فخري باشا

والتحاف العلم العثماني

" 1337هـ / 1918م "

حادثة سفربرلك تعني تحويل مدينة رسول الله عليه أفضل صلاة وأتم تسليم إلى ثكنة عسكرية وتعدى الحدث إلى أن يهدم فخري باشا الأسواق والأسوار والبيوت فيها باتجاه الحرم النبوي ليعمل على تحويله إلى قلعة عسكرية، ومخزن للأسلحة دون مراعاة لحرمة المسجد النبوي الشريف.
تواترت عدة روايات عن فخري باشا بأنه خطب خطبة يشهد لها التاريخ بمدى حبه لمدينة المصطفى وباستماتته هو وجنوده من أجل حمايتها وبأنها كانت لحظات مؤثرة وهو يلقيها على مسامع جنده، معتلياً المنبر وذلك بعد أن تحمل إخفاء قسوة أنباء وصلته عن هزيمة امبراطوريته في الحرب العالمية الأولى، وبأنها اضطرت إلى عقد هدنة، ولابد أن تستسلم القوات العثمانية في الحجاز وعسير واليمن إلى أقرب قائد من قادة جيوش الحلفاء. وقد وُقعت تلك التعليمات من الصدر الأعظم أحمد عزت وصلته عن طريق محطة اللاسلكي في المدينة.
أشيع الخبر بعد ذلك بين العسكر والضباط في المدينة، ومن هول الصدمة وشدة خوف فخري باشا على المدينة النبوية وحبه للرسول عليه الصلاة والسلام وبسبب إخفائه للخبر، منحهم إجازة مفتوحة. عجبًا من قيادة عسكرية في حالة استنفار وتسارع أحداث سياسية تعطي الجميع إجازة دون إبداء للأسباب، ورغم عدم منطقية ذلك فإن دل على شيء فإنما يدل على مدى جبروت هذه الشخصية وقيادتها التي تسببت وحصدت أرواح آلاف مؤلفة من الجند، وتطبيق الأحكام العرفية لمجرد الشك بأنهم خونة، وازدياد هروبهم، متغافلاً متناسيًا أهوال المجاعة التي حلت بهم وما كانوا يعانون منه من قيادة متعجرفة ظالمة.
جاء في رواية عن خطبة قرر أن يلقيها فخري باشا ليعلن من خلالها تدابيره العسكرية العاطفية!!، بأنه في يوم الجمعة في آخر جمادى الآخرة أو الأيام الأُول من شهر رجب عام 1336 ه/ أبريل 1918 م، لف العلم الأحمر بعد احتضانه، وسكينة عجيبة، وعبارات عاطفية تكتسح الراوية واصفة حالة الباشا. أخذ يحلف بصوت هادئ عاطفي مسموع بأنه لن يهجر الرسول –عليه أفضل صلاة وأتم تسليم– ولن يستسلم حتى آخر طلقة وآخر نفس، وكان من دهشة الضباط والجنود ومن كان من المصلين ما لا يمكن تصوره؛ لأنهم شهدوا دقة وصف وأمانة الباشا أثناء خطبته.
جاءت الرواية السابقة بخطأ تاريخي، بأن الخطبة مثلما أُطلق عليها كانت في يوم الأحد 28 محرم 1337 ه/ 3 نوفمبر 1918 م، وإنما اختيار يوم الجمعة لابد وأنه لفضله ولكسب التعاطف مع ما تم ذكره من تجميل لموقف فخري باشا في تلك الفاجعة –سفربرلك- وتتناقض تماماً مع شخصية فخري باشا وتاريخه الذي يشهد عليه، ناهيك عن الحالة العامة التي أنهكت الجميع ومطالباتهم قبل أن تأتيهم أوامر الاستسلام بالرحيل، ولا آذان صاغية.
وتأتي رواية أخرى من (فريدون قاندمير) ناقل برقية الصدر الأعظم، وقد كان حاضراً، بأن فخري باشا بعد أن صعد المنبر، ومضت دقائق والكل يترقب انتظاراً لما سيفعله الباشا، بأن صوته كان مدوياً كالرعد، وهذا عكس ما رُوِيَ من هدوء اعترى فخري باشا وخشوع، وحالة عاطفية لا تليق بوصف حقيقة سلوكياته.
تستمر الرواية في توضيح عبارات من خطبة الباشا، ومنها أنه ذكر بأن الأوامر أتته بتسليم المدينة بعد أن قبلوا الذهب – (من هم الذين قبلوا الذهب؟!) يقصد القيادة العليا في الدولة العثمانية-، وبأنهم قطعوا خط السكة الحديدية، وهنا سؤال يفرض نفسه! “كيف أرسلت الأمانات المقدسة؟”، هل بعربات خاصة بالباشا فخري، ويؤكد عدم تراجعه، وأن العلم الأحمر لن يُزال قبل أن يقدم سكب الدماء على أنقاض المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وحقيقةً تُركت المدينة المنورة أنقاض ……
من قصيدة للشيخ سعدالدين برادة:
عاث الزمان بنا رغماً ففرقنا يا للرجال لهذا العائث الجاني
ومن قصيدة للشيخ حمزة التقرتي رداً على قصيدة الشيخ برادة وكلاهما قد هُجِّر في سفربرلك …..

بكى وحنّ إلى إلفٍ وأبكاني صب تغرب عن أهل وأوطان 
وبات يذرف دمع العين من شجن على فراق محبيه فأشجاني

وأبيات تصف الحال من الشيخ عبد الحق رفاقت علي:

ساروا إلى الشام مذ أيدي العدا فتكت فيهم وأورت زناداً من تجافيها
بالجبر قد أخرجوا من طيبة ولهم عين تسيل دمًا من حبهم فيها
وأُزعجوا ومن الأقوات قد حُرموا وكدروا عيشة من بعد صافيها 
وجرعوا كأسهم للبين قد مزجت سُمٍّا نقيعًا أعاذ الله ساقيها

حُق للتاريخ أن يوصد أبوابه تجاه أحداث إجرامية كتلك، انتهكت حرمة المقدسات الإسلامية كمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومدينته التي عُرفت بالأسودين – الماء والتمر -، ومن أفظع جرائم الإبادات الجماعية في مطلع القرن العشرين، وتسببت في مجاعة نتجت عنها كوارث إنسانية وبيئية، خلال خمسة أعوام. والتاريخ يحفظ …….