الدراما التركية

صنعت تاريخًا تخيليًّا لصياغة سرديَّة عثمانية جديدة

عُرفت السينما مع أواخر القرن التاسع عشر، لكنها ازدهرت متغيرات القرن العشرين، حتى إن البعض قال: إنها “تاريخ القرن العشرين”؛ حيث رسَّخَت سحر الصورة المتحركة والدراما، والقدرة على التلاعب بخيال المشاهد، وصناعة رأي عام جديد.

ومنذ البدايات انتبهت الحكومات، وأصحاب الأيديولوجيات المختلفة إلى أهمية السينما وسحر الدراما على الجماهير، من هنا يشير المؤرِّخون إلى إدراك الاتحاد السوفيتي في روسيا والنظام النازي في ألمانيا إلى أهمية ذلك في صناعة التوجُّهات، وتقديم تاريخ مُوازٍ يخضع للأيديولوجية، ويتلاعب بقلوب وعقول الجماهير، ويضرب المؤرخ مارك فيرو المثل بنموذج السياسي والماركسي تروتسكي، الذي أدرك أهمية الصورة والدراما كسلاح دعاية، بل وكتب يقول: “يجب علينا اقتناص الفرصة”، ويمكن هنا الإشارة إلى سينما هوليود، وكيف لعبت دورًا مهمًّا في صناعة “الحلم الأمريكي”، والبطل الأمريكي الخارق، وتصدير هذه الصورة والترويج لها عالميًّا.

وفي السنوات الأخيرة أدرك النظام التركي أهمية الدراما التليفزيونية، التي ورثت إلى حدٍّ كبير تراث وسحر السينما كسلاح دعائي؛ لصناعة توجُّهات تخدمها في المنطقة، وألقى الإعلام التركي بثقله وراء صناعة الدراما التاريخية على وجه الخصوص، ويرجع البعض ذلك إلى إدراك الإعلام التركي أهمية “استخدام الدراما التأريخية لخدمة أغراض سياسية مستترة”، حيث تم تمرير ذلك من خلال الإنتاج الدرامي الضخم، والإخراج الفني، واللعب بخيال المُشاهد من خلال الديكور والملابس التاريخية والمناظر الطبيعية الخَلَّابة، بحيث يستطيع هذا العمل الدرامي أن يسلب لُبَّ المُشاهد، ويجعله يوميًّا مقيَّدًا على كرسيه في منزله أمام الشاشة ليتابع هذه الأحداث الدرامية.

ويرى البعض أن أهداف الإعلام التركي من وراء الدراما التاريخية لها بُعد داخلي، وبُعد إقليمي؛ فعلى المستوى التركي الداخلي نجحت إلى حد ما الدراما التاريخية في اللعب على المُشاهد التركي من خلال “النوستالجيا التاريخية”، والحنين إلى ماضي الدولة العثمانية؛ من ناحيةٍ لتجاوُز الأزمات الداخلية الخانقة، سواءً على المستوى السياسي أو الاقتصادي، ومن ناحية أخرى لمحاولة الاصطفاف وراء المشروع العثماني الجديد، ونمو النزعة العثمانية لدى قطاعات من الشعب التركي.

وعلى المستوى الإقليمي، وبصفة خاصة المنطقة العربية، سعت الدراما التاريخية التركية إلى تغيير “صورة التركي والنظم التركية في المخيال العربي، بعد أن كانت صورة نمطية سلبية عرفها أجدادنا العرب طوال القرون الثلاثة الأخيرة”.

وربما ساعد على ذلك حالة الأمية التاريخية التي يعاني منها بعض العرب في ظل غياب المواقع والمنصات العربية التي تقدِّم التاريخ بشكل موضوعي، هذا فضلًا عن مشكلة البُعد عن الكتب التاريخية، من هنا أصبحت الدراما هي المصدر الوحيد للمعرفة التاريخية في عالمنا العربي، وضاعف من تأثير الدراما التاريخية التركية على ذهنية المشاهد العربي عزوف الدراما العربية عن تقديم الأعمال التاريخية.

ويشير البعض إلى مدى توظيف الدراما التركية التاريخية من جانب الإسلام السياسي في صراعه مع الأنظمة المدنية في العالم العربي؛ إذ روَّجَت الجماعات الإسلاموية للدراما التركية التاريخية على أساس أنها تاريخ مُشرق للإسلام، وبالتالي ضرورة العودة إلى الماضي، في نظرة ماضوية للتاريخ لا علاقة لها بالتاريخ الحقيقي.

وحرصت الدراما التاريخية التركية على النزعة الانتقائية في التاريخ، والتركيز على المزيف والتاريخ التخيُّلي، كما أنها لا تتعرض للحظات الضعف في التاريخ التركي قبل نشأة الدولة العثمانية، أو حتى لحظات ضعف الدولة العثمانية، بل انتقت الدراما بعض اللحظات التي تُصوِّر قوتها، وأضافت إليها الكثير من الخيال؛ ليكون “التركيز على التمجيد والتعظيم بالدرجة الأولى”.

روَّجَت الجماعات الإسلاموية للدراما التركية التاريخية لتحقيق نظرة ماضوية لا علاقة لها بالحقيقة.

ويظهر ذلك جليًّا من خلال انتقاء الشخصيات والموضوعات في الدراما التاريخية، فحتى الفترة الوثنية في تاريخ الترك قبل اعتناقهم الإسلام، تم تقديمها في صورة درامية، ترفع من شأن العنصر التركي في مواجهة أعدائه الصينيين والروس، رغم أن معظم الأحداث بعيدة عن التاريخ ومن صنع الخيال، وهذا ما نلاحظه في مسلسل “الملحمة” على سبيل المثال.

كما عملت الدراما التاريخية التركية على انتقاء شخصيات بعينها، مثل “ألب أرسلان”، كنموذج لنهضة السلاجقة، وأيضًا “المؤسِّس عثمان” على أنه المؤسِّس الحقيقي للدولة العثمانية، وإظهار شخصية عثمان في صورة إسلامية، وأيضًا مشبعة بالقومية التركية.

ويظهر ذلك أيضًا جليًّا في مسلسل “أرطغرل”، واختلاط التاريخ بالأسطورة والنزعة القومية التركية، ويجُرُّنا ذلك إلى مسألة مهمة وخطيرة في الدراما التاريخية بشكلٍ عام، والدراما التاريخية التركية على وجه الخصوص، نتيجة تأثير الأيديولوجيا والنزعة القومية، وبالتالي المبالغات التاريخية، وأحيانًا توظيف التاريخ لخدمة السياسة المعاصرة، بل وأحيانًا تزييف التاريخ، وعودة مرة أخرى إلى مسلسل “أرطغرل”، الذي يعتبره البعض نموذجًا على تزييف التاريخ: “قدَّم المسلسل أرطغرل باعتباره القائد الذي هزم الصليبيين، في حين أن وقائع التاريخ تُبيِّن أن مصر وعلى يد الظاهر بيبرس هي التي هزمت وقضت على الصليبيين، وكان عثمانيو أرطغرل – آنذاك- مجرد قبيلة رعوية وبقدرات عسكرية محدودة”.

هكذا وظَّف الإعلام التركي الدراما التاريخية توظيفًا سياسيًّا لأهداف تعبوية داخلية، وأيضًا للترويج للعثمانية الجديدة في المنطقة العربية، وفي إطار ذلك تم صناعة تاريخ آخر، والتجاوز عن الكثير من حقائق التاريخ.

  1. جورج سادول، تاريخ السينما في العالم، ترجمة: إبراهيم الكيلاني وفايز نقش (بيروت: منشورات عويدات، 1968).

 

  1. ديفيد روبنسون، تاريخ السينما العالمية 1895-1980، ترجمة: إبراهيم قنديل (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 1999).

 

  1. مارك فيرو، السينما والتاريخ، ترجمة: سحر سمير يوسف (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2019).

 

  1. وليد فكري، كيف خُدعنا: الدراما التركية التاريخية، موقع سكاي نيوز، 24 نوفمبر 2019.

 

  1. يوسف الحسن، الدراما التركية والتاريخ، ملاحق جريدة الخليج، 23 مايو 2018.

على الطريقة الحميدية

التلوُّن التركي المعاصر في العالم العربي

اتبعت الدولة التركية المعاصرة سياسة نشطة لمحاولة إيجاد دور لها في المنطقة العربية، والتقليل من المشاكل مع الدول المجاورة، بهدف المشاركة الإقليمية في الشرق الأوسط؛ إذ برز ذلك بجلاء بعد الأحداث والمتغيِّرات التي مَرَّ بها الإقليم بعد تداعيات 11 سبتمبر، واحتلال العراق (2003)، والتطورات السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم الحركات السياسية المتعددة بعد ذلك، إضافةً إلى الحراك الإيراني كقوة إقليمية تتطلَّع إلى توسيع نفوذها في المنطقة، ووجدت تركيا أن باب الأيديولوجيا قد يحقِّق لها المشاركة السياسية؛ لذا تماهت والتصقت مع حركات وتيارات الإسلام السياسي، كما حديث مع تنظيم جماعة الإخوان الإرهابي، الذي رفع شعار خليفة المسلمين خلال استقبال الرئيس التركي طيب رجب أردوغان في مصر.

الفشل الذريع كان نصيب تكرار الاختراق الأيديولوجي التركي حديثًا.

استغلَّت تركيا الأمر في تحريك الأذرع الإخوانية من أجل التأسيس لكيانات سياسية تابعة أيديولوجيًّا للإخوان وسياسيًّا لأنقرة، كما وجد الإخوان في تركيا أحد أهم “خطوط التراجع” في حالة التضييق عليها في بلدانها الأصلية، ومصدرًا مهمًّا للتمويل، وكذلك الحاضنة السياسية والإعلامية، فما هي طبيعة التحالف الإخواني التركي، وكيف نجح الأتراك في تحريك الخلايا الإخوانية لتلميع “الخلافة العثمانية”؟

دخل رجب طيب أردوغان حليف الحركيين الأكبر في امتحان عسير للاستمرار في حُكم تركيا، وأدرك الإسلاميون العرب أنه براغماتي، ولم يَعُد يساندهم كما السابق، فهل يستمرون في دعمه؟ أم أن تركيا عمومًا أدارت ظهرها لهم؟    

الانتخابات التركية لم تكن شأنًا خاصًّا بتركيا فقط، فقد حَظِيَت باهتمام دول وشعوب المنطقة؛ نظرًا لارتباطها بأطياف حركيَّة أيديولوجية كالإخوان، ويرى محلِّلون سياسيون أن الإسلاميين في المنطقة العربية ينظرون إلى التجربة التركية كامتداد لتجربتهم، وأنها نجاح للإسلاميين الذين استطاعوا البقاء في الحكم لفترة طويلة، خصوصًا أردوغان الذي يرونه حليفا إستراتيجيًّا، نجح في نظرهم في تحقيق العديد من المكاسب على المستويَين المحلي والدولي، ولذلك يدعمون بكل قوة استمراره في الحكم لأن تركيا أردوغان كانت أكبر الداعمين الإقليميين لتيارات الإسلام السياسي، حين وقفت إلى جانب جماعة الإخوان الإرهابية في مصر بعد عزل محمد مرسي، أيضًا وجدت نفسها تمنح قيادات الإخوان حق العيش في تركيا التي تحوَّلت إلى محطة للمعارضة المصرية على حد سواء أيًّا كانت توجهاتها؛ إذ احتضنت إسطنبول وأنقرة قنوات إعلامية مصرية معارضة، وليس مصر فحسب، فكثيرة هي الروابط التي جمعت حزب العدالة والتنمية التركي بحركة النهضة التونسية، وكذلك كان الإسلاميون في المغرب ينظرون له بكثير من الإعجاب، والأمر ذاته في دول أخرى، بينما كان الدعم التركي جليًّا في الحالة الليبية، حيث قدَّمَت تركيا الدعم العسكري والتدخل المباشر.

على الرغم من ذلك فإن أردوغان له سياسة براغماتية واضحة المعالم، فحين وقف مع الحركات الإسلامية لم يتبنَّ مواقفها بالكامل وإستراتيجياتها في العمل، وبقي مع ذلك منفتحًا على الأطراف السياسية العربية الأخرى.

وواقعيًّا وفي السنوات الأخيرة غيَّرَت تركيا نهجها، ولم تَعُد ملاذًا آمِنًا لقيادات وتيارات الإسلام السياسي العربي، وكان أردوغان يبحث منذ مدة عن صلح مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وتكرَّرَت اللقاءات الثنائية بين مسؤولي البلدين بشكل غيَّر تمامًا اللهجة العدائية التي جمعتهما، كذلك فتحت تركيا والإمارات العربية المتحدة صفحة جديدة بعد سنوات من العداء، حتى صرَّحَت إحدى الصحف البريطانية أن الإسلام السياسي بات أمرًا مستهلَكًا في السياسة الخارجية التركية عندما يتعلق الأمر بالمصالح مع الدول العربية، وأن مبرِّرات تركيا للصلح مع كل الدول العربية – بالإضافة إلى إسرائيل – متعددة، ومن ذلك أسباب اقتصادية تخصُّ رفع قيمة الليرة، وجلب الاستثمار الخليجي، وكذلك إضعاف الدعم المصري والإسرائيلي لليونان في شرق المتوسط، ولتحقيق هذه المكاسب احتاجت أنقرة لتقديم عدة تنازلات، وبذا فشلت فعليًّا تيارات الإسلام السياسي في الحصول على موطئ قدم على الخريطة السياسية في المنطقة بعد فَقْدِها الحليف وانكشاف عورتها للمجتمعات العربية بأنها مجرد حالة من الوهم والخيال البعيد عن أرض الواقع.

ومن جهة أخرى نزعت العديد من حركات تيار الإسلام السياسي أكثر إلى الانخراط في مسار للقبول بالديمقراطية والتعددية السياسية والمشاركة في السلطة، والإعلان عن تَبنِّي الحريات العامة والفردية، ثم القول بفصل مجال الدعوة عن السياسة، والبدء بالتفكير بهذا المبدأ من قِبَل العديد من الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي اليوم، وهذا التوجه لدى حركات واتجاهات إسلامية لوحظ عليها ذلك في إقليم مضطرب؛ فالإسلاميون وتحديات ما بعد الربيع العربي أدركوا ضرورة إحياء مفهوم “ما بعد الإسلام السياسي”،  أو العبور إلى مرحلة ما بعد الإسلام السياسي،  وهو ما يعني تَخلِّي الحركات الإسلامية عن كثير من شعاراتها وأهدافها وفلسفاتها التي تأسَّست عليها، وشَكَّلَت جوهر فكرها وخطابها السياسي والديني خلال العقود الماضية، مثل: إقامة الدولة الإسلامية، أسلمة المجتمع، مواجهة التيارات العلمانية، وأيضًا مقولات: الإسلام هو الحل، إلى القبول بالديمقراطية كصيغة وأسلوب نهائي لنظام الحكم، وهذا أسلوبهم وطريقتهم في التلون وتغيير الجلود حسب الأحداث والمتغيرات السياسية منذ بدايات تأسيس تلك الحركات في البلاد العربية.  

  1. أحمد سليمان الرحاحلة، الدور التركي الجديد في منطقة الشرق الأوسط.. الفرص والتحديات (عمَّان: رسالة ماجستير، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشرق الأوسط، 2014م).
  2. إسماعيل عزام، “حليفهم في امتحان صعب.. كيف ينظر الإسلاميون لانتخابات تركيا؟”، على الرابط: https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D8%A9/s-9106
  3. حسام مطر، “تركيا في الشرق الأوسط بين الطموح وقيود النفوذ”، لبنان: مجلة شؤون الأوسط، مركز الدراسات الإستراتيجية، العدد 144، 2013م).
  4. محمد أبو رمان، ما بعد الإسلام السياسي مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية (عمّان: مؤسَّسة فريدريش إيبرت، 2018م).
تشغيل الفيديو

كيف يستميت "الإخوان" في تلميع تاريخ آل عثمان؟

استغلوا تنظيمات الإسلام السياسي من أجل تعظيم تاريخهم العنصري والاستعلائي

لا بأس أن ينطلق التحليل من الإجابة عن السؤال المركزي: لماذا يوالي الإخوان المسلمون كل أعجمي ويكرهون كل عربي؟! ثم إذا ما وقعت الكارثة حملوا المسؤولية لكل عربي وبرَّؤُوا ساحة كل أعجمي؟!

فهم الثنائي الأعجمي (تركيا وإيران) البنية السلوكية للتنظيمات المتطرفة ومنها جماعة “الإخوان”، التي لا تضع أنقرة وطهران على خارطة أجنداتها التمكينية، وإنما تجتهد في تنزيل تكتيكاتها الخبيثة على العواصم العربية فقط، لذلك استطاعت نسج تحالفات موضوعية مع بقايا المشروع العثماني في محاولة للوصول إلى الحكم في الدول العربية ولو في إطار “إيالات” إخوانية تحت السيادة العثمانية الجديدة.

زور المتطرفون تاريخ الدولة العثمانية، وقدَّسوا مؤسسها.

في هذا السياق، كان “الأمر اليومي” الذي أمرت به تركيا جحافل الإخوان هو الاعتكاف على تمجيد التاريخ العثماني، حتى ولو أدى ذلك إلى تزوير الوقائع وتزييف الحقائق. فما كان من هؤلاء إلا أن أعادوا فتح كتب التاريخ ووضعوها على ميزان الولاء للعثمانيين، فما كان تمجيدًا وتقديسًا أعادوا تأكيده وتدوينه، وما كان ذمًا وتقريعًا انتقدوه وجرحوا في كاتبه. وتعدى أمر التزوير والتجميل بالمساحيق الإخوانية والتأويلات الدينية إلى تقديس الدولة العثمانية وتقديمها في صورة لم تصلها الدولة الإسلامية حتى في صدر الإسلام.

وهنا نجد أحد “الإخوان” محمد علي الصلابي يقول عن مؤسس الدولة العثمانية: “كانت حياة الأمير عثمان مؤسس الدولة العثمانية، جهاداً ودعوة في سبيل الله، وكان علماء الدين يحيطون بالأمير ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة”. وحول وصية عثمان لابنه يواصل الصلابي قائلا: “يا بني: إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين. وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلا”.

وهكذا، وعلى غير ما روت كتب التاريخ حول بدايات الدولة العثمانية وما وثقه موقع “حبر أبيض” بكل موضوعية وحيادية، قلنا على غير ذلك كله، ذهبت الكتابات الإخوانية إلى تمثيل بدايات حركة آل عثمان باعتبارها تمتح من بدايات العصر الإسلامي، ولا بأس من ضرب اللا شعور الجماعي للمسلمين من خلال إنزال قصة عثمان وابنه على قصة لقمان الحكيم وابنه، وهو الربط الخبيث الذي يجيده تيار الإخوان المسلمين، بكثير من الدهاء وغير قليل من الذكاء.

في اتجاه تمجيد وتعظيم صورة الدولة العثمانية نفسه؛ تقول إحدى الأقلام المحسوبة على التيار الإسلاموي بأن انتقاد الخلافة العثمانية هو تعبير عن غياب لفهم الصيرورة التاريخية، وطبيعة الحروب، وهو يخفي تأثرًا بحقد المستشرقين والمستغربين. ويذهب صاحبنا إلى القول بأن “مثل هذه النظرة تُحذرنا علميًا وإسلاميًا من اقتفاء أثر كتابات المستشرقين الذين نظروا إلى الخلافة نظرة حاقدة متحيزة، سببها ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم عن الدور الذي لعبته هذه الخلافة في تاريخ أوروبا، فقد كانت جيوشها بين كر وفر حتى طرقت أبواب فيينا. إلى جانب خطأ وضع الخلافة في مصاف الدول الاستعمارية وتشبيهها بها.

إن المتابع لما دونه المؤرخون العثمانيون من العرب الحركيين؛ سيجد بأنها نشطت خلال الفترة (2001-2004) مع صعود نجم حزب العدالة والتنمية التركي، وبدايات المشروع الإيديولوجي والتوسعي الأردوغاني.

في هذا الصدد، يحاول العثمانيون الجدد استغلال تنظيمات الإسلام السياسي من أجل تعظيم دولة انتصرت تاريخيًا للعرق واللسان على حساب الدين والإنسان، ولم يثبت عنها أنها كانت متمسكة بصميم النص الديني ولا حج من حكامها سلطان واحد إلى بيت الله الحرام ولا اجتمعت فيها شروط الخلافة أصلاً. وهو المعطى الذي يدفعنا لطرح سؤال منهجي: ماذا بعد هذا التحالف الهجين بين الطرفين؟ لنجيب عليه بعد استنفاذ جميع النقاط المرتبطة بهذا الملف.

لقد ذهبت بعض الأقلام إلى وصف الدولة العثمانية بدولة “الإسلام” وبأنها مركز ثقل العالم الإسلامي التي تداعت عليها القوى الغربية من أجل تمزيق دولة الإسلام، وأخذت تضع لذلك المشروعات الكبيرة التي يُعبر عنها أحيانا (بالمسألة الشرقية) وأخرى (باقتسام تركة الرجل المريض)، وأخذت كل دولة تنتهز الفرصة وتنتحل الأسباب التي تبرر الهجوم على الدولة الإسلامية فتقتنص بعض أطرافها أو تهدد جانبا من كيانها”. 

إن مأساة الأمة الإسلامية تكمن في تزوير تاريخ المسلمين وتشويه رسالة خير المرسلين، وكذا الارتماء في أحضان إيديولوجية الآخرين. من هنا اجتهد الخوارج في لي أعناق النصوص القرآنية وتجرأت تيارات أخرى على التقول على الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم. وانتهى المطاف بجماعات الإسلام السياسي إلى تحولها إلى أداة لضرب وحدة الصف العربي خدمة لأجندات هدفها القضاء على شوكة العرب باعتبارهم العرابين التاريخيين للرسالة السماوية التي ختمت العلاقة المباشرة بين الأرض والسماء.

ولعل الشتات الذي لحق بالأمة العربية هو نتاج للسياسات العرقية والعنصرية لسلاطين الدولة العثمانية، التي تتحمل المسؤولية المباشرة في بلقنة الدول العربية مهما حاول هذا التيار أو ذاك تزييف الحقيقة أو تزوير الوثيقة. 

  1. حسام مطر، “تركيا في الشرق الأوسط بين الطموح وقيود النفوذ”، لبنان: مجلة شؤون الأوسط، مركز الدراسات الإستراتيجية، العدد 144، 2013م).

 

  1. محمد أبو رمان، ما بعد الإسلام السياسي مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية (عمّان: مؤسَّسة فريدريش إيبرت، 2018م).

 

  1. فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876- 1909 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).