الأيديولوجيا والتيارات المتطرفة

أضْفَت على التاريخ العثماني القداسة

لا يزال تاريخ الدولة العثمانية والمصير الذي آلت إليه من النقاط المُثيرة حتى الآن، على الرغم من مرور عشرات السنين على زوالها، وبالقطع عرفت منطقتنا العربية- وما تزال- هذا الجدل الحادَّ حول الدولة العثمانية، وتأثيرها المباشر علينا، هذا فضلًا عن رصد أسباب سقوطها، وتداعياته على التاريخ العربي.

وتمثِّل مسألة التاريخ العثماني حالة خطيرة لتداخُل التاريخ بالأيديولوجيا في عالمنا العربي، لا سيما مع تعظيم التيارات الإسلامية لدور الدولة العثمانية، والنظر إليها على أنها “آخر خلافة إسلامية”، وبالتالي صناعة تاريخ مقدَّس لها، وتوظيفه في خدمة أهدافها السياسية. ويلخِّص المفكر اللبناني رضوان السيد هذه النظرة الإسلاموية للدولة العثمانية قائلًا: “بَدَا العثمانيون في كتابات الإسلاميين فرسان الجهاد، ورمز قوة الإسلام ومجده”.

وفي الحقيقة لقد بدأ ذلك الاتجاه في الصعود إلى الساحة قُبَيل سقوط الدولة العثمانية، في محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هيبتها التي تدهورت بشدة حتى في عيون من كانوا يَرْزَحون تحت سلطتها، خاصةً مع تحول هذه الدولة إلى “رجل أوروبا المريض” التي تنتظر الدول الأوروبية الاستعمارية وفاته؛ لكي يتم تقسيم التركة، أو في الحقيقة ما تبقَّى من ولايات عثمانية.

وكانت أهم هذه الدعايات “الإسلاموية” لتاريخ الدولة العثمانية كتاب محمد فريد بك المحامي، الذي صدر في مطلع القرن العشرين، وهو كتاب “تاريخ الدولة العلية العثمانية”، الذي كتبه مؤلفه لصالح مشروع السلطان عبد الحميد الثاني لإحياء الخلافة الإسلامية.

لكن صناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية أخذت بُعدًا حادًّا مع سقوط الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا بعد نهاية الحرب بقرابة 6 سنوات في عام (1924)، ونجد ذلك واضحًا في كتابات أحد أهم رموز الفكر المتطرف، وهو حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية؛ إذ يُحوِّل الدولة العثمانية إلى “أيقونة” مقدسة، ويتحسَّر في مذكراته على سقوطها، ويأخذ على مصطفى كمال أتاتورك “عميل الغرب”، تجرُّؤه على إلغاء ما يطلق عليه الخلافة العثمانية، وكيف لبست إسطنبول القبعة على النمط الأوروبي، وهي التي “كانت إلى بضع سنوات في عُرف الدنيا جميعًا مقر أمير المؤمنين”، أي مقر الخلافة كما يزعم.

بعد سقوط العثمانيين استغل الفكرُ المتطرف توظيف التباكي عليهم بالتغلغل وتزييف التاريخ.

من هنا أعلن البنا بكل وضوح أن تأسيسه جماعة الإخوان في عام (1928) كان ردًّا على إلغاء أتاتورك ما يسميه الخلافة العثمانية عام (1924)، ويصبح مبدأ إعادة إحياء الخلافة من جديد من فرائض الجماعة.

وعلى ذلك تتوالى كتابات التيار الإسلامي التي تَعمد إلى رسم تاريخ مقدس للدولة العثمانية بعيد كل البُعد عن المنهجية التاريخية، تاريخ قائم على نظرية المؤامرة، فضلًا عن النظرة الأيديولوجية للتاريخ، والبحث عن الفردوس المفقود، وإعادة الخلافة من جديد، وبالقطع لن نستطيع في هذا المقال القصير التعرض بالدراسة والنقد لكل هذه الكتابات، وهي كثيرة جدًّا، وإنما سنختار إحداها، بل أهمها، ليكون حالة دراسة لمثل هذه الحالة الماضوية في كتابة التاريخ.

يعتبر كتاب عبد العزيز الشناوي “الدولة العثمانية.. دولة إسلامية مفترى عليها” من أبرز الكتابات التي ساهمت في صناعة تاريخ مقدس للفترة العثمانية، ويظهر تأثير الأيديولوجيا واضحًا منذ البداية، ومن عنوان الكتاب نفسه “دولة إسلامية”، وأيضًا “مفترى عليها”، وفي الحقيقة يجب أن نأخذ هذا الكتاب أيضًا في السياق الزمني لصدوره، بعد هزيمة يونيو (1967)، وتراجُع الفكر القومي العربي، وصعود التيارات الإسلامية من جديد، ومحاولة صناعة تاريخ مقدس، وإقناع الناس بأن الدولة العثمانية دولة خلافة، لذلك يُثار حولها الكثير من الجدل.

ويرى الشناوي أن تاريخ الدولة العثمانية تعرَّض لحملات مكثفة “استهدفت التشهير بها والنَّيل منها، قامت بهذه الحملات المكثَّفة قوتان عالميتان عاتيتان، هما الاستعمار الأوروبي والصهيونية”.

وهكذا يلجأ الشناوي إلى نظرية المؤامرة على الدولة العثمانية، بل ويصل إلى القول بأن هناك تحالُفًا صليبيًّا ماسونيًّا ساهم في إسقاطها، كما يهاجم الشناوي المؤرخين العرب الذين انتقدوا الدولة العثمانية، وقدَّموا “صورة حالكة الظلام لها”، وهؤلاء أيضًا اتهموا الدولة العثمانية أنها وراء العزلة عن العالم التي “فرضتها على ولاياتها العربية، مما أدى إلى نشر الفقر والجهل والمرض”.

ويقدِّم المؤرخ العراقي قيس جواد العزاوي صورة أكثر واقعية، وموضوعية عن تاريخ الدولة العثمانية؛ إذ لا يُنكِر العزاوي الدور الخارجي في إضعاف الدولة، ولكنه يرى – وهو على حق في ذلك- أن الدولة العثمانية انهارت لعوامل داخلية ومؤثرة في بنية الدولة، ويرصد العزاوي ما أطلق عليه “عوامل انحطاط الدولة العثمانية”، ويستند إلى المقولة الشهيرة لابن خلدون: “إذا استحكمت طبيعة المُلك من الانفراد بالمجد، وحصول الترف والدعة، أقبَلَت الدولة على الهَرَم”.

من هنا يرى أن عوامل انهيار الدولة العثمانية هي الامتيازات الأجنبية، والتنظيمات، وتغريب المجتمع، ثم السماح بالوصاية الغربية على الأقليات الدينية داخل الدولة، هذا فضلًا عن الصراع بين القوانين الوضعية التي فرضتها الدولة والشريعة الإسلامية.

ويُضاف إلى ما ذهب إليه العزاوي – وقد يكون أغفله- أن الدولة العثمانية فرضت نفسها على بقعة جغرافية كبيرة بغير حق، خصوصًا بعد أن احتلت البلاد العربية، ولو أننا تجاوَزنا مسألة الاحتلال وفرض الهيمنة والاستعمار التركي الشعوبي، فإن سياسة الدولة العثمانية كانت سياسة استبدادية وقاهرة، ومتعمِّدة في الوقت نفسه تأخير العالم العربي وتجهيله، واستهلاك خيراته، كما أنها كانت تتعامل مع العرب بكل وحشية وقسوة، بالقتل والتنكيل وسلب الإرادة.

هكذا ندرك أن الدولة العثمانية دولة مستعمِرة ومستبدَّة، وليست دولة لها تاريخ مقدس صنعته وتحاول دائمًا توظيفه التيارات الإسلامية.

  1. قيس جواد العزاوي: الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ5، القاهرة، 2014.
  2. عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980).
  3. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (القاهرة: دار النفائس، 1980).

الدولة العثمانية

جرَّت المنطقة العربية معها إلى الهاوية إثر تمزيق الدول الأوروبية لها

ظل الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد العربية قرونًا من الزمن مهلهلًا ومفكَّكًا قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914)؛ نظرًا إلى أن المستعمر العثماني أُطلق على دولته في أوروبا “الرجل المريض”، خاصة بعد الاتفاقيات التي نصت على تقاسُم النفوذ في منطقتنا العربية، المعروفة بـ “سايكس بيكو”، فعلى سبيل المثال وقعت مشيخات الخليج العربي على طول شواطئها تحت دائرة النفوذ البريطاني، وامتد ذلك النفوذ ليشمل مصر وقبرص.

الدولة العثمانية عاشت أواخر أيامها مزعزعةً، ولم تستطع المحافظة على استبدادها الممتد قبل ذلك بين قاراتٍ ثلاث، بل إن الأخطار أصبحت تهدد تخومها، والحقيقة أن الدولة العثمانية لم تتمكن من إيجاد مكان لها في العالم الحديث، وظلت كالأطلال المتهالكة التي تعصف بها الرياح للدمار وليس للتغيير، وقد يكون مرجع ذلك هو أن الأتراك كانت لديهم الخبرات العسكرية في الحروب والمعارك على الطريقة القديمة، إلا أنهم لم يكونوا كذلك في فن الحكم والسياسية، رغم المحاولة التي قام بها سلطانهم محمود الثاني في عشرينيات القرن التاسع عشر الميلادي، حين حاول فرض برامج إصلاح واسعة، وكان هدفه من ذلك مركزية الحكومة، من خلال سيطرته المباشرة أو من خلال مستشاريه، وتحديث الضرائب والجيش، وإلغاء الجيش الانكشاري، ومحاولة تأسيس مدارس عامة على الطرز الأوروبية، وغيرها من الإجراءات التي اتُّخِذت من أجل الإصلاح، ومحاولة مواكبة الثورة الصناعية التي عاشتها أوروبا، ولكن دولته لم تتمكن من اللحاق بذلك الركب بالصورة الأمثل.

هنالك أمر أسهم في زيادة تدهور النظام العثماني، وهو أن الإمبراطورية تشكَّلَت من شعوب متعددة العرقيات واللغات، وحتى القيادات الإدارية والعسكرية، وإن كانت تتحدث وتتعامل باللغة التركية إلا أن العوامل المشتركة بينها قليلة، فالفسيفساء العثمانية لم تندمج اندماجًا فعليًّا في إطار الدولة الحقيقي، رغم المحاولات التي بُذِلت من بعض السلاطين، الأمر الذي أسهم في المزيد من الضعف والتفكك، واستفادت الدول الأجنبية من ذلك التفكك وعدم الاندماج في زيادة النفوذ والسيطرة داخل الإمبراطورية العثمانية.

لقد أدى ذلك الواقع الذي كانت تعيشه الإمبراطورية العثمانية إلى خضوع مجموعة من الدول والمناطق الإسلامية للحكم الغربي المباشر، وهو الوضع الذي استمر إلى العقد الثالث من القرن العشرين، ولم ينتهِ إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، فمع حلول عام (1914) كانت الإمبراطورية العثمانية قد تقلَّصت بشكل كبير، ففقدت السيطرة على شمال أفريقيا وهنغاريا ومعظم الجنوب الشرقي لأوروبا، وباتت منذ القرن الثامن عشر الميلادي تتقهقر بخطى ثابتة نحو الانهيار، ولم تَسلَم منطقتنا العربية من تَبِعات ذلك الانهيار، فهي أحد المسارح المهمة التي وقع فيها الصراع بين الغرب الاستعماري والرجل المريض، فقد أسهمت تلك الأوضاع المتردية للدولة العثمانية وتقاعُسها في إضعاف المناطق العربية، خصوصًا وأن العثمانيين تخلوا عن بناء المجتمع والمؤسسات فيها، وفشلوا في احتواء الشعوب ضمن بنية الدولة الرئيسة.

بريطانيا وغيرها من الدول الأوربية سعت جاهدة للاستفادة من تلك الأوضاع المهلهلة لدولة الرجل المريض، أو ما عُرفت لدى الأوروبيين أيضًا بـ “المسألة الشرقية”، فبريطانيا من أوائل الدولة الأوروبية التي فكرت بشكل جِدِّي منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في احتلال جزيرة قبرص، باعتبارها مفتاحَ غربِيِّ آسيا، وقد رضخت الدولة العثمانية لذلك الاحتلال نظير حماية بريطانيا لها من الأخطار المحدقة بها من الخارج، ثم أتبَعَت بريطانيا مصر بقبرص، وبعدها ثبت مركزها في الشرق العربي، بل وأصبحت تُفكر جديًّا بتقسيم الدولة العثمانية.

من جهة أخرى لا يمكن أن نُغفل تغلغل النفوذ الألماني، الذي ازداد في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، والذي اتخذ أشكالًا متعددة، عسكرية واقتصادية وثقافية ونفسية، وكان يُعتبر نقطة تحوُّل مهمة في المسألة الشرقية في العصر الحديث، وكانت تلك المظاهر السياسية الألمانية في الشرق العربي تتمثل في التقرب للعرب، ما أثار مخاوف بريطانيا وفرنسا وروسيا.

وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب بجانب دول الوسط: ألمانيا والنمسا والمجر ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، وكانت نتيجة الحرب هزيمة نكراء للدولة العثمانية وحلفائها، بل وكارثية لمنطقتنا العربية، حيث تم تقسيم المنطقة من قِبَل القوى المنتصرة بينهم، فاحتلت بريطانيا العراق والمناطق العربية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من حدود مصر على الساحل جنوبًا إلى حيفا وعكا حتى الناقورة شمالًا في فلسطين بحدودها الطبيعية وشرق الأردن.

لم يكن السلاطين العثمانيون وموظفوهم يمتلكون القدرة السياسية والإستراتيجية لمواكبة العصر الحديث.

أما الخليج العربي فقد أصبحت سواحله الغربية من البصرة شمالًا إلى الكويت والبحرين وقطر وعمان وحضرموت حتى حدود عدن من نصيب الاحتلال البريطاني، وفرنسا كانت شريكًا في بقية الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط من الناقورة جنوبًا إلى صيدا فطرابلس فبيروت واللاذقية فإسكندرونة حتى الحدود التركية شمالًا، وحتى الحدود العراقية شرقًا عند الموصل.

لقد كانت نتائج الضعف العثماني وتدهوره مؤثرة على النواحي السياسية في البلاد العربية، التي أصبح جزء كبير منها تحت براثن الاحتلال الغربي وأفكاره وثقافته، وما أحدثه من زيادة في ضعف العرب سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا حتى أصبحوا على الهامش لفترة طويلة.

  1. ديفيد فرومكين، نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط، ترجمة: وسيم حسن عبدو (بغداد: دار ومكتبة عدنان، 2015).
  2. عمر عبد العزيز، تاريخ المشرق العربي 1516-1922 (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1985).
  3. قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط (بيروت: الدار العربية للعلوم، 1994).
  4. يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان (إسطنبول: مؤسسة فيصل للتمويل، 1988).
تشغيل الفيديو

بالزيف والخديعة والظلم

ادعى العثمانيون الخلافة الإسلامية

كانت ولا تزال الخلافة الإسلامية في مفهومها مَثارَ نقاش وجدل كبير بين المؤرخين والمفكرين المسلمين، فالحكم في الإسلام انتقل من طور إلى آخر، دون إلزام للأمة باتباع أسلوب حكم معين، بل إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ترك أمر خلافته مفتوحًا للأمة، مع بعض إشاراتٍ نحو خليفته أبي بكر الصديق، الذي بدوره أوصى بالولاية – نصًّا- إلى عمر بن خطاب، وكذلك أوصى عمر أن تكون بين بضعةٍ من الصحابة، وترك أمر الاختيار بينهم، ولقد فضَّل الإسلام أن يُترك الأمر لأهل الحل والعقد؛ لتَبنِّي الآلية المناسبة لكل زمان ولكل أمة.

بقيت إمارة المؤمنين في الدولة الاسلامية الأولى مهيمنة على الشكل العام للحكم حتى انتهائها في المدينة المنورة وانتقالها إلى دمشق، ويشرح محمد حسنين في كتابه “الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة” نظام الحكم في الإسلام قائلًا: “الفكرة العامة في هذا النظام واحدة، لكن آثار هذه الفكرة تطوَّرت على القرون أطوارًا شتى، وبدت في صور اختلفت باختلاف البيئة التي حلَّت بها، والأحداث التي وقعت أثناءها، والثورات التي كانت الإمبراطورية الإسلامية في العصور المختلفة مسرحها، فإذا أردنا أن نُصَوِّر نظام الحكم في الإسلام تصويرًا يقربه من أذهان أهل هذا الجيل وجب علينا أن نقف وقفات سريعة عند طائفة من هذه الأطوار، ولعل وقفاتنا هذه تجلو لنا صورة تتمشى فيها الوحدة المستمَدة من الحياة الإسلامية، وإن غشيت هذه الوحدة في كثيرٍ من الأحيان مظاهر تجعل من المتعذِّر محاولة إثباتها بمقارنة الحكم الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد آل عثمان مثلًا”.

في دمشق وبغداد على التوالي تطورت فكرة الحكم، وأصبحت تحمل مسمى الخلافة الإسلامية، لكن بقي عمادها الحقيقي وشرعيتها تستمد من وجود الحرمين الشريفين تحت إدارة وسيطرة الحكم المركزي الذي يديره الخليفة في دمشق ثم في بغداد، وهذا ما حصل لاحقًا مع المماليك في مصر، الذين انتقلت إليهم الولاية عبر الخليفة العباسي المستنصر بالله، الذي هرب إلى القاهرة واحتضنه المماليك وجعلوه خليفة صوريًّا سنة 660هـ (1262م)، لكن من خلاله سيطر المماليك على الحرمين الشريفين.

انتقل مقر الخلافة من بغداد إلى القاهرة إثر احتلالها على يد المغول عام 656هـ (1258م)، وبقيت في مقرها الثاني – القاهرة- إلى سقوطها الثاني العام 923هـ (1517)، ولم تنتهِ الخلافة العباسية بسبب عوامل داخلية، بالرغم من حالة الضعف التي أصابت الدولة العباسية إثر دخول الفرس والأتراك إلى مفاصل الدولة، لكنها أتت بسبب احتلالين أعجميَّين، المغول في بغداد، والأتراك في القاهرة.

اغتصب سليم الأول الخلافة الإسلامية العربية بفرضه الإقامة الجبرية على آخر خلفاء العباسيين في القاهرة المتوكل على الله.

يقول بعض المؤرخين المنحازين تطرفًا للعثمانيين أن الخلافة انتقلت إلى آل عثمان بعد إسقاط المماليك في مصر، وأن آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله قد تنازل لسليم الأول سلطان العثمانيين عن الخلافة، غير أن المؤرخ المعاصر للحدث ابن إياس لم يتطرق لهذا التنازل، كما أن الرسائل التي أرسلها سليم الأول إلى ابنه سليمان لم تَرِد فيها أي إشارة لتنازل الخليفة عن لقبه للسلطان، كما أن المصادر المعاصرة لا تشير إلى مسألة نقل الخلافة إلى آل عثمان الذين لا ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى العرب.

إذن المؤرخون المعاصرون لتلك المرحلة، وكذلك وثائق ومراسلات الاحتلال العثماني لمصر، لم تؤيد الرواية العثمانية عن تنازُل الخليفة العباسي عن خلافته لسليم، بل كانت رواية صُنعت في إسطنبول ورُوِّجت في العالم العربي والإسلامي، وتبنَّتها التيارات الإسلاموية التي فضَّلت تلك الخلافة العثمانية على الخلافة الإسلامية الأولى في المدينة، وخلافة الأمويين في دمشق، وخلافة العباسيين في بغداد.

انتهت الخلافة تمامًا في شكلها الإسلامي العربي كنظام حكم على يد العثمانيين الأتراك، حين قام سليم الأول باختطاف الخليفة العباسي إلى إسطنبول، وهناك حدثت واحدة من أكثر الخدع السياسية في التاريخ، حين أُعلِنَ عن تنازل الخليفة العباسي محمد المتوكل على الله عن الخلافة لسليم، لتسقط بذلك الخلافة العباسية العربية إلى الأبد، وتبدأ بعدها ما يسمى بالخلافة العثمانية المزعومة وغير المعترَف بها شرعًا ولا عُرفًا.

استغل الأتراك العثمانيون اللقب لإضفاء القدسية على تسلُّطهم واحتلالهم، وعظَّموا الأراضي التركية على حساب المنطقة العربية، وحوَّلوها إلى مكينة لصناعة المال لصالح جبروتهم وظلمهم.

لم يتغير سلوك الحاكم التركي – الديني- بعد سرقة منصب الخلافة، فعلى سبيل المثال لم يحج أحد من سلاطين العثمانيين لا قبل الخلافة المزعومة ولا بعدها، لقد كانت الخلافة مجرد وسيلة حكم للعالم العربي والإسلامي، فبعد سقوط التمدد التركي العثماني في أوروبا إثر الخسائر الكبرى من الجيوش الفرنسية، واندفاع الأتراك لتعويض ذلك بالتمدد جنوبًا في البلاد العربية، كان لا بد من التدثر بدثار الخلافة، والسيطرة على الحرمين لإحكام القبضة على شعوب عاشت حوالي 900 عام تحت مسمى الخلافة العربية، فمن معركة مرج دابق 922هـ (1516) إلى بداية سقوط الاحتلال العثماني للبلدان العربية (1914)؛ استطاع الأتراك إحكام سيطرتهم مدة أربعة قرون باسم الخلافة.

وتزعم التنظيمات الإسلاموية أن العالم العربي والإسلامي خسر كثيرًا بسقوط الخلافة المزعومة، لكنهم يغفلون أن الذي قضى على مفهوم الخلافة التي وضع أُسُسها الخلفاء الأوائل كانوا هم العثمانيين بعد استيلائهم عليها في القاهرة، ونقلها إلى إسطنبول ثم تتريكها، لقد كانت الرصاصة الأخيرة في آخر حكم إمبراطوري عربي امتد من حدود الصين إلى الأندلس.

العثمانيون رغم ادِّعائهم الخلافة، فإنهم لم يصونوا جنابها، ولم يحرصوا على العمل بمبادئ الأخوة الإسلامية التي تدعمها فكرة الخلافة، بل رفعوا من ذلك، وحوَّلوها لأداة تخدم المصالح العثمانية، فعقدوا الاتفاقات مع المنافسين الصليبيين (الفرنسيين والإسبان)، وسمحوا بسقوط الأندلس، ولم ينجدوا أهلها، كذلك لم يتعاملوا مع العرب الذين احتلوا بلادهم وأكلوا من خيراتهم تعاملًا عادلًا رشيدًا، بل قدَّموا العنصر التركي وأقاموا فيهم العذابات والمذابح.

الأدبيات التي يحاول كوادر الحركات الإسلامية المتخادمة مع الأتراك تحاول تزوير التاريخ، ووَصْم كل من يخالف العثمانيين بأنهم يحاربون الإسلام، محاولين غرس فكرة رومانسية غير صادقة، تقول: إن عودة أمجاد الإسلام مرتبطة بعودة الخلافة العثمانية، وهي فكرة زائفة، مهمتها إعادة إنتاج خلافة بمقاييس عثمانية وشراكة حركية.

  1. أحمد عبد الرحيم، في أصول التاريخ العثماني، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 1986).
  2. علي عبد الرازق وآخرون، الدولة والخلافة في الخطاب العربي (بيروت: دار الطليعة، 1996).
  3. محمد حسين، الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2011).