رغم تزييفهم بالتبرؤ من جرائمه
محمد علي كان ذراعًا عثمانية في الجزيرة العربية واليونان
يُجمِع جُل المؤرخين على أن الدولة العثمانية قد وصلت إلى مرحلة خطيرة من التدهور والانحدار في القرن التاسع عشر، حتى وُصِفَت في الأدبيات السياسية الأوروبية بأنها “رجل أوروبا المريض”. ويصف المؤرخ الإنجليزي هنري دودويل الحالة التي وصلت إليها الدولة العثمانية آنذاك قائلًا: “لقد كانت الحالة الداخلية في الإمبراطورية العثمانية كثيرة الشبه وقتئذٍ -في القرن التاسع عشر- بحالة إمبراطورية المغول في أوائل القرن الثاني عشر؛ فقد نخر السوس عظامها سواءً بسواء، فديوان الأستانة -كقصر المغول من قبله- كان قد أصبح لا شاغل له إلا شؤون الوزراء الخصوصية والمصالح الفردية لكل منهم”.
من هنا دخلت الدولة العثمانية في مرحلة عجز حاد عن مواجهة التحديات الخارجية والداخلية التي تعاظم خطرها منذ القرن التاسع عشر، ولجأت إلى سياسة “فَرِّق تَسُد” في الكثير من ولاياتها، أضِف إلى ذلك رغبتها في الزج ببعض حكام الولايات الطامحين في الدخول إلى حروب عديدة، ولعل قصتها مع محمد عليّ باشا والي مصر خير مثال على ذلك.
في الحقيقة تُعتبَر قصة وصول محمد عليّ إلى حكم مصر دليلًا على ما وصلت إليه الإدارة العثمانية من ضعفٍ وتردٍّ؛ إذ وطئت أقدام محمد عليّ مصر في عام (1801) ضمن القوة العثمانية التي أُرسِلَت إلى مصر للمساعدة في خروج الحملة الفرنسية من مصر، لكن مصر عاشت فترة اضطراب وتقلبات عنيفة حينها حتى عام (1805)، نتيجة ضعف الولاة العثمانيين، وتجبُّر الأمراء المماليك، هذا فضلًا عن إرهاق كاهل المصريين بالضرائب الباهظة. من هنا دخلت القاهرة في ثورة عارمة في عام (1805) خرج فيها الأهالي بزعامة علماء الأزهر إلى محاصرة الوالي العثماني في القلعة، والمناداة بعزله. وتقرب محمد عليّ إلى الزعامات الشعبية في خضمِّ هذه الثورة، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى المطالبة بتوليته على مصر، وبالفعل كتبوا عليه حُجة ألا يفرض ضرائب جديدة على مصر إلا بعد موافقة الزعامات الشعبية على ذلك. وأمام الضغط الشعبي وحالة الفوضى التي كانت تعيش فيها مصر بعد عودة الاحتلال العثماني لها في عام (1801)، اضطر السلطان العثماني إلى قبول الوضع القائم واختيار الزعامات الشعبية لمحمد عليّ، وأصدر السلطان فرمانًا بتولية محمد عليّ.
في الحقيقة وافقت إسطنبول على تولية محمد عليّ على مضض، وعقدت العزم على التخلص منه في أسرع وقت. ويرصد المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي موقف الدولة العثمانية من محمد عليّ حتى بعد صدور فرمان توليته قائلًا: “كانت السياسة التركية مترددة غير مستقرة… ولم تكن خالصة النية نحو محمد عليّ باشا، بل كانت ترميه بعين البغض، وتنفس عليه رسوخ قدمه في مصر، وحسبه جرمًا في نظرها أنه لم يكن من الولاة الذين ترسلهم كل عام إلى مصر، وتوليهم وتعزلهم كما تشاء”.
أراد السلطان التخلص من والي مصر بزجه في حروب طاحنة.
أدركت الدولة العثمانية مبكرًا الطموح الشخصي لمحمد عليّ، خاصةً وهو يحكم القاهرة، أكبر وأغنى مدينة في الدولة العثمانية بعد إسطنبول. من هنا عقدت العزم على إبعاد محمد عليّ عن مصر، وبالفعل سرعان ما أصدرت في العام التالي -أي: في عام (1806)- فرمانًا بضرورة ترك محمد عليّ ولاية مصر، وتوليه ولاية سالونيك، لكن الزعامات الشعبية في القاهرة -وعلى رأسهم علماء الأزهر- رفضوا ذلك، واستند محمد عليّ إلى ذلك في رفض الفرمان السلطاني، ومرة أخرى اضطر السلطان العثماني إلى الرضوخ للأمر، وإبقاء محمد عليّ في ولاية مصر.
في تلك الأثناء كانت شتى ربوع الجزيرة العربية بعد قيام الدولة السعودية الأولى تنتفض ضد الاحتلال العثماني لبعض أجزاء وطنها في الحجاز، وفشلت الدولة العثمانية في مواجهة قوة السعوديين الوطنية، فهذا التطور السياسي الذي بدأ في الصعود في الجزيرة العربية، زج العثمانيون لمواجهته بوالي بغداد ووالي دمشق، ولم ينجحا. من هنا لجأت الدولة العثمانية إلى الزج بوالي مصر محمد عليّ في هذه المواجهة.
ويشير هنري دودويل إلى السياسة البراجماتية للدولة العثمانية في الزج بمحمد عليّ في حربٍ ضروس في الجزيرة العربية قائلًا: “قد خُيِّل إلى السلطان العثماني أن يكون في الوقت نفسه قد قام بمناورة عظيمة لو أنه تمكن من حمل باشا القاهرة -محمد عليّ- على إنهاك قواه وتبديد موارده… لأنه بذلك لا يستعيد الحجاز فقط، بل ويستعيد أيضًا مصر إلى قبضة يده”.
أدرك محمد عليّ المأزق الذي يُدفَع إليه والكمين الذي نصبه له السلطان، وأن الأخير بعد إعادة احتلال الحجاز، سيعمل على القضاء عليه، لذلك تلكأ محمد عليّ كثيرًا في إرسال الحملة العسكرية إلى الدولة السعودية الأولى، لكنه اضطر أخيرًا إلى إرسالها، حيث خسر كثيرًا من جيشه في المواجهة مع السعوديين.
يصف المؤرخ الإنجليزي ريمون فلاور أثر حروب محمد عليّ في الجزيرة العربية على الجيش المصري والميزانية المصرية قائلًا: “تركت حملة الجزيرة العربية محمد عليّ وهو يعاني نقصًا مدمرًا في المال والرجال”.
وبعد ذلك كرر السلطان العثماني ما فعله مع محمد عليّ وزج به وجيشه في حروب خارجية، لخدمة الدولة العثمانية، بهدف إضعافه والتمهيد للقضاء عليه؛ حيث استغلت إسطنبول اندلاع الثورة اليونانية على الحكم العثماني، وعجز السلطان العثماني عن قمع هذه الثورة، لذلك أصدر أوامره إلى محمد عليّ بضرورة إرسال جيشه وأسطوله من أجل مواجهة الثورة اليونانية، وبالفعل تورط محمد عليّ في هذه الحرب الضروس، والأمر المثير للانتباه أنه في أثناء هذه المعارك، التي اشترك فيها جيش محمد عليّ بقيادة ابنه إبراهيم باشا إلى جانب الجيش العثماني في مواجهة الثورة اليونانية، كان إبراهيم باشا على خلاف دائم مع القائد التركي للجيش العثماني المشارك في القتال ضد الثوار اليونانيين، وكثيرًا ما اشتكى إبراهيم باشا أن القائد التركي لم يقدم له المساعدة في أثناء الحرب، بل والأكثر من ذلك كان القائد التركي يبذل قصارى جهده لإعاقة جيش محمد عليّ. ومرة أخرى ومثلما حدث في حروب محمد عليّ ضد الدولة السعودية الأولى، تترك حروب محمد عليّ في اليونان آثارًا سيئة على الميزانية المصرية.
وترصد عفاف لطفي السيد هذه الأثار الوخيمة قائلةً: “ألقت سَنَتا الحرب في المورة عبئًا هائلًا على مصر وشعبها. وقد قُدِّرت تكاليف الحملة مضافًا إليها نفقات الصيانة والإصلاحات والمعدات الخاصة بالأسطول العثماني التي تكفل بها المصريون، ربما يتراوح بين 20 إلى 25 مليون ريال”.
أدرك محمد علي أخيرًا مدى عِظَم المأزق الذي وضعه فيه السلطان العثماني، والكلفة الزائدة التي تكبدها، لا سيما في حروبه في جزيرة العرب وشبه جزيرة المورة في اليونان، ورفض السلطان العثماني تعويضه عن خسائره، لذلك كانت القطيعة الكبرى بين محمد عليّ والسلطان العثماني، خاصةً بعدما تيقُّن محمد عليّ من ضعف الدولة العثمانية. وعلى هذا تتحرك جيوش محمد عليّ وتستولي على بلاد الشام، بل ويزحف إبراهيم باشا إلى قونية، العاصمة القديمة للدولة العثمانية، وأصبحت إسطنبول نفسها هي المحطة التالية لإبراهيم باشا، وهنا لم تتورع الدولة العثمانية عن طلب المساعدة من عدوتها التقليدية روسيا، للوقوف بجانبها ضد محمد عليّ، وهكذا اضطرت بريطانيا إلى الوقوف بجانبها حتى لا تسمح لروسيا بدور أكبر في السياسة العثمانية، وانضمت لهم فرنسا، واشترك الجميع في حربٍ ضروس لقمع طموح محمد عليّ وإعادة جيوشه مرة أخرى إلى مصر.
هكذا تلاعبت الدولة العثمانية -رجل أوروبا المريض- بطموحات محمد عليّ، لكنها في الوقت نفسه فتحت الباب على مصراعيه للقوى الأوروبية لالتهام العالم العربي.
- عبد الرحمن الرافعي، عصر محمد عليّ، ط5 (القاهرة: دار المعارف، 1989).
- عبد الرحيم عبد الرحمن، تاريخ العرب الحديث والمعاصر، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1990).
- عفاف لطفي السيد مارسو، مصر في عهد محمد عليّ، ترجمة: عبد السميع عمر (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2004).
- ريمون فلاور، مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ترجمة: سيد الناصري (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2000).
- هنري دودويل، الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد عليّ، تعريب: أحمد محمد عبد الخالق وعليّ أحمد شكري (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2007).
في محاولة تشويه التاريخ
العثمانيون تحالفوا مع الأعداء في كل اتجاه
بقصد تشويه ومحاربة الدولة السعودية الأولى
كانت الدولة العثمانية قبيل قيام الدولة السعودية الأولى تمر بحالة من الضعف والوهن بسبب الهزائم المتوالية التي مُنِيت بها في أوروبا، وكان الفرنسيون والإسبان يقودون الحرب من جهة الغرب العثماني، والروس من جهة الشرق والشمال، إلى أن جاءت هزيمتهم المدوية أمام الروس، وتزامنت في وقت مقارب مع قيام الدولة السعودية الأولى في العام (1727).
لم تكن نجد ضمن الاهتمامات العثمانية:
مع قيام الدولة السعودية الأولى والاحتضان الشعبي غير المسبوق، بدأ ولاة الأقاليم المجاورة في إيغار صدور العثمانيين وتأليبهم عليها، وتصويرها كعدو محتمل للسلطنة من خلال نفوذها في الجزيرة العربية، مع أن إقليم نجد لم يكن ضمن اهتمامات العثمانيين أبدًا؛ كونها أراضٍ قصية وقاحلة وبعيدة عن مراكز الثروات.
لم يقف العثمانيون متفرجين وهم يشاهدون توسع السعوديين في الجزيرة العربية وتمددهم إلى العراق شمالًا، وسواحل عمان واليمن جنوبًا، ومحررةً للحرمين الشريفين من احتلالهم، فبدؤوا بمجموعة من المراجعات عن الدولة السعودية وسياساتها وفكرها؛ ليتولد لديهم قناعة بأن الدولة السعودية الأولى تشكِّل تحديًا سياسيًّا ودينيًّا لها، الأمر الذي استدعى السلطان العثماني لحشد قواه للوقوف في وجه هذا التحول الهائل في البنية السياسية والفكرية في الجزيرة العربية، والمحتمل تمددها للعالم العربي بأكمله.
لماذا تنبى العثمانيون سياسة معادية للدولة السعودية الأولى؟
كان لنهضة الجزيرة العربية، وتحولها إلى مركز حضاري وتعليمي، وقيام دولة عربية حقيقية من أبنائها؛ أثرُه الكبير لجعلها هدفًا للعثمانيين يجب القضاء عليه، فالعثمانيون تعمدوا إخفات صوت الحرمين الشريفين وحرمان المسلمين من أن يتحول إلى مركز معرفة وتعليم، وبالتالي إعطاء العرب أهمية تفوق إسطنبول، فإذا بهم يفاجؤون بأن الوطن ينهض من عمقه في قلب الجزيرة العربية، والْتَف الناس سريعًا حول دولتهم التي افتقدوها، ووصل صداهم إلى أصقاع الأرض حينها.
لقد كانت الحرب العثمانية على الدولة السعودية الأولى تقوم على ثلاثة محاور مهمة: الأولى عسكرية، من خلال إرسال الحملات المتتالية وحشد الجهد الحربي والقتالي، وهو الذي استنزف العثمانيين وولاتهم بعدما اصطدموا بقوة السعوديين وشجاعة جيوشهم وولاء أبناء الجزيرة العربية لدولتهم.
أما الثاني فكان بتأليب القبائل والأقاليم بالمال والدسائس، وهو أمرٌ فشل العثمانيون فيه أيَّما فشل؛ فقد كان الولاء راسخًا، وخاصة بعدما لمس السكان المحليون أن دولتهم التي تمثلهم وتشبههم رشيدة وحريصة على أن تنهض بهم وبوطنهم، وتفرض الأمن والاستقرار الذي افتقدوه قرونًا قبل قيام أول دولة عربية تمثل الأرض والإنسان حقيقةً.
وثالث المحاور هو ما سعى العثمانيون لترويجه من دعاية ضد السعوديين ودولتهم في الأقطار المختلفة، حيال فكر الدولة ومحاربته، رغم نقاء عقيدته وصفاء منهجه، وهذا أيضًا فشلوا فيه فشلًا ذريعًا؛ لأنه لم يكن مؤثرًا. وحاول العثمانيون تصوير الدولة السعودية على أنها دولة خارجة عن الخلافة المزعومة لهم زورًا، رغم أنهم لم يحرصوا على تبيعة سوى الحرمين الشريفين؛ لما يمثله ذلك لهم من قيمة معنوية لفرض الاحتلال والقهر، ومع ذلك كان واقع الحرمين خلال أربعة قرون يعكس كثيرًا من الإهمال والتجهيل المتعمد من العثمانيين.
أسباب العداء العثماني للسعوديين:
اعتبرت الدكتورة جواهر آل سعود أن استرداد السعوديين للحرمين الشريفين في عصر الدولة السعودية الأولى سببٌ نتج عنه تواتر الرسائل بين السلطان العثماني ورجالات دولته وولاة الأقاليم لإيجاد حلول للحد من نفوذ الدولة السعودية والسيطرة على طموحها أو القضاء عليها، وهو ما دفع الدولة إلى إرسال هيئة للتحري عن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود الذي عُدَّ كواحدٍ من أقوى قادة السعوديين، ولفتت الباحثة إلى أن والي بغداد -العثماني- علي باشا كان على دراية بترتيبات التخلص من الإمام عبد العزيز وابنه سعود، وحين لم يتيسر الوصول للأمير سعود جاء الخنجر الذي غُرس في ظهر الإمام عبد العزيز أثناء صلاته العصر وتسبب في وفاته واستشهاده رحمه الله (1803)، ولم يسعفه الحظ لمشاهدة استرداد جيوشه بقيادة ابنه الأمير سعود المدينة المنورة من العثمانيين، وقد تسابق الولاة في إرسال بشائر مقتل الإمام عبد العزيز للسلطان العثماني.
التحالف العثماني الإنجليزي:
كان لنجاح الدولة السعودية الأولى ووصولها إلى الخليج العربي صداه عند البريطانيين الذين ثارت مخاوفهم من ذلك، وقد أكدت التقارير البريطانية أن طموح السعوديين في دولتهم الأولى لم يقتصر على ضم أقطار الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق فحسبُ، وجاء ذلك بعد تأكيد القنصل البريطاني في مسقط أن الإمام سعود بن عبد العزيز يتطلع لمدّ نفوذه خارج الجزيرة العربية نحو الهند، وأكدت ذلك تقارير والي جدة إلى السلطان العثماني، ما زاد من القلق البريطاني بعد وصوله إلى مناطق نفوذها على الخليج العربي، وتطلعه إلى مناطق نفوذها في الهند.
مشاركة الصفويين للحملة ضد السعوديين:
وفي تعليق آخر للدكتورة جواهر آل سعود تؤكد أن الوثائق العثمانية كشفت عن مطالبة الشاه الفارسي الدولة العثمانية بضرورة العمل على القضاء على المد السعودي الذي اقترب من مناطق الفارس من جهة سواحلهم الشرقية من الخليج العربي، وهو ما دفع الدولة العثمانية إلى إرسال موفد رسمي بهدف تطييب خاطر الشاه وتأكيدها العمل على تنفيذ رغبته، وهو ما يؤكد سعي أئمة الدولة السعودية الأولى لإنشاء إمبراطورية عربية تهدف إلى القضاء على النفوذ الأجنبي وتعمل على منافسة القوى العظمى.
العثمانيون والفرس والإنجليز سعوا لهدف واحد بقصد محاربة الدولة السعودية الأولى.
- إسماعيل ياغي، “بريطانيا والدولة السعودية الأولى”، الرياض، مجلة كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ع.1 (1977).
- جواهر آل سعود، “الدولة السعودية الأولى شكلت الخطر الحقيقي على العثمانيين والنفوذ الفارسي”، صحيفة الشرق الأوسط، 22 فبراير (2022).
- صالح السعدون، “العلاقات بين الدولة السعودية الأولى ومملكة فارس“، مجلة الدرعية، ع.46 (2009).
- عايض الروقي، “علاقات الدولة السعودية الأولى بولاة الدولة العثمانية في العراق والشام“، مجلة المؤرخ العربي، ع.5 (1997).
العلاقة الحميمية بين اليهود والعثمانيين
تُعَد العلاقات العثمانية اليهودية من أعقد العلاقات في تاريخ تعامل الدول مع اليهود الذين كان لهم تعبير سلوكي ديني واقتصادي وسياسي متفرد عن باقي العرقيات، وهو ما جعلهم يرفضون الانصهار ضمن منظومة الدولة (خاصة في أوروبا)، ويفضلون الولاء العرقي والديني على الولاء السياسي للدولة الحاضنة والمستقبلة، وهو المعطى الذي جعل دولة قوية مثل بريطانيا تتخوف من وجودهم وتدفع في اتجاه التخلص منهم عبر تمكينهم من بقعة جغرافية، هي في الأصل والأساس فلسطينية الهوية وإسلامية الانتماء وعربية اللسان.
وإذا كان اليهود قد واجهوا الويلات تحت الحكم الأوروبي، فإن الدولة العثمانية تفطَّنت للدور الذي يمكن أن يلعبوه في تحريك عجلة الاقتصاد العثماني، وبالتالي تمويل المجهود الحربي للدولة. ويدفع بعض المؤرخين بأن “التسامح الإسلامي والحرية التي منحها العثمانيون لليهود المبعدين من الأندلس دفع اليهود في كل دول أوروبا وروسيا القيصرية وبحر الخزر إلى الهجرة المتتالية إلى الديار العثمانية”.
في هذا الصدد، سجلت كتب التاريخ تحالفًا قويًّا بين العثمانيين، وصل إلى حد ائتمانهم في أمور الأموال وتحصيلها وجبايتها، خاصةً في المناطق العربية، حيث كان آل عثمان ينظرون إلى العرب كمواطنين من الدرجة الثانية، في حين يتم تقديم اليهود في أمور المال الذي ارتبط بهم وارتبطوا به لقرون. ويروي الوزير المغربي الإسحاقي عن وجود يهود يجمعون أموال الحُجاج القادمين إلى مكة، وكذا تمكينهم من الوظائف في جدة.
ونفس الدور كان يقوم به يهود الدولة العثمانية في مصر، وهنا نجد الجبرتي يذكر قصة ياسف اليهودي الذي قتله العساكر في مصر “وقامت الرعايا فجمعوا حطبًا وأحرقوه وذلك يوم الجمعة بعد الصلاة… وسبب ذلك أنه كان ملتزمًا بدار الضرب في دولة علي باشا المنفصل، ثم طلب إلى إسطنبول وسُئل عن أحوال مصر، فأملى أمورًا والتزم بتحصيل الخزينة زيادة عن المعتاد، وحسَّن بمكره إحداث محدثات”.
ويمكن القول بأن الدولة العثمانية لم تراهن على اليهود في المسائل المالية وتمويل المجهود الحربي فقط، بل منحت بعض الأطباء اليهود امتياز القرب من المربع السلطاني، ومنهم من وصلت مكانته إلى أن يحظى بدخول القصور والتقرب من نساء الحرملك، وهي المكانة التي لم يصل لها أي أحد من الخاصة أو بياض الحضرة داخل الدولة العثمانية. وهنا نجد ستانفورد ج شو يؤكد أن “هؤلاء اليهود الذين أثروا من خلال غناهم وعلمهم أن جعلوا أنفسهم من الناس الذين لا يستغني عنهم السلطان وقادة الطبقة الحاكمة مثل الأطباء، الماليين (الممولين) والمستشارين والدبلوماسيين، وفي نفس الوقت كانوا يستخدمون تأثيرهم لمساعدة وحماية إخوانهم في الدين الأقل نفوذًا، وفي حالات كثيرة أكثر مما يفعله القادة الرسميون”.
ومن أهم الأطباء اليهود الذين كان لهم نفوذ في البلاط العثماني المدعو “الحكيم يعقوب”، والذي كان أحد أهم الشخصيات اليهودية التي عاصرت عهد محمد الفاتح، “وكان الحكيم يعقوب واحدًا من أطباء السلطان الفاتح، وقد عمل الحكيم يعقوب طبيبًا أيضًا في أدرنة التي كانت من المدن الخمس الرئيسية في الدولة العثمانية في عهد السلطان مراد الثاني، ثم أصبح رئيس الأطباء في عهد الفاتح”.
ونشير إلى نقطة حساسة ومفصلية مرتبطة بصياغة وصناعة القرار السياسي العثماني، والمتعلقة بالدور الذي كانت تلعبه النساء داخل الحرملك، وهو مركز الثقل الذي لم يكن ليخفى على اليهود الذين اجتهدوا في اقتحام عوالم هذا الفضاء الحميمي لسلاطين آل عثمان. وقد نجح اليهود -بعد مجموعة من المحاولات- في التغلغل داخل “القصور السلطانية عن طريق النساء، حيث قام السلطان سليم الثاني بالزواج من اليهودية نور باتو، وأنجبت الأمير مرادًا الثالث، وقد مُنِحت لأول مرة لقب “مهد عليا” أي: والدة السلطان. وقد تميزت بالذكاء، وعندما تُوفِّي زوجها أخفت خبر وفاته لحين وصول ولدها مراد من مانيسه”.
نجح اليهود في اقتحام الحرملك العثماني، واستغلاله لحماية أفراد طائفتهم.
من خلال ما تقدم يتبين أن اليهود تميزوا عن غيرهم بالتركيز على امتلاك أهم مفاصل السلطة السياسية (السلطة، والمال والنساء)، وهو ما ساعدهم في عملية الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي، وبالتالي التحضير لقطف ثمار هذا التحالف من أجل تسريع وتيرة تأسيس كيان خاص بهم في فلسطين.
- أحمد حكمت أوغلو، اليهود في الدولة العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر (إسطنبول: أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2018).
- أحمد النعيمي، اليهود والدولة العثمانية (عمَّان: دار البشير، عَمان، 1997).
- الإسحاقي، رحلة الوزير الشرقي الإسحاقي المغربي إلى الحج 1143هـ (الرباط: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية، 2017).
- ستانفورد ج شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية (القاهرة: دار النشر للثقافة والعلوم، 2015).
- محمد قنديل البقلي، المختار من تاريخ الجبرتي، ط2 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993).