الباطنية
أساس التنظيم السري الإرهابي في تاريخ الدولة الإسلامية
اهتم الباحثون كثيرًا بدراسة الأثر السلبي للفرق الباطنية على الفقه والفكر الإسلامي، ولم يهتموا بتناول التداعيات السياسية لهذه الفرق الباطنية الخارجة عن إجماع الأمة الإسلامية. وبالقطع فقد قامت هذه الفرق بكثيرٍ من الهرطقة في مجال الفقه بدعوتها إلى المفهوم الغامض الغريب عن الإسلام، وهو مفهوم “الباطن”؛ إذ رفضت هذه الفرق ما أجمع عليه علماء الأمة من تفاسيرٍ للنصوص، ونادوا بأن ما قام به علماء الأمة ما هو إلا “الظاهر” من النصوص، وأن علينا التعامل مع هذه النصوص بالأخذ بمفهوم “الباطن”، مما فتح الباب على مصراعيه للعديد من الهرطقات في تفسير النصوص.
الآثار السلبية للفرق الباطنية في التاريخ السياسي، أحدثت شرخًا في وحدة العالم الإسلامي وبثت التجزئة في أرجائه، كما دفعها حقدها على الدولة العربية الإسلامية إلى تعاملها مع أعداء مسلمي العرب ومناصرتها لهم.
بدايةً تستَّرت الفرق الباطنية وراء الدعوة إلى مناصرة أهل البيت، وأحقيتهم في الحكم. ونسي هؤلاء أن الدعوة العباسية في مهدها كانت هي التي رفعت شعار الحكم لآل البيت، وأن الفرس الذين خرجت منهم بعد ذلك معظم الفرق الباطنية، ناصروا الدعوة العباسية. وعندما نجح العباسيون وقامت دولتهم؛ ظن الفرس أن الفرصة قد حانت لإعادة سلطانهم القديم، لكن الخلفاء العباسيين رفضوا مراكز القوى الفارسية الجديدة. وعلى ذلك أعاد الخلفاء الهيبة من جديد للدولة العربية الإسلامية. من هنا ازداد نشاط الفرق الباطنية الفارسية لإضعاف دول العرب.
ويسجل لنا التاريخ العديد من الأمثلة عن البعد السياسي للفرق الباطنية، رغبةً في إعادة الحكم الفارسي، وزوال الدولة العربية، أو على الأقل إضعافها من أجل السيطرة على الحكم من الداخل. ففي أعقاب القضاء على أبي مسلم الخراساني على يد الخليفة المنصور، حتى لا يكون للحكم “رأسان”، تمرد بعضهم في إقليم خراسان على الدولة العباسية، وتزعم هؤلاء من يُدْعَى “سنباد”. وتصف بعض المصادر “سنباد” بأنه كان مجوسيًّا ولكنه ادعى الإسلام، ويرى حسين مجيب المصري أن “ما نسب إلى سنباد بأنه كان مجوسيًّا احتمال ضعيف، ولعله كان على مذهب نصف فارسي، وهذا المذهب لا يعتبر مذهبًا إسلاميًّا في الرأي الغالب”. وهكذا يحدد المصري هوية سنباد بأنه كان من الفرق الباطنية التي حاولت خلط الإسلام بالتعاليم المجوسية الفارسية القديمة. وتنتهي قصة سنباد بالقضاء عليه وعلى فتنته على يد الخليفة المنصور.
ويحدثنا التاريخ عن بني بويه، وهم من الفرس الذين سيطروا -في حقيقة الأمر- على مقاليد الحكم في بغداد بالقوة العسكرية. وأخذوا يتلاعبون بالخلفاء العباسيين، بالعزل والتولية وفقًا لمصالحهم الخاصة، وأغراضهم العنصرية. ولا شك أن هذا الأمر ساهم -إلى حدٍ بعيد- في إضعاف الدولة العباسية، إلى أن وصلت إلى مرحلة من الضعف سمحت للتتار بعد ذلك باقتحام بغداد، وتخريب أحد أهم معاقل الحضارة الإسلامية.
ولم تكتف الفرق الباطنية بالعمل لإضعاف الدولة العباسية، وتهديد وحدة العالم الإسلامي، وإنما لجأت إلى التحالف مع أعداء الأمة. ولعل في حركة بابك الخرمي أسوأ أُنموذج على ذلك؛ إذ خرج الأخير على العباسيين، وانضم إليه الباطنيون في محاولة لإسقاط الدولة. والأسوأ من ذلك أن بابك الخرمي عمل للاتصال مع الدولة البيزنطية، وهي العدو الأول لدولة العباسيين. وكان الخرمي يهدف من وراء ذلك إلى تكوين تحالف ضلعيه: الخرمية في الأقاليم الفارسية، والدولة البيزنطية في آسيا الصغرى من أجل الانقضاض على الدولة العباسية في بغداد، من أجل القضاء عليها. إلا أن كل مساعيه انتهت بالفشل، لكن هذه الحركات أضعفت -إلى حدٍ بعيد- قوة العباسيين.
والنموذج الآخر الأشد قسوةً وإرهابًا في تاريخ الحركات الباطنية؛ فرقة “الحشاشين”. ويصف برنارد لويس، وهو أحد أهم من درس فرقتهم بقوله: “لم يَحل القرن الثالث عشر حتى كانت كلمة حشاش Assassin قد دخلت بأشكال مختلفة في الاستخدام الأوربي بهذا المعنى، أي القاتل المأجور”.
وتاريخ الحشاشين مليء بالمآسي بنشرهم الإرهاب والفزع، ولكن ما يهمنا هنا هو دورهم في هدم وحدة العالم الإسلامي، بخروجهم على الدولة العباسية الجامعة للأمة آنذاك، هذا فضلاً عن تعاونهم مع الأعداء. ويتضح ذلك في طبيعة الدور السيئ المُشين الذي لعبه الحشاشون أثناء الحروب الصليبية؛ إذ لم يعمل هؤلاء لصالح الصف الإسلامي الذي كان يواجه موجات الحملات الصليبية، وإنما عملوا لصالحهم الخاص. ولا أدل على ذلك من تحالف الحشاشين مع فرسان المعبد وهي فرقة سرية إرهابية صليبية، هذه الفرقة التي أراقت دماء كثير من المسلمين أثناء تلك الحروب.
أدرك بعض ثقات الباحثين الدور السيئ للحركات الباطنية في التاريخ السياسي للعالم الإسلامي. ومن أهم هؤلاء حسين مجيب المصري المتخصص في الدراسات الفارسية؛ إذ يرى أن: “أهل البدع من الفرس منهم من شق العصا وخلع الطاعة، ونصب للعرب حربًا، ولا شك أنهم بعقيدتهم أرادوا بعث قوميتهم الفارسية وإحياء كيانهم في الماضي البعيد”. بينما يرى محمد عبد الله عنان (أحد أهم مؤرخي التاريخ الإسلامي) أن الحركات الباطنية ما هي إلا “جمعيات سرية أُنشِئت لهدم الإسلام”. هكذا تتضح لنا الصورة كاملةً عن الدور السياسي السلبي للحركات الباطنية الفارسية على وحدة العالم الإسلامي.
عملت الباطنية على تفعيل دورها السياسي منذ فترة مبكرة من تاريخ الدولة العباسية في مرحلة الدعوة.
- برنارد لويس، الحشاشون، تعريب: محمد العزب موسى، طـ2 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006.(
- حسين مجيب المصري، صلات بين العرب والفرس والترك (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).
- محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (عمَّان: د.ن، 1986).
- محمد الخُشت، حركة الحشاشين (القاهرة: مكتبة ابن سيناء، 1988).
- محمد عبدالله عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).