تصفية عِرقية لعشرة آلاف بريء

مذبحة الجوازي.. أبشع جرائم العثمانيين في ليبيا

بلغ الطغيان العثماني منتهاه في ليبيا واشتد الظلم ووصل الجبروت ذروته، غير أنه هناك من كان قادرًا على الوقوف أمام ذلك، وقول كلمة الحق أمام كل ذلك، ففي الوقت الذي ظنّ فيه العثمانيون أنهم تحكّموا في مقادير البلاد والعباد، وأسكتوا الألسنة بالقتل، وأضعفوا الأقوياء بالبطش، وجدوا من يتصدى لهم غير مكترث بالدماء التي تسيل لترسم خريطة للحرية، هذا ما فعلته قبيلة الجوازي الليبية مع الأتراك في ليبيا.

الباحث الليبي رمضان جربوع وصف مدينة بنغازي الليبية بأنها “العصية النافرة”، ووضح أن تلك السمة التصقت بها منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي، أي بعد نحو قرن من تأسيسها، أو إعادة تأسيسها من قِبل جماعة من تجّار مصراتة، ولاحقًا تاجوراء وطرابلس، تآلفوا وتوافقوا مع سكان المنطقة شبه الصحراوية التي تقع بها بنغازي.

ونتيجةُ ذلك، ازدهرت بنشاطها التجاري، وصارت مركزًا حضريًّا يجمع بين ثقافة الحضر وثقافة البادية، مما شكّل توليفة فريدة، وقد نستطيع تسميتها “الحضر بدوية”، ومن ثَمَّ لم يكن هنالك حكومة أو ضرائب، ولم تكن المدينة في حاجة لأحد، فقد نبتت بنفسها، وأخذت في الازدهار بتوافد المهاجرين إليها من كافة أجزاء ليبيا من دون استثناء.

احتل العثمانيون المدينة بعد تأسيسها بقرابة 130 سنة، فشيّدوا فيها قصرًا للحاكم، وثكنة عسكرية، وأخذوا في جباية الضرائب لصالح السلاطين، ومن هنا تولّد “النفور” وعدم الاستجابة مع “السلطة” القادمة المُحتلَّة، رد الفعل هذا دفع باشا طرابلس العثماني إلى إخضاع المدينة بقسوة المعاملة، إلى جانب عدم الاهتمام والإهمال بسبب هذا النفور الذي أصبح متبادلاً بين الطرفين.

السوط العثماني لم يُخِفِ الجميع، هذا ما أثبتته الحوادث، حين رفضت قبيلة الجوازي التعامل مع الاحتلال العثماني، بل رفضت دفع الجزية والضرائب التي فرضها المحتلون الأتراك، وتحمّلوا في سبيل ذلك مقاومة الإنكشارية بصمود واستبسال.

سكنت قبيلة الجوازي بنغادي وضواحيها (1000-1942)، وهي قبيلة عربية أصيلة يعود نسبها الى قبيلة بني سليم العربية، وتعرضت لمذبحة أثناء الحرب الأهلية الليبية سنة (1801)، وطُرِدَ من بَقِيَ منهم إلى مصر علي يد يوسف باشا القرمانلي، ولم يستقر الجوازي بمصر طويلاً إذ عاد معظمهم إلى برقة بعد أن فقدوا الكثير منهم.

قاومت قبيلة الجوازي المحتل العثماني ببسالة ورفضوا دفع الضرائب والخضوع للأتراك

وتشير المصادر إلى أن القبيلة المعتزة بعروبتها وقوتها، هي من تصدّت للمحتل العثماني، فقادوا الثورة وأوقفوا جرائم المرتزقة ضد السكان المحليين، كما رفضوا استعلاء العِرق التركي على الجنس العربي وكأنهم عبيد في سخرة يعملون لصالح سلاطين آل عثمان.

لكن لأن المجُرمين لم يرضوا بمن يقول لهم: (لا)، وعلى طريقة محمد علي مع المماليك، دبر الأتراك مذبحة بشعة، بدأت حين دعا الحاكم العسكري التركي القرمانلي، شيوخ الجوازي للحضور إلى القلعة التركية بغرض التفاهم معهم، كما خدعهم بتلبية طلباتهم، فوافق شيوخ الجوازي وأعيانهم، وحسب المصادر فإن القرمانلي كان قد رتب أمره ودبَّره، إذ فور دخولهم للقلعة، فوجئوا بالحرس يقوم بذبحهم جميعًا.

وتوضح المصادر التاريخية أن الوالي العثماني كان يسمح بدخول شيخ واحد فقط للجلوس معه تلو الآخر، وفى كل مرة كان ينادي على أحد الشيوخ ويدخل ولا يعود، حتى وصل النداء إلى الشيخ رقم 45 ولم يدخل إلا بعد أن يعلم مصير من دخلوا قبله، ليتفاجأ أن حراس الوالي العثماني قتلوا كل الشيوخ الـ44، ثم قتلوه، وبعدها ذبحوا كل المرافقين أمام القصر.

وإمعانًا في الإجرام، فما أن انتهوا من قتل القادة والأعيان، حتى انتشر الإنكشارية ومرتزقة المحتل التركي في الشوارع والأحياء، فاقتحموا البيوت الآمنة واعترضوا النساء والأطفال والشيوخ قتلًا وذبحًا حتى وصل عدد الضحايا إلى 10 آلاف فرد.

ويصف مركز المزماة، للدراسات والبحوث، مجازر الاحتلال العثماني في ليبيا، خاصة ما حدث ضد قبيلة الجوازي بولاية برقة شرق ليبيا، بأنها من أبشع مجازر التاريخ، إذ قُتل فيها أكثر من عشرة آلاف فرد من قبيلة واحدة.

رغم ذلك فشل الأتراك في تتريك ليبيا، ويذكر الباحث الليبي جبريل العبيدي أن تركيا احتلت ليبيا كباقي بلاد العرب، وتولت الحُكم فيها لأكثر من 400 عام تحت اسم “الخلافة العثمانية” المزعومة، رغم ذلك بقيت ليبيا لليبيين حتى بعد حرب الخمسين عامًا مع الإيطاليين الذين سلمتهم تركيا ليبيا على طبق اتفاقية أوشي لوزان.

وفي وثيقة خطيَّة نشرها موقع قبيلة الجوازي الليبية، بقلم الفقي أحمد الشنقيطي، ذكر فيها واقعة إعدام شيوخ الجوازي غدراً في بنغازي وجاء نصها “بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين. والسلام على من ماتوا مظلومين، أنا الفقي أحمد بن محمد الشنقيطي من بلد شنقيط من المغرب، أكتب ما أملاه علىَّ الشيخ صالح المصري شيخ قبائل الجوازي من أسماء الشيوخ الذين أعدموا في قصر الحكومة في مدينة بنغازي يوم الأربعاء في السابع عشر من صفر سنة ألف ومائتين وسبعة وثلاثين هجرية، وعددهم خمسة وأربعون، إثر الخديعة والخيانة التي دبرها لهم أحمد يوسف القرمانلي، الذي تظاهر لهم بالرضا وقبلوا الضيافة التي كانت قد أُزهقت أرواحهم فيها غدراً، وبعض أسمائهم” موسى بن جبرين بنود – صالح بن على نوفل – حمد بن مراد مقرب – عوض بن محمود زيدان- الكيلانى بن عمر أبسيوان – صلاح بن حامد أمنيسى بويلة – طاهر بن بو بكر الدوزان”

وكعادة الشعوب، فإن الذاكرة الشعبية الليبية احتفظت بقصائد وثقت المذبحة ومنها:

  1. وليد فكري، الجريمة العثمانية، ط4 (القاهرة: الرواق للنشر والتوزيع، 2021).

 

  1. الطاهر أحمد الزاوي، ولاة طرابلس: من بداية الفتح العربي إلى نهاية العهد التركي (بيروت: الفتح للطباعة والنشر، 1970).

 

  1. رابحة خضير، “دخول طرابلس الغرب تحت الحكم العثماني (1555م)”، كلية الآداب بجامعة الموصل، المؤتمر العلمي السنوي لكلية التربية الأساسية 23-24 أيار 2007.

 

  1. مجيد خدوري، ليبيا الحديثة (بيروت: دار الثقافة، 1966).

 

  1. محمود عامر ومحمد فارس، تاريخ المغرب العربي الحديث (المغرب الأقصى، ليبية) (دمشق: جامعة دمشق، 1999).