حتى في “البراجماتية” فشِل

الألمان استبدلوا “غباء” عبدالحميد بطموح الاتحاديين

تعد صفحة العلاقات العثمانية الألمانية، وعلى وجه التحديد علاقة السلطان عبدالحميد الثاني بألمانيا، من الصفحات الغريبة المثيرة في مجال العلاقات الخارجية العثمانية، فها هو السلطان العثماني الذي يدعي لقب الخلافة، ويرفع شعار “الجامعة الإسلامية” يقيم علاقات وثيقة تصل إلى التحالف بين الدولة العثمانية وألمانيا، أكبر دولة مسيحية في وسط أوربا، وهكذا تجاوز قاعدة “دار الإسلام ودار الحرب”، أي أن ما هو خارج دار الإسلام هو دار حرب، فكيف يمكن تفسير ذلك؟ 

قدمت المؤرخة “ثريا فاروقي” تفسيرًا مهمًّا لطبيعة السياسة الخارجية العثمانية في الفترات المبكرة؛ إذ تخلت هذه السياسة -بشكل كبير- عن البُعد الديني واتخذت طابعًا براجماتيًّا واضحًا. وربما يمكن ملاحظة ذلك الأمر منذ تحالف السلطان سليمان القانوني مع فرنسا ضد قوى أوروبية أخرى، ونشأة ما عُرف بالامتيازات الأجنبية، كذلك يمكن متابعة ذلك في العلاقات التجارية بين الدولة العثمانية وأعدائها، وخير مثال على ذلك البندقية، واستمرار التبادل التجاري بينهما رغم حالة العداء العسكري.

عبدالحميد الثاني وزع امتيازات دولته استرضاءً للدول الأوروبية.

من هنا نستطيع تَفَهُّم علَّة ميول عبدالحميد الثاني إلى التحالف مع ألمانيا لأسباب سياسية براجماتية بحتة، رغم رفعه لواء الجامعة الإسلامية والعداء للغرب، إنها السياسة التي لا تعرف التأثر بالدين.

يبرر عبدالحميد الثاني سياسته في الميل إلى ألمانيا والتحالف معها بالعديد من العوامل التي شجعت على ذلك؛ إذ يرى أنه ليست هناك حدود مشتركة بين الدولة العثمانية وألمانيا، وبالتالي لم تكن هناك نزاعات على الحدود، وفي الوقت نفسه لا يُنكِر إعجابه الشديد بالنظام العسكري الألماني، وقدرته على دعم الجيش العثماني وتدريبه، أضِف إلى ذلك التحديث الكبير في الصناعات الألمانية، وإمكانية استفادة الدولة العثمانية من ذلك الأمر. 

بالنسبة لألمانيا كان أمر التحالف مع الدولة العثمانية براجماتيًّا بحتًّا كذلك، ولعل خير شاهد على ذلك التقرير الذي كتبه السفير الألماني في إسطنبول هلاتر فيلد في أوائل عام (1880م)؛ إذ قال: “لقد انتهى أمر النفوذ الفرنسي في إسطنبول بانتهاء نابليون الأول. ذلك النفوذ الذي بدأ منذ عصر سليمان القانوني. وإذا كان النفوذ الإنجليزي قد حل محل النفوذ الفرنسي منذ عهد رئيس الوزراء الإنجليزي الماكر اللورد بالمرستون، فإنه انتهى بدوره إبان اللورد جلادستون”. وهكذا أشار إلى ضرورة أن تشغل ألمانيا هذا الفراغ، وطالب من القيصر الألماني سرعة التحرك من أجل تحقيق هذا الغرض.

عندما وصل وليم الثاني إلى العرش الألماني أدرك أهمية هذا الأمر، وسرعان ما قام بأول زيارة يقوم بها إمبراطور دولة كبيرة إلى إسطنبول، مما أغضب إنجلترا وروسيا اللتين لم ترحبا بهذه الزيارة. ثم قام القيصر الألماني بزيارته الثانية إلى إسطنبول في عام (1898م)، ولم يكتف بذلك بل قام بزيارة مدينة القدس، وافتتح كنيسة بروتستانتية هناك. كما قام بزيارة دمشق حيث روج في خطبة شهيرة الزعم بخلافة عبدالحميد الثاني بحسب الهوى العثماني على كل المسلمين، في داخل الدولة العثمانية وخارجها، مما أغضب بريطانيا التي اعتبرت هذه الخطبة تأييدًا ألمانيًّا لسياسة الجامعة الإسلامية التي يرفع شعارها السلطان، وخطر ذلك وتأثيره على المسلمين في المستعمرات البريطانية، لا سيما الهند. 

وليم الثاني غازل السلطان بوهم "الخلافة".

زادت مخاوف الدول الأوربية عندما منح عبدالحميد الثاني ألمانيا امتياز خط سكك حديد بغداد؛ إذ رأت أن هذا الخط يعني امتداد نفوذ ألمانيا في أسيا مما يشكل خطرًا على النفوذ الأوروبي، ولا سيما الإنجليزي، في المنطقة. 

أدرك عبدالحميد الثاني مدى غضب إنجلترا وفرنسا من تنامي النفوذ الألماني في الجيش والاقتصاد العثماني، لذلك حاول استرضاءهما؛ إذ منح بريطانيا امتيازًا لتنفيذ خط سكك حديد غرب الأناضول، كما منحها امتياز حق إصلاح البحرية العثمانية، ومنح فرنسا امتياز خط سكك حديد في سوريا، وأيضًا إعادة تنظيم أحوال الشرطة العثمانية.

ويؤكد المؤرخ التركي “سليمان جوقه باش” أن عبدالحميد الثاني لجأ إلى التحالف مع ألمانيا من أجل إحداث توازن بين الدول الأوربية الكبرى التي تناصبه العداء، على طريقة عدو عدوي صديقي. لكنه يصف علاقته بألمانيا بأنها كانت “ملاذًا محدقًا بالخطر”؛ إذ إنها من ناحية أثارت عليه الدول الأوربية الكبرى لا سيما إنجلترا وفرنسا وروسيا؛ نظرًا لعدم رضائهم عن تنامي النفوذ الألماني داخل الدولة العثمانية. ومن ناحية أخرى استغل رجال الاتحاد والترقي هذه السياسة في القضاء على السلطان نفسه.

إذ كان لا بُد لألمانيا أن تطلب المقابل إزاء الدعم للدولة العثمانية، وهو ما صرح به القيصر الألماني في أثناء لقائه بالسلطان، أنه إذا قامت ألمانيا بشن حرب في أوروبا ضد إنجلترا وفرنسا، فإن على الدولة العثمانية ضرورة الوقوف إلى جانب ألمانيا ودخول الحرب معها، لقد أراد عبدالحميد الثاني اللعب مع ألمانيا لكنه لم يدرك “كلفة” هذه اللعبة، وحاول التملص من هذه الالتزامات، من هنا “بات أعضاء جماعة تركيا الفتاة هم أصحاب الحظوة لدى الألمان، حيث شرع الألمان يستخدمون الرائحين والغادين منهم إلى ألمانيا ضد تركيا والسلطان”. هكذا يشرح سليمان جوقه باش تحولات العلاقة بين عبدالحميد الثاني وألمانيا.

وتصف ابنة عبد الحميد الثاني نهاية الأمر بقولها: “لم يستطع أبي أن يملك زمام أمره في مواجهة جماعة الاتحاد والترقي التي أظهرت التسليم والإذعان التام للدعاية الألمانية”.

على أية حال لم تنجح سياسة عبدالحميد الثاني “عدو عدوي صديقي” في كسب ألمانيا، ولم يفلح في ترويض الأطماع الألمانية في الدولة العثمانية، وفي النهاية انقلب السحر على الساحر بعزله.

وتصف موسوعة الدولة العثمانية نهاية عصر عبدالحميد الثاني “فالإمبراطورية بعد مضي نحو ثلاثين عامًا أو تزيد على اعتلائه العرش كانت من حيث البناء في حالة لا تقبل الإصلاح”.

1. ثريا فاروقي: الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي. 

2. سليمان جوقه باش: السلطان عبد الحميد الثاني “شخصيته وسياسته”، ترجمة: عبد الله أحمد إبراهيم.

3. أكمل الدين إحسان أوغلي “إشراف وتقديم”: الدولة العثمانية، تاريخ وحضارة، الجزء الأول.