العثمانية الجديدة والإسلام السياسي

استدعاء وتوظيف مزيف للتاريخ

يرى خبراء الإستراتيجيات الدولية أن سقوط الاتحاد السوفيتي، وتفكيك الوحدات السياسية التابعة له مع مطلع التسعينيات؛ كان نقطة تحول مهمة في موازين القوى العالمية، وخلق تحالفات جديدة، وصعود قوى إقليمية جديدة. وتعتبر تركيا الحديثة من أكثر الدول التي استفادت من هذا التحول الخطير الذي مر به العالم؛ إذ عقدت العزم على أن تصبح أكبر قوة إقليمية في شرق البحر المتوسط. ويرى البعض أن هذه السياسة بدأت مع الرئيس التركي تورجوت أوزال (توفي: 1993) الذي أعلن في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي أن القرن الحادي والعشرين لا بُد أن يكون قرنًا تركيًّا، مدشنًا بذلك سياسة صعود تركيا في شرق المتوسط.

ومع وصول حزب العدالة والتنمية، صاحب التوجه الإسلاموي، إلى الحكم في تركيا، بدأت ملامح سياسة جديدة في التخلي عن التقاليد العلمانية التي وضع أسسها مصطفى كمال أتاتورك (توفي: 1938)، ورسم سياسة جديدة عُرِفَت باسم “العثمانية الجديدة”. وتعمد هذه السياسة إلى استدعاء الإرث العثماني بملامحه السائدة، ليس فقط في تركيا، بل في معظم الشرق الأوسط حتى الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وعاد الحديث عما أُطلِق عليه “أيام المجد القديم للإمبراطورية العثمانية”، مع نظرة تريد إحياء هذا الماضي، وإعادة تشكيل النظام السياسي والاجتماعي التركي وفقًا لهذه الرؤية الجديدة. ويرسم البعض ملامح هذا التحول الخطير بأنه “هكذا عاد الفكر العثماني الذي ظل لوقت طويل في سبات قسري خلال أعوام حكم أتاتورك إلى الظهور من جديد… مما أدى إلى اقتراح هوية تركية عثمانية بطموحات جيوسياسية واسعة، وعليه لم تَعُد تركيا تقبل بفكرة أنها تُعَد ممرًا بين الغرب والعالم الإسلامي فقط، ولهذا أنشأت مشروعًا للتحول إلى دولة وسيطة بين كلا العالمين”.

ويشير البعض الآخر إلى الالتقاء في المصالح بين سياسة العثمانية الجديدة وأهداف الغرب، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، في إعادة رسم ملامح وخريطة الشرق الأوسط الجديد. ويرى هؤلاء أن حادث 11 سبتمبر 2001 كان بداية حقيقية لهذا التحالف الجديد؛ إذ عمدت أمريكا إلى محاولة خلق نزعة إسلامية جديدة في المنطقة تساعدها على مواجهة إسلام إيران “الشيعي”، وتمدده في منطقة الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه كبح جماح التيارات الإسلامية، وجذبها نحو النموذج الإسلاموي التركي الجديد: “بالنسبة للولايات المتحدة فإن دور تركيا في المنطقة سيضع في مواجهة إسلام إيران، إسلامًا لا يقل عراقة عنه، يغرف من إرث الدولة العثمانية، وسيكون لتركيا جاذبية أكثر بين المسلمين السنة في سوريا. كما ستكون تركيا القوة الجاذبة للإسلاميين في مصر والسودان”.

ويلتقي ذلك جليًّا مع أفكار العثمانية الجديدة، ومع صعود حزب العدالة والتنمية، ومحاولات الغرب إيجاد بديل إقليمي للتحكم في منطقة الشرق الأوسط، والإصرار على ضرورة تراجع الدور الإقليمي لأي قوة عربية محلية لصالح النموذج التركي. من هنا تمحورت سياسة العثمانية الجديدة حول نظرية العمق الإستراتيجي، من خلال الاستفادة من الموقع الجغرافي المتميز لتركيا بين الشرق والغرب، وإنهاء القطيعة التاريخية بين تركيا والشرق الأوسط، التي كانت وريثة العهد الأتاتوركي، وضرورة صعود تركيا من جديد، لتفرض سياستها العثمانية الجديدة على منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها البلاد العربية. وتستند هذه السياسات إلى نظرية “الحديقة الخلفية” التي تبنتها أمريكا في رؤيتها إلى أمريكا الجنوبية، وبالتالي -ووفقًا لسياسة العثمانية الجديدة- فالشرق الأوسط، ولا سيما المنطقة العربية، هو الحديقة الخلفية للسياسة الجديدة في المنطقة. ويعتبر أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي هو أهم منظِّري سياسات العثمانية الجديدة “أن المشروع التركي في الشرق الأوسط قد تم بناؤه من قبل من أُطلق عليهم العثمانيون الجدد بسبب رؤيتهم للتاريخ العثماني بنظرة إيجابية، على عكس العلمانية الكمالية، وعلى البُعد الحضاري الإسلامي القائم على رؤية إستراتيجية لسياسة خارجية تركية تسعى إلى استغلال الموقع الجيوبوليتيكي التركي بين آسيا وأوروبا والعلاقات التاريخية التركية مع دول الجوار من أجل تحقيق المصالح التركية السياسية والاقتصادية والعسكرية في الشرق الأوسط”.

تهدف إلى تحويل الشرق الأوسط حديقةً خلفيَّة لسياسة العثمانية الجديدة.

ويرى البعض أن تركيا استغلت أحداث ما سُمِّي بالربيع العربي بعد عام 2011 في صالح توظيف سياسة العثمانية الجديدة لصالحها، من أجل تغيير الأنظمة العربية واستبدالها بأنظمة جديدة من تيار الإسلام السياسي: “أن تركيا ومع انفجار ما سُمِّي بثورات الربيع العربي مطلع 2011 بدأت بالتخلي عن سياسة صفر مشاكل مع دول الجوار، والذي في الحقيقة لم يكن أكثر من مجرد شعار رنان تتغطى خلفه تركيا لدخولها إلى المنطقة من جديد، من أجل إعادة إحياء العثمانية الجديدة بشكل من الأشكال… وبدأت سياسة إحياء العثمانية الجديدة تتعزز معلنة عن نيتها في فرد البساط الإسلامي من المغرب إلى بحر قزوين عبر سعيها إلى إسقاط الأنظمة العربية واستبدالها بأنظمة أخرى يهيمن عليها التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين”.

وكان لا بُد أن يُصاحب ذلك حملة دعاية يمكن من خلالها توظيف التاريخ العثماني من أجل الترويج لسياسات العثمانية الجديدة. والحق أن تيار الإسلام السياسي في العالم العربي قد شارك بشدة في هذه الحملة من أجل إيجاد ظهير تاريخي للعثمانية الجديدة، بعد ما نجحت السياسات التركية في السيطرة على تيارات الإسلام السياسي السُّني في العالم العربي، ودفعها إلى الدخول في طاعتها. ليخرج علينا العديد من كتابات هذا التيار في إطار صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية وتوظيف ذلك في خدمة سياسات العثمانية الجديدة.

ولعل من أهم هذه الدراسات في العراق كتاب “الخلافة العثمانية: دولة القدر” الذي صدر في عام 2010، قبيل أحداث الربيع العربي. ومؤلف هذا الكتاب هو عابد توفيق الهاشمي، وهو أحد أهم رموز الحركة الإسلامية السُّنية في العراق. والمثير في هذا الكتاب هو استخدام الهاشمي مصطلح الخلافة العثمانية بديلًا عن مصطلح الدولة العثمانية، في خطوة أبعد نحو صناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية ومسألة الخلافة. والأكثر دلالة على ذلك هذا العنوان المثير “دولة القدر”.

وفي مصر، وقبيل الربيع العربي أيضًا، صدر عن الجمعية الشرعية، وهي من أهم المؤسسات الدينية للتيار الإسلامي، كتاب “دولة الخلافة العثمانية”؛ حيث يشير الكتاب إلى الدولة العثمانية على أنها: “ملحمة من ملاحم التاريخ وأسطورة من أساطير الزمان… طمس تاريخها الكافرون، وغفل عنها المسلمون”. ويظهر الهدف الحقيقي من هذا الكتاب، وهو الترويج لعودة “خلافة تركية”: “تأتي تركيا في صدارة الدول الإسلامية المؤهلة لقيادة قاطرة النهضة المرتقبة للعالم الإسلامي”.

هكذا تم توظيف الإسلام السياسي لخدمة سياسات العثمانية الجديدة، من خلال صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية.

  1. محمد أبو الحسن، وسط تواطؤ دولي، العثمانية الجديدة خطر يتربص بالشعوب العربية، موقع النهار العربي، 14/9/2021.

 

  1. سيلفيا سيمنسين، جذور العثمانية الجديدة لأردوغان، ترجمة: أحمد خضر، موقع الهيئة العامة للاستعلامات، القاهرة، 10 ديسمبر 2017.

 

  1. جمال واكيم، أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط، بيروت (2016).

 

  1. ضيا إسكندر، العثمانية الجديدة من موسعة إلى مصغرة، موقع الحوار المتمدن، 13/5/2022.

 

  1. مصطفى صلاح، الدور التركي الجديد في الشرق الأوسط في ظل مفهوم العثمانية الجديدة، المركز الديمقراطي العربي، 26 مايو 2017.

 

  1. عابد الهاشمي، الخلافة العثمانية: دولة القدر (بغداد: د.ن، 2010).

 

  1. الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، ملفات ساخنة: قضايا وهموم الأمة: دولة الخلافة العثمانية، القاهرة، د.ت.

ما تجاهله الإسلامويون

التاريخ الدموي للدولة العثمانية

منذ اتحاد التيارات الإسلاموية مع العثمانيين الجدد بدأت سردية عثمانية بهدف إعادة اجترار السلطنة العثمانية تحت مسمى الخلافة، وحاولت جاهدة بناء سيرة جديدة للسلاطين العثمانيين تنقلهم من بشريتهم إلى مرتبة أعلى، ولأجل تلك السردية يتم تقديم السلاطين العثمانيين في المخيلة العربية على أنهم فوق البشر، ومن أجل ذلك غيرت الوقائع وأخفيت الحقائق، وبنيت الدراما الرومانسية التي تروج لتلك السردية الجديدة، بل إنهم في أحيان كثيرة يرفعون السلاطين فوق مستوى الصحابة في انحياز متطرف لا مبرر له.

عند محاكمة السلاطين العثمانيين تاريخيًّا وسياسيًّا يجب النظر إليهم كما كانوا، فقد قدموا مصلحة عرقهم التركي ومصالح بلادهم فوق أي مصلحة أخرى، كما استخدموا من أجل تحقيق ذلك كل ما وصلت إليه أيديهم وتفكيرهم، ومنها اختطاف الخلافة الإسلامية وتحويلها إلى أداة للتسيُّد على العنصر العربي والتمدد في أراضيه وإخضاعه بسلطة الخلافة.

العثمانية والسلوك الدموي:

عُرف الحكم العثماني بدمويته، وتوغله في الدماء المعصومة، كما كان لتدخل النساء -وخاصة المحظيات منهن- في آلية انتقال ولاية العهد دوره وتأثيره الواضح في خط الحكم، لقد كانت روكسيلانة أشهر المحظيات، ووصلت إلى مراتب عليا في الدولة، حتى سُمِّيت بقرينة السلطان سليمان القانوني، وكانت تقتسم معه السلطة والنفوذ، حتى قادت ابنها للملك، بعدما حاكت داخل القصر المؤامرات لإزاحة أولياء العهد الأكبر سنًّا.

شرعنوا إزهاق النفس التي حرَّم الله من أجل السلطة والحكم.

سالت الدماء، وتلطخت أيدي السلاطين بها، ولعلنا إذا نظرنا إلى سلوك السلاطين الدموي، وآلية انتقال السلطة بينهم؛ فسنجد أنها لم تأخذ منهجًا شوريًّا إسلاميًّا ولا بيعة معتبرة، بل ذهبت نحو الانقلابات المتتالية والقتل والترويع الاستباقي، حتى وصل الأمر لقتل الأطفال الصغار، كل ذلك السلوك يتم إخفاؤه عمدًا، ويقدم بدلًا عنه الأدبيات العثمانية على أنها صور حديثة للخلفاء، ويتم إخفاء جرائمهم في حق الشعوب أو في سياستهم للوصول إلى كرسي الحكم والحفاظ عليه.

مفتتح القتل: محمد الفاتح

يقول أحمد المهداوي في بحثه عن “وحشية العرش العثماني”: من أجل شرعنة القتل على باب الحكم، جاء السلطان محمد الفاتح، بما لم يأتِ به أحد من قبله، إذ أراد غطاءً دينيًّا يبرر به قتل أخيه أحمد -المنافس المحتمل له على العرش-، وتم إدراج البند الخاص بقتل الإخوة في عهده ضمن مجموعة القانون (نامه)، الذي ينُصُّ على أن: “أيّ شخص يتولّى السُّلطة من أولادي، فمن المناسب أن يقتل الإخوة من أجل نظام العالم، وأجازه أكثر العلماء، فليعملوا به”. وهكذا، تحوّل قتل الإخوة من عُرفٍ في النظام العثماني إلى قانونٍ في نظام السلاطين السياسي.

بدأ محمد الفاتح حكمه بقتل أخيه الرضيع أحمد، وقد قام بتلفيق تهمة القتل إلى أحد رجالات دولته: علي بك أورانوس، خشية سُخط العامة، وأمر بقتله قصاصًا للمقتول.

سليمان القانوني يقتل أبناءه وأحفاده:

يقول رجائي عطية في كتابه “دماء على جدار السلطة”: “السلطان المتألم على قتل ولديه وأحفاده الخمسة، قد توجه إلى الله بالشكر والحمد على مصرع هذه الذرية المزعجة، التي كانت تهدد عرشه، وأنه يستطيع الآن أن يعيش في رغد وسلام”. ففي عهد سليمان القانوني، أعدم ولديه -ولي العهد- مصطفى، وبايزيد، وكل المصادر التاريخية تجمع على أن السلطان سليمان وقع تحت تأثير جاريته “روكسلانة”، التي أوغرت صدره ودفعته لقتل ابنه الأمير مصطفى من زوجته الأولى “مهدفران سلطان”، لإفساح المجال أمام ابنها سليم، وتمهيد الطريق له نحو العرش.

سليمان القانوني أوجد المسوغات القانونية والفقهية لإعدام ابنه؛ إذ سرعان ما استحصل على فتوى من شيخ الإسلام أبي السعود أفندي، مفادها أنَّ الأمير مصطفى أعلن العصيان ضد الدولة. ونُفِّذ الإعدام عندما حضر الأمير مصطفى للقاء والده في خيمته أثناء إحدى الحملات؛ حيث أُعدِم بخيطٍ من حرير من قِبل الجلادين، وهم أشخاص صم بكم، وِفقًا للتقليد العثماني في إعدام الشخصيات المهمة، ولم تتوقف الدماء هنا، بل إن القانوني استدعى ابنه الآخر بايزيد مع أولاده الأربعة (أورخان، محمود، عبد الله، عثمان) وقتلهم جميعًا؛ ليصفو الأمر لابن روكسيلانة سليم الثاني.

حقق سليمان القانوني مجدًا شخصيًّا، لكنه ذبح نصف ذريته، وأمر بذبح أهم وزرائه إبراهيم باشا، دون إنذار أو محاكمة، وهذا لا يبرر أبدًا أن يُقدَّم على أنه شخصية صالحة، كما يردد ذلك الإسلامويون والأدبيات التي تصنع على أعينهم.

السلطان مراد خان، حفيد الجارية “روكسيلانة” المفضلة عند جده سليمان القانوني، تولى الحكم بعد وفاة والده السلطان سليم الثاني، وما إن تولى الحكم حتى قتل إخوته الخمسة فورًا.

السلطان الذي قتل 19 من إخوته في ليلة واحدة:

ما إن تولى مقاليد الحكم السلطان محمد الثالث، ابن المحظية الإيطالية صفية، حتى قام بقتل إخوته التسعة عشر دفعة واحدة، وقام بخنقهم قبل أن يُدفَن أبوه، السلطان أحمد الأول، الذي كان أقلهم دموية، حيث اكتفى باحتجاز أخيه الأمير مصطفى حتى توفي.

  1. أحمد المهداوي، “وحشية العرش العثماني”، مرايانا، على الرابط:
    1. https://2u.pw/4BqdFXax

 

  1. رجائي عطية، دماء على جدار السلطة (القاهرة: دار الشروق، 2017).

 

  1. فلاديسلاف بايتسا، حمَّام بلقاني، ترجمة: هاني غرايبة (عمَّان: الآن ناشرون، 2019).

 

  1. طالب عزيز وجمان كبة، الحقيقة: معالم الحضارة الإسلامية (القاهرة: دار الكتب المصرية، د.ت).
تشغيل الفيديو

المستميتون في الدفاع عن جرائم العثمانيين

يعتبر التاريخ “عقب آخيليس” بالنسبة للأتراك العثمانيين، يمنعهم من بناء تلك الهالة حول الخلافة المزعومة، وبالتالي العجز عن تكريس تلك القوة الناعمة التي يمكن استغلالها ونشرها من أجل التأسيس لكيانات سياسية تابعة لهم إيديولوجيًّا وحضاريًّا. وحيث إن اللسان الأعجمي يخون السياسي العثماني؛ لجؤوا إلى الأجير الإخواني من أجل إعادة كتابة تاريخ عثماني على المقاس، من خلال التلاعب بالمعلومة التاريخية وانتقاء المصادر التاريخية، وبالتالي إنتاج الآلاف من الكتب الملغومة التي تغطي على الكتابات الموضوعية الموثوقة من أجل تدوين تاريخ على مقاس العثمانيين الجدد.

كرست الأقلام الإخوانية جهدها ووقتها من أجل تلميع التاريخ العثماني، ولو على حساب بني جلدتهم العرب، حيث تفننوا في الكذب والبهتان والتزوير، ملتحفين لبوس الدين من أجل إضفاء الشرعية على جرائمهم في حق التاريخ، وذلك بالرغم من أن السرد التاريخي يدخل في خانة الشهادة التاريخية والتي لا يكتمها إلا من هو آثم قلبه.

"كرست الأقلام الإخوانية جهدها ووقتها من أجل تلميع التاريخ العثماني".

وعلى سبيل الاستدلال لا الحصر، نجد المدعو علي الصلابي، وهو أحد أقطاب التنظيم الإخواني، يكرِّس كتابًا بعنوان “الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط”، من أجل تقديم “كل أنواع التبريرات لتبييض التاريخ الأسود للعثمانيين”، بل وانبرى للدفاع عن كل سقطات سلاطين آل عثمان وفضائحهم، وحاول رفعهم إلى درجات التبجيل والتقديس وتقديمهم كرجال لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم.

ويبدو أن الصلابي لم يقف عند سرد المعطيات التاريخية، بل تجاوز ذلك إلى حد التشكيك في قرارات اتخذها بعض سلاطين الدولة العثمانية نفسها، واعتبر ذلك مما دُس عليهم من طرف كتابات المستشرقين. وهنا نجده ينكر وجود فتوى بقتل الإخوة من أجل تفادي الصراع على السلطة، رغم أن المؤرخين الترك يعترفون بهذه الفتوى، حيث نجد مؤلف كتاب “تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الاندحار” يقول: “وهكذا فقد حرص السلطان عثمان الثاني قبل حملته على بولونيا أن يستصدر فتوى تبيح له قتل أخيه الأكبر محمد. إلا أن عثمان قتل في 1622م على يد الإنكشارية ليعود مرة أخرى عمه مصطفى إلى العرش”.

تستمر إستراتيجية تلميع التاريخ العثماني حتى عندما يتعلق الأمر ببلاد العرب والمسلمين، والتي عاشت، على عهد الأتراك العثمانيين، حالة من الصمت الحضاري السحيق. وهنا نجد صاحب كتاب “المسلمون في ميزان الحضارة الإسلامية” يقول: “ولقد قامت الخلافة العثمانية في مجملها بدور عظيم في نشر الإسلام وحماية الديار الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية ومبادئها من عدل ومساواة ورحمة وتسامح وإخوة وتعاون وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعمَّ الرخاء أرجاء الخلافة العثمانية، فكانت خلال خمسة قرون حسنة الدفاع والحماية للمسلمين والعرب”.

لقد اتخذ تلميع تاريخ الدولة العثمانية طابعًا ممنهجًا حاول أن يقدم سلاطين آل عثمان وكأنهم امتداد للدولة الإسلامية الأولى، وذلك بالرغم من كون المعطى الديني لم يكن هو المحرك وراء توسع الدولة العثمانية. وعلى خلاف ما ادعى البعض من كون “الدولة قامت بدورها في نشر الإسلام في أصقاع شتى من الأقاليم الأوروبية… فالإسلام عند العثمانيين دين محاربين مجاهدين في سبيل نشر الدين الإسلامي في القارة الأوروبية، وازدادت هذه الروح الحربية تأججًا في نفوس العثمانيين بعدما واجهوا تكتلات صليبية واسعة النطاق”، إلا أن واقع الحال يقطع بأن العثمانيين لم يأبهوا بنشر الإسلام أو باعتناقه من طرف المسيحيين؛ لأن ذلك كان يحرمهم من ضريبة الجزية التي كانت مصدرًا مهمًّا لخزينة دولتهم.

وتبقى جرائم العثمانيين في حق الأرمن من بين أهم جرائم الإبادة الجماعية التي اجتهدت في طمسها الأقلام المحسوبة على بعض التيارات الإسلاموية. وأمام حالة العجز في نفي ما اقترفته أيادي سلاطين بني عثمان؛ لجأ القوم إلى تبريرٍ وصل إلى حد استحلال دماء الأرمن واستباحتها. وهكذا رأى هذا التيار أن “مشكلة الأرمن في الحقيقة كان جزءًا من مخطط الدول الإمبريالية لهدم الدولة العثمانية وتقسيم ميراثها”.

انقسم المدافعون عن الدولة العثمانية إلى فريقين؛ أحدهما أنكر المجازر بالجملة، والثاني برَّأ الدولة العثمانية منها، وحمَّل مسؤوليتها لحزب الاتحاد والترقي، الذي ساهم، في رأيهم، ليس في المجازر فقط، وإنما في سقوط الدولة العثمانية. ويبدو أن الحكومة التركية من أتباع هذا التيار، وهو ما دفعها إلى حد استغلال مجازر الأرمن سياسيًّا، عندما اتهم أحد أحزاب المعارضة بهذه المجازر، وهو ما يشكل اعترافًا صريحًا بمسؤولية “الدولة” في هذه الإبادة، على اعتبار أن القانون الدولي يعتمد مبدأ “استمرارية الدولة” باعتبارها “شخص معنوي”، بغض النظر عن الأفراد الذين تحملوا مسؤولية الحكم أو اتخذوا قرارات باسمها.

  1. خالد طاشكندي، “الصلابي.. تزوير التاريخ”. مقالة نشرت على موقع ميدل إيست أونلاين على الرابط: https://middle-east-online.com/.

 

  1. خليل إينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الاندحار (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002).

 

  1. إسماعيل ياغي، الحضارة الإسلامية وأثرها في الغرب (الرياض: مكتبة العبيكان، 1418ه).

 

  1. إسماعيل باشا، “الحقائق والمزاعم”، مركز دراسات الشرق الأوسط، العدد 31.