مارست "الباطنية" جرائم الاغتيال

والفتنة والانفصال في التاريخ الإسلامي

التأويل الفاسد للنص القرآني يؤدي -بالضرورة- إلى فساد الرأي، ومِنْ ثَمَّ “يفيض” بالفهم إلى الممارسة الخاطئة، ويصير التأويل هو الفهم المُشبَع والفعل المُتَّبَع. ولقد رأت الباطنية الفارسية استحالة التمكين لعقائدها الفاسدة خارج الإطار الديني، وسعت إلى تبني تكتيكات الهدم من الداخل من خلال ادعاء الانتماء والاقتداء ببعض الصحابة والأئمة الصالحين.

لقد وجدت الباطنية في الفهم الأفلاطوني، مُرْتَكزًا لإخفاء عقائدها الباطلة وعدم إظهارها إلا لخاصة الخاصة. وهنا نجد أن أفلاطون “كان يورد فكرة واحدة بعبارات مختلفة، ويجعل لكل واحدة معاني مختلفة أو متناقضة، وخاصة عند كلامه عن المسائل الإلهية؛ فيذكر أنه من المستحيل كَشْفُها لكل الناس؛ لأن النور الذي يفيض من هذه الحقيقة يُبْهِرُ أعين العامة”.

ولعل من أهم مظاهر الباطنية، التقية بمرجعيتها الأفلاطونية، هي تلكم الخصلة المعنية بإسقاط التكليف وكثرة التأليف وإباحة المحرمات سرًّا والتبرؤ منها جهرًا. وحول هذه النقطة نجد أبا حامد الغزالي يقول: “والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع. إلا أنهم بأجمعهم يُنكرون ذلك إذا نُسِبَ إليهم”.

إن ادِّعاءات الباطنية تفضحُها حقيقةُ عقيدتِهِم الفاسدة، التي تسربت من الخاصة إلى العامة، ويكفي القول بأنه ما من فساد في الرأي أو شذوذ في الفعل إلا ووجد الباطنيةُ له تأويلاً من النص، حتى وصل بهم الأمر إلى استباحة الأعراض بالمطلق، وكانوا من دعاة الحرام بكل أشكاله.

وبالرجوع إلى السياقات التاريخية لتَشَكُّل هذا الفكر الشاذ، تضاربت الروايات حول أصل هذه النبتة الخبيثة ومؤسسها الأول، وربما يطول بنا الشرح والتفصيل ويخرج بنا عن نقطة البحث. غير أن عدم التفصيل لا يمنع من بعض التأصيل، مع التركيز على شخصية غريبة تقول المصادر إنها المؤسس الأول للأفكار الباطنية ويطلق عليه اسم “عبد الله بن ميمون بن قَدَّاح…وطبقًا لهذا الزعم، فقد كان ميمون القَدَّاح أحد أتباع أبي الخطاب وأسَسَّ فرقةً تسمى الميمونية. وكان ديصانيًّا أيضًا، مناصرًا لابن ديصان رأس هراطقة حران الشهير، والثنوي المؤسس للمذهب العرفاني المسيحي الديصاني… ثم تتطور القصة أكثر مع ابن ميمون الذي زعم أنه نبيٌ، ودعم هذا الزعم بممارسة الشعوذة والحِيَل. كما نَظَّم حركة وأسس نظامًا من المعتقدات يتألف من سبع مراحل تبلغ ذِرْوَتُها بالانحلال الأخلاقي والإلحاد.

لقد تحولت تعاليم القداح إلى دستور معتمد من طرف بعض الفرق الباطنية والدولة العبيدية، وهي التنظيمات التي اجتهدت في هدم الإسلام على اعتبار أنه المسؤول عن انفراط عقد الفرس وسقوط إمبراطوريتهم.

وحول دوافع عبد الله بن ميمون وأهدافه السياسية، يقدم أنور الجندي قراءة مهمة في خلفيات الفكر القَدَّاحي فيقول: “يؤكد مؤرخو الغرب، مثل دي ساسي وديموج بوجه خاص، بوجود دافع سياسي لدى عبدالله بن ميمون القداح في القضاء على سلطان العرب والإسلام الذي جلب إليهم تلك السلطة، وإرجاع مجد فارس القديم مرة أخرى”. ويؤكد عبدالله الدوري في كتابه (العصور العباسية المتأخرة) القول بأن القداح أراد أن يُقَوِّضَ الإسلام فأشعل الشعور الباطني عند الجماهير، وكوَّن المذهب القرمطي المؤدي إلى الإلحاد، واستغل اسم إسماعيل بن جعفر الصادق في إثارة حركة شيعية قوية تنقل الملك إلى أحد أحفاده باسم المهدي.

أهم أهداف الباطنية الثابتة تمحْوَرت حول هدم الإسلام وإسقاط الأركان والاستهانة بالأحكام.

ومن جانبه، يذكر القيرواني الباطني في رسالته إلى سليمان بن الحسن ما نصه: “إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة في السماء”. وبعدها يستمر القيرواني في الكشف عن خبث الدَّعوة ودناسة المعتقد فيقول: “وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعي العقل، ثم يكون له أخت أو بنت حسناء، وليست له زوجة في حسنها، فيُحرمها على نفسه وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي”.

لقد سجل الباطنية شُهْرَتَهم بالدماء والغدر والخيانة وانبرت فرقُهم لطعن الإسلام من الداخل؛ خدمةً لعقائد المجوس السباقين لوضع الأسس الأولى للباطنية. تفننت فرقهم في استباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وتمكنت من تأسيس دول تدين لمعتقداتها بالولاء والانتماء.

لذلك استهدفت الباطنية على مرِّ تاريخها مراكز ثقل الدولة الإسلامية من خلال التركيز على اغتيال العناصر المؤثرة في صناعة القرار السياسي (نظام المُلْك وغيره)، وهي الاستراتيجية ذاتها التي يتبناها أي تنظيم يدَّعي الانتماء إلى الدين، وينفذ أجندة إرهابية، كما كان لدى التنظيم الإخواني الذي استخدم الاستراتيجية الباطنية ذاتها، عندما تبنى “سيد قطب” تكتيكه الخبيث ضد نظام جمال عبدالناصر، الذي أطلق عليه “نظرية قطف الرؤوس”.

  1. أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق: عبدالرحمن بدوي (الكويت: دار الكتب، 1964).
  2. فرهاد دفتري، الإسماعيليون: تاريخهم وعقائدهم، ط2 (بيروت: دار الساقي، 2014). 
  3. عبدالقاهر البغدادي، الفَرق بين الفِرق (القاهرة: مكتبة ابن سينا، 1988).
  4. محمد الخطيب، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، ط2 (الرياض: دار عالم الكتب، 1986).