عبد الحميد الثاني... رُغم زَيف سرديَّة رفضه بيع فلسطين للصهيونية
ازداد عدد المهاجرين اليهود إلى الضعفين في عهده ودفع هرتزل مبلغ (20 مليون جنيه إسترليني) لخزينة دولته
تعدُّ شخصية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أكثر النماذج الخلافية في التاريخ العثماني؛ إذ تصفه المصادر الأوروبية بـ “السلطان الأحمر“، في إشارة واضحة إلى ما تراه هذه المصادر من مسؤوليته المباشرة عن كثير من المذابح التي جرت في عهده، وعلى العكس من ذلك تحرص المراجع التركية ذات التوجه القومي والإسلاموي على رفض هذه السردية التي تقدمها المصادر الأوروبية عن عبد الحميد الثاني، وتقدِّم سردية تركية إسلامية تتجه إلى تحسين صورته، بل وصناعته بصورة البطل، ولعل ما كتبه المؤرخ التركي سليمان جوقة باش واصفًا إياه أنه “لم تستطع الاتهامات والافتراءات على حكم عبد الحميد أن تستمر وتَمضي قُدُمًا؛ لأنها لم تكن سوى افتراء عليه، ولربما كان للسلطان عبد الحميد أخطاء وأغلاط، والله وحده المُنَزَّه عن الخطأ والظلم… لكن هذا السلطان – عبد الحميد الثاني – حَرِيٌّ بأن يذكر بكل تجلة وتقدير، فاللهم ثَقِّل موازينه في دار الثواب“.
ولا يقتصر الجدل حول شخصية السلطان عبد الحميد الثاني ودوره في التاريخ على المصادر الأوروبية والتركية، وإنما انتقل إلى المراجع العربية التي تناولت تاريخ الدولة العثمانية بشكل عام، أو التي تناولت تاريخ السلطان عبد الحميد الثاني على وجه الخصوص، وتجمَّعَت العديد من العوامل وراء نشأة ظاهرة الدفاع عنه في بعض المراجع العربية التي ينتمي أصحابها على الأغلب إلى التيارات الإسلامية، وقد بدأت هذه الظاهرة مع الكتاب الأساسي في تكوُّن هذه الظاهرة، وهو كتاب “تاريخ الدولة العلية“، لمؤلفه المعروف محمد فريد بك؛ الذي ألَّف كتابه في مطلع القرن العشرين، وقام بإهدائه إلى عبد الحميد الثاني نفسه، الذي وضع أسس “الجامعة الإسلامية“، وإحياء الخلافة بشكلها التقليدي؛ لتوظيفها في سياسته الاستبدادية.
حاول عبد الحميد الثاني خداع الجماهير، ونسي أن للتاريخ كُتَّابًا حقيقيِّين لا ينطلي عليهم التزييف.
التيارات الإسلامية – وخاصةً بعد نكبة فلسطين في عام 1948- عملت على تحويل عبد الحميد الثاني إلى “أيقونة” إسلامية، تحت ادِّعاء أنه وقف في وجه الحركة الصهيونية، ورفض كل عمليات الاستيطان الصهيوني، وأن عملية إزاحته عن العرش كانت تمهيدًا لازدياد النفوذ اليهودي في فلسطين، وتمهيدًا تاريخيًّا لإعلان دولة إسرائيل بعد ذلك.
ويمكننا أن نرصد ملامح هذه السردية في العديد من الكتابات الت يينتمي أصحابها إلى التيارات الإسلامية، وبالقطع لن نستطيع أن نقدم دراسة مسحية لكل هذه الدراسات،لكننا سنختار بعض أهم هذه النماذج. وتعتبر المقدمة التي كتبها محمد حرب لترجمته لمذكرات السلطان عبد الحميد الثاني إلى العربية من النماذج الدالَّة في هذا الشأن، لا سيما أن محمد حرب هو في الأساس أستاذ للغة التركية، ومنذ البداية يشير إلى عبد الحميد الثاني على أنه “يشكل أساس فكرة الوحدة الإسلامية“.
ويذهب بعد ذلك حرب في طريق السردية الأسطورية حول عبد الحميد ودوره في الدفاع عن فلسطين، ويقول: “على الساحة الفلسطينية نجد أن الفلسطينيين يذكرون السلطان عبد الحميد الثاني بكل تقدير وبكل احترام؛ ذلك لأنه حمى بلادهم ولم يُفَرِّط فيها، فهي في نظره الأرض المقدسة التي ينبغي أن يحميها كخليفة للمسلمين“، وسنرى مدى هوان هذه السردية الأسطورية وهشاشتها، وخاصةً أمام الدراسات الحديثة.
لكن حرب لا يكتفي بذلك، بل يلجأ إلى نظرية المؤامرة، ويشير صراحةً إلى دور الصهيونية وراء إسقاط حكم عبد الحميد الثاني، وعلى الساحة اليهودية لا يخلو كتاب يهودي من إدانة عبد الحميد بأنه عرقل الفكرة الصهيونية، وعندما فشل اليهود في إقناعه أيَّدوا معارضيه، سواء من العثمانيين أنفسهم – الاتحاد والترقي ومَن شابههم – وأيَّدوا المحافل الماسونية في الجيش العثماني وفي الدولة، وأقاموا في أوروبا قيامة الصحافة“، هكذا يظهر لنا عبد الحميد الثاني كأنه أيقونة إسلامية، وحامي فلسطين، وأن إزاحته عن الحكم كانت مؤامرة من أجل ضياع فلسطين.
ونجد نفس ملامح السردية الأسطورية لعبد الحميد الثاني عند أحد أشهر مؤرخي حزب الإخوان الإرهابي، وربما المؤرخ المعتمد الأول لديهم، وهو عليّ الصلابي؛ حيث يضع الصلابي أحد أشهر كتبه حول “السلطان عبد الحميد الثاني وأسباب زوال الخلافة العثمانية“، ومن البداية يظهر التوظيف الديني للتاريخ عند الصلابي والسردية المقدسة التي يحاول رسمها حول تاريخ عبد الحميد الثاني؛ إذ يرى أن سقوطه كان سببًا رئيسًا لزوال ما يُسمِّيه الخلافة العثمانية، بل وضياع المسلمين: “غياب القيادة الربانية كسبب في ضياع الأمة“.
لم يكتفِ الصلابي بالنظر إلى عبد الحميد على أنه “القيادة الربانية“، بل يؤكد على أن اليهود كانوا السبب الرئيس وراء إبعاده عن الحكم بقوله: “إن حقيقة الصراع بين السلطان عبد الحميد الثاني واليهود من أهم الأحداث في تاريخ السلطان المسلم الغيور“.
ويربط ربطًا صريحًا بين إبعاد عبد الحميد عن الحكم، وبين المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ويرى أن “الغاية من هذا – الإطاحة بعبد الحميد– هي تحقيق المشروع الاستيطاني الصهيوني باستيطان فلسطين، وكان يهود الدونمة يشكِّلون اللبنة الأولى لتنفيذ المخططات اليهودية العالمية“.
وتُقدِّم الدراسات التاريخية العربية المنهجية والموضوعية سرديةً أخرى مغايرة عن عبد الحميد الثاني ومسألة الاستيطان الصهيوني في فلسطين؛ إذ رفض عبد الحميد في البداية التوسع في الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وأصدر قرارات بمنع هذه الهجرات، لكنه تحت ضغط الديون المتراكمة على دولته، وتدخلات الدول الأوروبية، تحوَّلت سياسته إلى التناقض الشديد بين أوامر منع الهجرة التي يُصدِرها في العلن وفشل التدابير العملية على أرض الواقع؛ لتنفيذ هذا المنع، والحد من الهجرات اليهودية إلى فلسطين، بل والأكثر من ذلك أن عبد الحميد الثاني دخل في مفاوضات مع زعيم الصهيونية العالمية هرتزل امتدت في الفترة من عام 1896 إلى عام 1903.
وتصل المؤرخة فدوى نصيرات إلى نتيجة مهمة وخطيرة حول مسؤولية السلطان عبد الحميد الثاني نفسه عن تزايُد الهجرات الصهيونية إلى فلسطين إذ تقول: “السلطان عبد الحميد الثاني يتحمل مسؤولية كبيرة جدًّا، إن لم نقل المسؤولية الأكبر في تسرُّب أراضي فلسطين للمنظمات الصهيونية، وقيام البنية الاستيطانية الأولية التي تأسَّسَت عليها دولة إسرائيل فيما بعد“.
وهنا نصل إلى أن السردية الإسلامية وظَّفَت شخصية عبد الحميد الثاني كبطل مدافع عن الإسلام وفلسطين أمام الاستيطان الصهيوني، وأغفلت كونه متناقضًا؛ يعلن دفاعه عن فلسطين، وفي الوقت نفسه ينهار أمام الصهيونية بحجة ضعف دولته وانهيارها، بسبب زيادة الديون المتراكمة عليها، وبالتالي يُرضي الرأي العام المحلي بشعاراته حول حماية فلسطين، وفي الوقت نفسه يَغُضُّ الطرف عن ازدياد الهجرات اليهودية، حتى أن المؤرخ التركي جوقة باش لم يستطع إنكار ذلك، حيث يقول: إنه مع بداية سياسة إصدار أوامر المنع من جانب عبد الحميد في عام 1882 كان عدد اليهود في فلسطين قد بلغ خمسة وعشرين ألفًا، ثم وصل هذا العدد في سنة 1908- سنة عزل عبد الحميد– إلى ثمانين ألفًا“.
وهنا ببساطة شديدة عمد عبد الحميد الثاني إلى الظهور أمام الجماهير بما يوافق رغباتها، فبعد إعلان رفضه بيع فلسطين دخلت إلى خزينة الدولة العثمانية مبالغ طائلة قياسًا بزمنه، حيث دفعت إليها الصهيونية العالمية مبلغ (20 مليون جنيه إسترليني)، وعمليًّا ارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى أرض فلسطين ضِعفَي ما كانوا عليه قبل المفاوضات بين عبد الحميد الثاني وزعيم الصهيونية تيودور هيرتزل.
- سليمان جوقة باش، السلطان عبد الحميد الثاني، ترجمة: عبد الله أحمد (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2008).
- فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876- 1909 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
- مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، ط3 (دمشق: دار القلم، 1991).
- محمد فريد بك المحامي، الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1981).
الواقع الذي يحاول تزييفه المؤدلجون
العثمانيون تعاملوا مع البلاد العربية كمحميَّات ليست أصلًا في حدود دولتهم
أخذ الاحتلال العثماني للبلدان العربية جدليةً واسعة بين المؤرخين، منهم من يراه امتدادًا للدولة الإسلامية، وآخرون يرون بأنه لا يَعدُو كونه احتلالًا حقيقيًّا، بحكم ما اقترفه العثمانيون من جرائم وفظائع منذ أول سِنِي احتلالهم ضد العرب والمسلمين، وبسبب استنزافهم الاجتماعي والاقتصادي والفكري للمنطقة العربية.
لذا يحاول المدافعون عن العثمانيين رفض أي سرديَّة تبيِّن جُرم العثمانيين وكرههم للجنس العربي، ويعزونها إلى نظرية المؤامرة، فيما أنهم في الوقت نفسه يتجاهلون الأحداث والوقائع الحقيقية والمصادر التاريخية التي عاصرت الأحداث، ويحاولون في الوقت نفسه الابتعاد عن كل مصدر يَدِين العثمانيين أو يذكرهم بما يكشف حقيقتهم.
ووفق الواقع التاريخي فإن الدولة العثمانية لم تكن إلا محتلة احتلالًا حقيقيًّا للبلاد العربية، بل إنه لا يختلف عن الاستعمار الأوروبي الذي تلاه بعد ذلك في بعض المناطق، فالعثمانيون تعامَلوا مع المنطقة العربية من دون دمجها ضمن منظومة الدولة، إنما تعامَلوا معها كما تعامَلوا مع أي منطقة أخرى استعمروها، بالاستنزاف والتجهيل والتأخير والقهر الاجتماعي، والشيء الوحيد الذي كانوا يعتبرون من خلاله أن المنطقة العربية ضمن منظومة الدولة؛ هو الشعارات التي كانوا يسوقونها لكسب الولاء وفرض السيطرة فقط، وباعتبارها خزانًا للجيوش (مصر، تونس، الجزائر) أو مصدرًا لشرعنة سياستهم التوسعية من خلال احتلالهم للحرمين الشريفين.
هذه العلاقة الهجينة بين البلدان العربية والدولة العثمانية دفعت هذه الأخيرة إلى إقحام هذه المستعمرات في سلسلة من المساومات السياسية والدبلوماسية، والتي أثبتت رعونة في تقديرات الموقف لدى إدارة العثماني عبد الحميد الثاني.
لقد شكَّلَت الحرب العثمانية الروسية سنة (1877) بداية الاندحار السياسي والترابي للعثمانيين، وهو ما دفعهم للجوء إلى ما يسمى في حقل العلاقات الدولية بـ “دبلوماسية المحاور”، وذلك من خلال اللجوء إلى بريطانيا لدعمها ضد تغلغل القوات الروسية التي أصبحت على مرمى ومرأى من العاصمة إسطنبول.
وهنا وقع العثمانيون ضحية دهاء البريطانيين الذين أقنعوهم بأنهم “حلفاء وأصدقاء العثمانيين ضد المطامع الروسية.. ولم ينتهِ مؤتمر برلين إلا وقد وقَّعت الدولة العثمانية اتفاقًا سريًّا مع بريطانيا يسمح للبريطانيين باحتلال جزيرة قبرص في حال تحركت القوات الروسية بشكل يهدِّد الدولة العثمانية”.
اعترف عبد الحميد الثاني في مذكراته بتقاعسه في الدفاع عن تونس ومصر، ومع ذلك يستميت المؤدلجون من تيارات الإسلام السياسي في إيجاد المبررات وتقديم المسوغات التي تبرئ السلطان العثماني من هكذا اتهام، وهنا نجد أحد أبرز المراجع الإخوانية يؤكد على هذه النقطة بالقول: “إن السلطان عبد الحميد الثاني نجح في إحياء شعور المسلمين بأهمية التمسك والسعي لتوحيد صفوف الأمة تحت راية الخلافة العثمانية”.
ورغم أن الدولة العثمانية ظلت تدَّعي بأن لها حقوق سيادية على مصر؛ إلا أنها تقاعست عن الوقوف في وجه المشروع الاستعماري البريطاني لمصر، وهنا نسجل بأن “الباب العالي كان قد اعتاد لحقبة من الدهر امتهانَ أوروبا لكرامته، واعتداءها على حقوقه، وتعديها على سلطاته، وعليه أن ينصاع راضيًا أو كارهًا لأوامرها، ولذا كان السلطان عبد الحميد قد وطَّن العزم على كظم غيظه وانتظار الظروف”.
بمذكراته: اعترف عبد الحميد الثاني بتقاعس دولته حيال الاحتلال الإنجليزي لمصر.
إن اعترافات عبد الحميد الثاني في مذكراته وشهادة ممثل التيار الإخواني، بالإضافة إلى الطرح أعلاه، كلها قرائن تقطع بأن الدولة العثمانية فرَّطت في واجب الدفاع عن مصر، واعتبرت بأن الدفاع عنها مغامرة سياسية قد يكلِّفها أجزاء من قلب الدولة، وهو ما يقطع بأن السلطنة كانت تعتبر المناطق العربية مجرد محميات لم تَرْقَ لأن تكون جزءًا من تراب الدولة.
ويمكن القول أن عبد الحميد حاول اللجوء إلى “دبلوماسية المحاور” من أجل الضغط على إنجلترا من أجل رفع يدها عن مصر، إلا أن دهاء الدبلوماسية البريطانية جعلها تنجح في “تنويم” المطالب العثمانية حين “أبدت رغبتها في الجلاء ولكن بشروط تتعلق بظروف مصر الداخلية والخارجية، وتقدير إنجلترا لهذه الظروف”.
وبطبيعة الحال فإن تقدير الظروف الداخلية والخارجية لمصر يدخل في نطاق “التقدير التمييزي” لبريطانيا، وهو ما أعطاها مبرِّرًا للاستمرار في مصر حتى بعد سقوط الدولة العثمانية. وإن العلاقة بين مصر والدولة العثمانية لم تكن علاقة عامودية بين الدولة وإحدى ولاياتها، وإنما كانت تبعية اسمية، زاد من تأكيدها حكم محمد علي الذي لم يكن ليقبل أن يتم استعماله فقط للبطش بالحركات المطالِبة بالحرية والعدالة الاجتماعية.
ولعل الغريب في هذه العلاقة ما وثقته معاهدة لندن سنة (1840)، التي تقرَّر من خلالها “استقلال مصر داخليًّا مقابل دفع جزية سنوية للسلطان العثماني… وبذلك أصبحت مصر دولة ناقصة السيادة”.
ويجدر بنا التذكير إلى أن معاهدة لندن تؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه من كون علاقة الدولة العثمانية بمصر هي علاقة “حماية” وليست علاقة بنيوية، على اعتبار أن اتفاقيات الحماية تترك للدول حرية ممارسة شؤونها الداخلية، مع احتكار كل ما يتعلق بالشأن الخارجي.
إجمالًا يمكن القول بأن العثمانيين أرادوا بقاء مصر تحت سلطانهم ولو اسميًّا؛ لما تمثله مصر إستراتيجيًّا وتاريخيًّا، كما استعملوا جيوشها في إخماد بعض الحركات الاستقلالية، وبعد انفراط عقد العلاقة بإسطنبول وجدت مصر نفسها دولة ضعيفة وناقصة السيادة، وفريسة سهلة للاستعمار البريطاني.
- جرجي زيدان، مصر العثمانية، تحقيق: محمد حرب (الإسكندرية: دار الهلال، 2003).
- سيِّد محمد، مصر في العصر العثماني في القرن السادس عشر (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1997).
- عبد الرحيم عبد الرحمن، فصول من تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في العصر العثماني (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990).
- مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، ط3 (دمشق: دار القلم، 1991).
الحركيُّون والمؤدلجون
تجاوزوا التاريخ الحقيقي للمزيَّف دفاعًا عن عبد الحميد الثاني
يُعَد عبد الحميد الثاني بن عبد المجيد الثاني السلطان الرابع والثلاثين من سلاطين الدولة العثمانية، وآخر من امتلك سلطة فعلية منهم، وتولى الحكم عام (1876)، ثم أُبعِد عن العرش عام (1909) بتهمة الرجعية، وأقام تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته في 10 فبراير (1918)، تلقى تعليمه بالقصر السلطاني، وأتقن اللغات: الفارسية والعربية.
عُرف عبد الحميد الثاني بأنه صاحب روح متقلبة وقرارات خاطئة، فبالرغم من أنه ادَّعى الإصلاح السياسي في بداية عهده، وعهد بمنصب الصدر الأعظم إلى مدحت باشا أحد زعماء الإصلاح، وأمر بإعلان الدستور؛ فإنه انقلب عليه سريعًا، ورغم ادِّعائه الصلاح والاهتمام بالمرجعية الإسلامية فإنه قَبِل دستورًا مقتبسًا عن دساتير دول أوروبية مثل: (بلجيكا وفرنسا وغيرها)، الدستور الذي ضم (119 مادة) تضمَّنَت حقوقًا يتمتع بها السلطان كأي ملك دستوري، وعُرف في الغرب باسم “السلطان الأحمر”، أو “القاتل الكبير”، بسبب مذابح الأرمن التي بدأت في فترة توليه السلطنة.
لا يمكن فهم شخصية عبد الحميد الثاني من خلال السردية الإسلاموية، التي اختلطت بالكثير من الأكاذيب والرومانسيات، في محاولة ليس لتحسين سمعة السلطان فقط، بل لإنقاذ الرمزية “الخلافاتية” التي لطالما أراد الإسلاميون إبقاء جذوتها مشتعلة في العقل والوجدان العربي.
لقد تواطأت التنظيمات الإسلاموية مع العثمانيين الجدد؛ لتحويل عبد الحميد من سلطان سقطت بسبب سياسته البراجماتية فلسطين والأقاليم العربية الأخرى – التي كانت تحت احتلال بلاده بيد الاستعمار – إلى سلطان صالح، والغريب أن محاولة تحسين صورته تحولت إلى محاولة نقله من رمز السقوط إلى رمزية المناضل من أجل الحقوق الإسلامية والعربية، فهل ذلك كان حقيقيًّا.
في بحث لـ سليمان الضحيان يقول: “أكثر السلاطين – العثمانيين- تمجيدًا من الحركيين الإسلاميين السلطان عبد الحميد الثاني، فهو يُعَدُّ في نظرهم بطلًا إسلاميًّا، لكن بقراءة تاريخ السلطان عبد الحميد يتضح أنه من أكثر السلاطين المتأخرين استبدادًا، فنتيجة ضغوط الحركة الدستورية أسَّس برلمانًا (مجلس المبعوثان)، وقبل أن يتم المجلس دورة انعقاده الثانية عطَّل السلطان عبد الحميد المجلس، وأمر بعودة النواب إلى بلادهم، ونفى البارزين منهم، ولم يَعُد عقد المجلس ثانية للاجتماع طوال 30 عامًا، ووسع من صلاحيات المخابرات التي كانت مهمتها التجسس على الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية”، ومحصل القول حسب الباحث: إن عبد الحميد مجرد سلطان مستبد، ولا يستحق الهالة التي وضعها الحركيون.
عهد عبد الحميد الثاني:
مرت الدولة العثمانية إبَّان عهد عبد الحميد الثاني بأزمات دولية وأخرى داخلية خانقة، هدَّدَت مصير الدولة العثمانية ووحدة أراضيها، فمنذ اليوم الأول الذي تولى فيه عبد الحميد عرش الإمبراطورية وجد أن العديد من الثورات تقوم عليه وعلى سلطانه في العديد من الأقاليم التي وقعت تحت الاحتلال العثماني، بدءًا من إقليمَي البوسنة والهرسك، وليس انتهاءً ببعض أطراف الجزيرة العربية، إضافةً إلى الحرب المباشرة مع روسيا القيصرية التي كشفت عن ضعف الدولة العثمانية في حماية حدودها، كما استولت فرنسا على تونس في عهده عام (1881)، وإنجلترا على مصر عام (1882).
وعلى صعيد الإدارة الداخلية لعبد الحميد فقد تم إعلان الدستور (1876)، وتم إنشاء مجلس نيابي، لكنه عاد وعطَّل الدستور وحلَّ البرلمان سنة (1878)، وهو ما جعل حكمه ديكتاتوريًّا بشكلٍ مطلق على مدى ثلاثة عقود متتالية كانت الخزينة العثمانية فيها شبه خاوية، والديون تُكَبِّل الدولة، الأمر الذي دفع الحكومة إلى التفتيش باستمرار عن مصادر دولية جديدة للقروض بفوائد وشروط قاهرة.
وعلى الرغم من كل تلك المعوقات فإن عبد الحميد الثاني نجح في المحافظة على حكمه بالقمع والاستبداد، كما حاول كسب ولاء المسلمين بدعمه فكرة الجامعة الإسلامية التي رأى بها سياجًا يحمي دولته من الأخطار التي كانت تحيق بها من الدول الغربية، وفي المقابل حارب خصومه، مستعينًا في سبيل ذلك بأجهزة أمن قمعية تعتمد على شبكة واسعة من المراقبة والتجسُّس.
شخصية السلطان المتقلبة وإخفاقاته السياسية كانت هي الرصاصة الأخيرة التي أصابت السلطة العثمانية، وهي التي حاول العثمانيون الجدد إخفاءها، لذلك كان عبد الحميد من أكثر السلاطين الذين أخطأوا في السياسة، وخاصة معالجته للتحديات بالمذابح والاستبداد، ولعل لقب السلطان الأحمر يعبر عن ذلك بوضوح، بسبب المذابح التي ارتُكِبَت في عهده، بل وقيامه شخصيًّا بتشكيل مليشيات سُمِّيَت باسمه، عملت على التطهير السياسي بناءً على الولاء والهوية والمرجعية الدينية، لقد كانت مذابح الأرمن التي وقعت في عام (1894) وحتى عام (1896)، واحدة من أكبر إخفاقات السلطان الذي استباح حياة ملايين من المواطنين الأرمن العُزَّل، وهي أعمال عنف ارتكبتها الدولة العثمانية ضد الأرمن الأتراك، وكانت تهدف إلى إبادة جماعية، كانت التهمة الوحيدة أنهم خانوا الدولة مع الروس، وأنهم جواسيس يحاولون الانقلاب على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، تُهَم مرسلة لكنها أدَّت الى نحر وقتل الملايين.
خيوط اللعبة تنفرط من بين يدي السلطان:
بعيدًا عن الصراع داخل القصر بين التيار السلطاني المتحالف مع الدين، وبين التيار القومي الليبرالي ذي النزعة العلمانية، إلا أن عدم إدراك عبد الحميد للأوضاع الخطيرة التي وصلت إليها بلاده، وتصرفاته وقراراته كانت هي بلا شك ما أدَّى في نهاية المطاف لانهيار بلاده.
يقول الباحث ناصر عبد الرحيم حسين مؤلف كتاب (الصراع بين قوى الإصلاح والسلطان عبد الحميد الثاني): “أدى تدهور حال الدولة العثمانية وفقدان هيبتها وبعض أراضيها إلى البحث عن حلول لهذا الوضع المتأزم رغبة في العودة إلى عصور الرقي والهيبة. وانشغل بهذا الأمر کلٌّ من السلطة الحاکمة المتمثلة في السلطان ورجال الدولة، وأيضًا المثقفون، لکن جميع المحاولات لم تمنع الدولة وتوقفها من حالة انهيارها التي تسارعت وتيرتها يومًا بعد آخر”.
ويشير الباحث إلى انشغال مثقَّفي الدولة بأعمال الإصلاح التي هدفت إلى عودة الدولة إلى سابق عهدها من قوة وهيبة، لکن هؤلاء المثقفين، الباحثين عن إصلاح الوضع، واجهوا صعوبات جمة من قِبَل السلطة الحاکمة – هي هنا سلطة عبد الحميد التي كانت في أسوء تصرُّفاتها – التي كانت تَقضِي بحبس البعض ونفي البعض الآخر، واختلفت الرؤى الإصلاحية بين المثقفين والسلطان عبد الحميد الثاني ورجال الدولة.
في الوقت الذي آمَن فيه السلطان بضرورة الإصلاح وفقًا لرؤيته للمجتمع العثماني، نجد أن جماعات الإصلاح تؤمن بالتغيير الجذري لکل شيء في المجتمع من نظام حکم وقوانين وتشريعات وفقًا للنمط الأوروبي دون مراعاة أي خصوصية للمجتمع العثماني.
لقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني التخلص من خصومه ومعارضيه بالقتل، ومنهم مدحت باشا ورفاقه، وهو ما أحدث الكثير من الانشقاقات وانحراف الدولة عن مسارها.
دور السلطان في ضياع فلسطين:
تقول فدوى نصيرات في كتابها (دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين): “يُعَدُّ فَرمان تَملُّك الأراضي أحد التنظيمات التي تركت بصمات واضحة المعالم على أراضي الدولة العثمانية، لقد جاء – الفرمان- نتيجة الضغوط الخارجية التي حتمتها تدخلات الدول الأوروبية، والتنافس فيما بينها في النشاط القنصلي والديني والقافي والاقتصادي، وضغوط سفرائها في إسطنبول والقنصليات المنتشرة في المدن الأخرى، والمطالبة برعاياهم بتملك الأراضي والعقارات، وما أن صدر هذا الفرمان، حتى أخذ المهاجرون اليهود ممن يحملون جنسياتها – العثمانية – بتشييد الأحياء وشراء الأراضي لأغراض البناء حتى دون حاجة لأخذ موافقة إسطنبول”.
ضاعت فلسطين، وأصبحت أراضي جاذبة للمواطنين “اليهود العثمانيين”، وأبناء عمومتهم المهاجرين الذين توافَدوا إلى السلطنة، وهي من سمحت لهم بلَمِّ الشمل.
لقد كان لتحالف عبد الحميد الثاني مع مؤسِّس الحركة الصهيونية “هيرتزل” دوره الكبير في ضياع فلسطين للأبد، كما أن إدارته الفاشلة للعلاقات مع الحلفاء، وإبقاء تحالُفه مع دول ألمانيا جعل من بلاده إحدى ضحايا الحرب العالمية الأولى، كان اقتصاد بلاده مُثقَلًا بالديون، ورهينة لدول أوروبية عديدة، ما اضطره لبيع أجزاء من بلاده لصالح سداد الديون، لكن فلسطين كانت ضحية قرض جاءه من صديقه هيرتزل، الذي منحه عرفانًا بذلك النيشان المجيدي.
أضاع فلسطين وأقنعهم بمبررات ساقها في مذكراته.
ومع أن فلسطين هي واحدة من أهم القضايا التي استخدمها الحركيون والإسلام السياسي، إلا أنهم يَغُضُّون النظر عن فشل عبد الحميد في إدارة ملفها، بل إنهم يغسلون ما قام به، ويقدمونه على أنه خدمة ودعم لعروبة فلسطين، بينما التاريخ والحقائق التي لا يمكن محوها وهي تقول بأن السلطان عبد الحميد الثاني سبب ضياعها بسبب تصرفاته وتواطؤه مع الحركة الصهيونية، بلا شك إننا وبعد مرور قرن وأكثر من رحيل عبد الحميد لا تزال تدفع منطقتُنا العربية الثمن غاليًا جرَّاءَ تصرُّفاته وأخطائه السياسية.
- فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876- 1909 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
- مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، ط3 (دمشق: دار القلم، 1991).
- ناصر عبد الرحيم، “الصراع بين قوى الإصلاح والسلطان عبد الحميد الثاني في رواية (الموت في الطائف) للأديب حفظي طوبوز”، مجلة بحوث كلية الآداب، جامعة المنوفية، مصر، ج121 (2020).
- سليمان الضحيان، الحركيون الإسلاميون والحنين للدولة العثمانية، صحيفة مكة، 17 يوليو (2017).