‎المجموعات العِرقية: عقب آشيل تركيا وإيران

إن تحليل موقع “حبر أبيض” للتوازنات الجيوستراتيجية في المنطقة ساهم بشكل كبير في تشريح التدافعات الدولية، وفهم خطورة الاستهدافات التي تُحدِق بشعوب المنطقة، وكذا الدور الذي تلعبه كل من تركيا وإيران في التنزيل المادي لإستراتيجية القوى الكبرى.

في هذا الصدد أشرنا في مقالات علمية سابقة إلى بأن الغرب عمومًا، والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، عملوا جاهدين على “توظيف” كل من إيران وتركيا داخل “رقعة الشطرنج الكبرى”، التي تعتبر منطقة “الأوراسي” مركز ثقلها الأساسي، وبَيَّنَّا كيف يتم التعامل مع أنقرة وطهران كـ “مَحاور جيوسياسية”، الهدف منها ترتيب وضع الأوراسي؛ للحَدِّ من انتشار نفوذ الدب الروسي والمد الأصفر الصيني.

ولعل الدور الوظيفي الذي لعبته كل من إيران وتركيا لفائدة الغرب دفع هذا الأخير إلى العمل على الحفاظ على بنية الحكم في هاتين الدولتين، في مواجهة هشاشة البيئة السياسية والاجتماعية الداخلية المهدَّدة بالانفجار في أية لحظة، وذلك نتيجة وجود نسيج اجتماعي هجين لم تستطع الدولتان استيعابه داخل منظومة الدولة الأمة.

في هذا السياق فإن ما يميز التعاطي السياسي والجيوستراتيجي مع الشأنين الإيراني والتركي هو عدم الإلمام والمعرفة العميقة بهاذَين الكيانين السياسيين، وهو ما يجعل من هذه الحلقات مقدِّمة لضبط هذا الملف، ومحاولة التعاطي مع التهديد الإيراني والتركي بناءً على معرفة عميقة بمحددات البيئة الإستراتيجية في المنطقة.

فعلى الجانب الإيراني فرضت المشاريع الصفوية المزعزعة للأمن القومي في المنطقة، وكذا سياسة إرهاب الدولة الممنهَج، التي أصبحت إستراتيجية ثابتة لنظام الملالي، ضرورة رصد مجموعة من المفاتيح الإستراتيجية لمقاومة التمدد الصفوي بالمنطقة.

وهنا يجدر بنا التنبيه إلى أن الكتابات الفارسية قد حاولت تصوير الفسيفساء العِرقية والقومية في إيران على أنها تشكيل من الأقليات الذي لا يرقى إلى اعتبارها مؤثرة في الإكراهات الأمنية الداخلية لطهران، غير أن واقع الحال يشير إلى معطى ديمغرافي مختلف عن الأطروحة الرسمية المتداولة، ويجعل من إيران خليطًا “هجينًا” من المجموعات العِرقية والقومية يغلي فوق صفيح ساخن، وقادر على الانفجار بمجرد توافر الشروط الذاتية والموضوعية للمواجهة.

في هذا الصدد سبق أن أفرجت وزارة الخارجية الأمريكية عن إحصاء دقيق للأقليات الدينية والعرقية في إيران، كما أصدرت وكالة المخابرات الأمريكية كتاب حقائق العالم، وهي تحقيقات تؤكد أن العِرق الفارسي في إيران لا يشكل سوى نسبة 48% من السكان، أي بمجموع 40 مليون نسمة، يليهم الأذَر الترك بنسبة مهمة تتجاوز 29%، بعدد سكان يناهز 24 مليون نسمة، ثم يأتي الأكراد بحوالي 8 ملايين نسمة.

ولعل أهم ما يميِّز المناطق التي تقطنها المجموعات العِرقية في إيران، باستثناء الأذَر، هو إخضاعها لمنطق التهميش الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي والسياسي، وهو ما دفع بهذه المجموعات إلى تَبنِّي رِدَّات فِعل عكسية اكتست في معظمها طابع المقاومة العنيفة من أجل الاستقلال عن إيران، خصوصًا مناطق كردستان وبلوشستان وعربستان.

على المستوى الإستراتيجي تكمن أهمية المجموعات العِرقية في إيران في استقرارها في مناطق جغرافية تُعتبر مصدرًا أساسيًّا للثروة، كان بالإمكان تثمينها من أجل تقوية معادلة الضبط والربط بين طهران وسكان هذه المناطق الذين حُرِموا من الاستفادة من عائدات الثروة التي تُستخرج من تحت أقدامهم، وتذهب لفائدة ريع ذوي العمائم.

أمام هذا الواقع سترتفع أصوات المجموعات العِرقية للمطالبة -في مرحلة أولى- بتطبيق نمط لا مركزي للحكم تحت السيادة الإيرانية، إلى تبنِّي شعارات ومطالب الاستقلال عن طهران، في مرحلة ثانية، بعدما تأكدوا بأن بنية نظام الحكم عند الملالي تقوم على أساس عرقي بعيد عن “منطق الدولة” الذي يسمو فوق التركيبة العرقية والإثنية والسياسية للنسيج السكاني.

إن أزمة اندماج المجموعات العرقية ليست حكرًا على إيران وفقط، بل يمكن إسقاطها على الحالة التركية أيضًا، التي تعيش بدورها حالة من الاحتقان العرقية قد تؤدي إلى تفجير منظومة الدولة من الداخل.

ورغم أن تركيا الكمالية قد حاولت الالتفاف على معاهدات لوزان وسيفر من أجل “تذويب” المجتمعات العرقية في بوتقة “التتريك”، واعتبار كلِّ مَن يعيش فوق الأراضي التركية “تركي الدم والمنشأ والانتساب”، إلا أن عدم احتواء المطالب “الثقافية خاصة” للمجموعة الكردية والعلوية دفع بهاتِه المجموعات إلى الانغلاق على نفسها، و”التربص” لاقتناص الفرصة للتعبير عن مطالبها بشكل سلمي أو عنيف.

ويمكن القول بأن غياب مبادرات حقيقية لاستيعاب المجموعات العرقية ضمن النسيج المجتمعي التركي قد ساهم في تعميق وتحجيم الهُوَّة بين مجموعة عرقية مثل الكرد (على سبيل الاستدلال لا الحصر)، وهو ما جعل التصادم بين الطرفين يصل إلى مستوى المواجهة العسكرية المعلنة، وهنا نسجل بأن صانع القرار السياسي التركي لا يزال ينظر إلى المجموعات العرقية بنظرة أمنية ضيقة، باعتبارها مصدر تهديد للأمن القومي، وليس مصدر تنوُّع وتَمايُز التعبيرات العِرقية التي يمكن أن تحتضنها وتحتويها منظومة “الدولة-الأمة”.

إننا نعتقد بأن “مأساة المجموعات العرقية” تعود إلى سببَين رئيسَين؛ أحدها داخلي، والثاني خارجي، فعلى المستوى الداخلي، لا يبدو أن طهران وأنقرة ينظران إلى المجموعات العرقية كـ”جزء أصيل” من المكون الوطني للدولة، ولسان حالهم يقول: “المهم هو الحجر وليس البشر”، وهنا يبقى الأهم، وهو تكريس “منطق الدولة” على الأرض في مقابل التعامل الأمني مع المطالب المشروعة لبعض التنظيمات العرقية.

أما على المستوى الخارجي فيبدو أن لعنة “تفرُّق دم المجموعات العرقية بين الدول” قد دفع بهذه الأخيرة (إيران، تركيا، العراق وسوريا) إلى توحيد المقاربات في مواجهة هاتِه التعبيرات، وذلك مخافة اتساع الخرق على الراقع، وبالتالي إمكانية تأسيس كيان عرقي جديد ستكون أولى أهدافه الانتقام للعرق، والانتصار للمجموعة، وتَبنِّي مقاربة صدامية مع كيانات سياسية حاولت إذلاله وتركيعه لقرون مضت.