه من الداخل، من خلال توظيف أفكار مجوسية ويهودية، وبعض من الفلسفة اليونانية.
من هنا يمكننا أن نُشَبِّه الحركات الباطنية الفارسية في التاريخ الإسلامي بأنها كانت بمنزلة “الطابور الخامس”. ومصطلح “الطابور الخامس” من المصطلحات المهمة في الدراسات التاريخية والاستراتيجية. وظهر هذا المصطلح لأول مرة في أثناء الحرب الأهلية الأسبانية 1936- 1939. وأول من أطلق هذا المصطلح هو الجنرال إميليو مولا، وهو قائد القوات الوطنية الأسبانية التي كانت تزحف إلى مدريد. وكانت تلك القوات العسكرية آنذاك أربعة طوابير، فقال مولا: إن هناك طابور خامس داخل مدريد نفسها، من أهلها يعمل معه، كناية عن أن السقوط الأصعب سيكون من الداخل. واشتهر هذا المصطلح بعد ذلك واستخدم للتعبير عن الخيانة من الداخل، والعمل على إسقاط الدولة.
وبالفعل يمكننا أن نطلق -بكل أريحية- على هذه الحركات الباطنية الفارسية وصف “الطابور الخامس”؛ لأن هدفها الحقيقي كان هدم الإسلام من الداخل. ويمكن أن نتبين ذلك بوضوح إذا أدركنا أن هذه الحركات تَسَتَّرت -للأسف- وراء شعار حب آل البيت. وانطلقت هذه الحركات من وراء هذا الشعار إلى محاولة تحريف العقائد الإسلامية الصحيحة من خلال طرح مفهوم غريب عن الإسلام، وهو مفهوم “الباطن”؛ إذ رفضت صحيح تفسير النصوص الدينية، وقالت إن ذلك التفسير هو تفسير ظاهري، وادعت أن هناك منهج باطني لتفسير النصوص، على نحو يسعى في نهاية الأمر إلى نسخ الشريعة، لصالح الترويج إلى فكرهم الباطني، القائم على التأويل استنادًا إلى خليط غريب متنافر من أفكار ديانات الفرس القديمة، واليهودية، والفلسفة اليونانية عند الحاجة.
كما نادت هذه الحركات الباطنية -وهم من غلاة الشيعة- بولاية الفقيه، وبأن الفقيه هو الوحيد المُخَوَّل بتفسير النصوص الدينية، وبذلك خرجت هذه الحركات عن مفهوم أهل السنة والجماعة، كما أصبحت هذه الحركات على هذا النحو تمثل خروجًا على الدولة الإسلامية الجامعة؛ إذ إنها ضد مفهوم الخلافة. ووصل الأمر ببعض هذه الحركات إلى ادعاء الألوهية لأئمتهم مثلما أعلن بعض دعاة فرقة الإسماعيلية من الفرس بألوهية الحاكم بأمر الله الفاطمي.
وتدعي هذه الحركات انتسابها إلى الإسلام، ومع ذلك تطرح بعض الأفكار المنافية للعقيدة الإسلامية؛ إذ رفضت بعض هذه الحركات الباطنية فكرة “المعاد”. كما روج بعضهم لفكرة “التناسخ”، أي تناسخ الأرواح سواء بين الإنسان والإنسان، وهذا ما تقول به فرقة الإسماعيلية وفرقة الدروز، أو حتى بين الإنسان والحيوان وهذا ما قالت به فرقة النُّصيرية.
وتأكيدًا لمفهوم الطابور الخامس الذي صنفنا به الحركات الباطنية؛ لأنها تعمل من داخل الإسلام من أجل هدمه، يُجمِع ثقات المؤرخين العرب على الأثر الفارسي العنصري المتطرف في نشأة هذه الحركات الباطنية، وأنها وإن تظاهرت بالإسلام علانية، إلا أن الهدف الخفي لها -في حقيقة الأمر- هو “هدم السلطان العربي الإسلامي، وهدم الإسلام من الداخل”.