تاريخ العثمانيين المزيَّف

تمت صياغته بأقلام "عربية" مؤدلجة

هناك ظاهرة مهمة وخطيرة في الأدبيات التاريخية العربية، وهي التضخيم من الدور الذي لعبته الدولة العثمانية في التاريخ العالمي بشكلٍ عام، والتاريخ العربي على وجه الخصوص، بل ويصل الأمر إلى ذروته في بعض الأحيان لمحاولة صناعة تاريخ مقدس للخلافة العثمانية، على أساس أنها آخر مراحل الخلافة الإسلامية، وأن الغرب الصليبي هو الذي حرص على إسقاط هذه الخلافة، حتى يستطيع التهام العالم العربي، وفي القلب منه فلسطين من أجل إقامة إسرائيل.

محمد فريد والشناوي أسسا لأدبيات تاريخية مشوهة.

في الحقيقة تجد هذه الظاهرة مجالًا للنشاط والانتشار في لحظات الضعف التي تمر بها المنطقة العربية عبر التاريخ، كما تُوَظَّف جيدًا لصالح تيارات الإسلام السياسي، خاصةً في لحظات صراعها مع الأنظمة السياسية في العالم العربي.

وربما نجد أصل هذه الظاهرة في فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وهي فترة ضعف الدولة العثمانية أصلًا، ونجاح الاستعمار الأوروبي في التهام بعض الولايات العربية. وبالقطع لن نستطيع في مثل هذا المقال تناول كل هذه الكتابات وتتبع ميراث هذه الظاهرة في مختلف البلاد العربية؛ نظرًا لكبر حجمها، وتعدد الكتب التي صدرت في خدمة هذا الاتجاه، وأيضًا طول الفترة الزمنية؛ إذ نجد لهذه الظاهرة امتدادات حتى في القرن الواحد والعشرين. من هنا سنقصر معالجتنا في هذا المقال على تتبع الأدبيات التاريخية لهذه الظاهرة في مصر.

من الكتب الأساسية والمؤسسة لهذه الظاهرة الكتاب الذي أصدره السياسي المصري الشهير محمد فريد في مطلع القرن العشرين، وهو كتاب “تاريخ الدولة العلية العثمانية”، وتعود الخلفية التاريخية لهذا الكتاب إلى فترة ضعف الدولة العثمانية، وعجزها حتى عن حماية أهم ولاياتها، وهي مصر التي سقطت في يد الاحتلال الإنجليزي منذ عام (1882). كما يصاحب صدور الكتاب تبني السلطان عبد الحميد الثاني لمشروع “الجامعة الإسلامية”، والمقصود بها تجمع كل مسلمي العالم تحت لواء الدولة العثمانية، وسلطانها عبد الحميد الثاني. كما يصاحب صدور الكتاب فترة تحالف الخديو عباس حلمي الثاني – خديو مصر آنذاك- مع السلطان عبد الحميد الثاني نكايةً في الاحتلال الإنجليزي. وفي تلك الفترة نشهد السياسة الإسلامية للحزب الوطني في مصر، ودعايته لعودة مصر للدولة العثمانية كوسيلة لمقاومة الاحتلال الإنجليزي.

كانت هذه هي الخلفية التاريخية وراء صدور كتاب محمد فريد “تاريخ الدولة العلية” أي: الدولة العثمانية. وفي حقيقة الأمر لم يكن هذا الكتاب عملًا علميًّا تاريخيًّا بقدر ما كان جزءًا من حملة الدعاية لمشروع عبد الحميد الثاني في محاولة تكريس مفهوم الخلافة للدولة العثمانية، وجعلها جامعةً تجمع كل المسلمين، وليس فقط رعايا الدولة العثمانية. ويتضح ذلك جليًّا من مقدمة الكتاب نفسه؛ إذ يُهدِي محمد فريد كتابه إلى السلطان بقوله: “وقد قصدت بهذه الخدمة -إصداره الكتاب- أن أقوم بفرض يجب على كل إنسان أداؤه لعرش الخلافة العظمى وملجأ الإسلام في هذا الزمن؛ مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد الثاني، أمد الله في عمره وأيده بنصره”. هكذا يتبين لنا منذ بداية مطالعتنا للكتاب مدى الانحياز وغلبة العامل الأيديولوجي وراء هذا الكتاب.

ثم يبدأ محمد فريد تاريخه للدولة العثمانية على أنها امتداد لتاريخ الخلافة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين، ويرى أن الخلافة في الإسلام فرعان: فرع الخلافة العربية، ثم مع صعود الدولة العثمانية يأتي “فرع الخلافة التركية”. وهنا يتجاهل محمد فريد التاريخ الطويل لمسيرة الخلافة، ويتجاهل القواعد الفقهية التي سارت عليها الخلافة، وقصرها على العنصر العربي ومبدأها بالشورى، فأي مسوِّغ فكري وفقهي يسمح بتجاوز هذه القاعدة، وأن تؤول الخلافة لآل عثمان؟!

أسس محمد فريد في كتابه لصناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية، وأن هؤلاء هم من أرسلهم الله سبحانه وتعالى لإنقاذ الأمة الإسلامية بعد حالة الضعف التي دخلت فيها: “لكن العناية الصمدانية تداركتهم بلمِّ الشعث ورمّ الرث ورتق الفتق ورقع الخرق، فأضاءت الأفق الإسلامي بظهور النور العثماني، وأمدته بالنصر اللدني، والعون الرباني، فقامت الدولة العلية بحياطة هذا الدين، وحماية الشرقيين، ودعت إلى الخير، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، فكانت من المفلحين”.

هكذا أسس محمد فريد لمدرسة أتت من بعده، مدرسة تنتشر للأسف في الكثير من البلدان العربية، وتظهر بشكل واضح في أوقات ضعف المنطقة العربية والإسلامية، تنظر إلى الدولة العثمانية على أنها الفردوس المفقود الذي ينبغي عودته من جديد، لاستعادة مجد الإسلام.

ولقد عمل أنصار التيار القومي المصري على الوقوف أمام كتابة تاريخ مقدس للدولة العثمانية، بل نظروا إلى تأثير الفترة العثمانية التي عاشتها مصر على أنها فترة مظلمة. ومن أهم هذه الكتابات كتاب حسين فوزي “سندباد مصري”، وهو رحلة في تاريخ مصر، والأمر الجدير بالملاحظة هنا أن فوزي بدأ كتابه بما أطلق عليه “الجمعة الحزينة”، والمقصود بها يوم الجمعة الذي قُرِئت فيه خطبة الجمعة وتم فيها الدعاء للسلطان سليم الأول بعد غزوه القاهرة في عام (1517). ويرى حسين فوزي أن هذا اليوم هو أسوأ يوم في تاريخ مصر؛ لأن مصر فقدت هيبتها واستقلالها، وأصبحت مجرد ولاية عثمانية، حيث دخلت في عصور الظلام.

لكن الأمور سرعان ما تتبدل وتعود ظاهرة صناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية مرة أخرى، وأتى ذلك مصاحبًا لفترة من أشد فترات الضعف والانكسار التي شهدتها مصر والمنطقة العربية، وأقصد بذلك فترة هزيمة 5 يونيو (1967)؛ إذ لم تنحصر آثار هذه الهزيمة المروعة على الجانب العسكري فحسب، بل امتدت لتشمل حالة عامة من فقدان الثقة في فكرة القومية العربية التي سادت المرحلة السابقة على الحرب، وعاد التيار الإسلامي ليطل برأسه من جديد تحت ادعاء أن العرب هُزِموا لأنهم ابتعدوا عن دينهم، بينما انتصر “اليهود” لأنهم يحاربون بعقيدة دينية، وبالقطع كان ذلك استخفافًا بالأسباب الحقيقية وراء هزيمة يونيو 67، ودعاية دينية واضحة ساعدت على عودة تيار الإسلام السياسي من جديد.

في ظل هذه الأجواء خرج علينا كتاب جديد، يرتبط بصلة رحم أيديولوجي مع كتاب محمد فريد السابق الإشارة إليه؛ إذ أصدر عبد العزيز الشناوي كتابه الشهير “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مُفترًى عليها”. ومن البداية ومنذ عنوان الكتاب يحدد الشناوي موقعه وهدفه من قراءة التاريخ العثماني كتاريخ “دولة إسلامية مُفترًى عليها”. ويرفض الشناوي كتابات المؤرخين الأوروبيين عن الدولة العثمانية، ويرى أن هذه الكتابات صورت السلطان العثماني على أنه: “السلطان المسلم الجاهل المتبربر المستغرق في ملذاته مع حورياته الفاتنات”، ويرى أن “وصف الدولة العثمانية بأنها دولة إسلامية مُفترًى عليها هو أصدق قيلًا من أي وصف آخر”.

ولا يكتفي الشناوي في دفاعه عن الدولة العثمانية بالاشتباك مع المستشرقين فحسب، بل يشتبك أيضًا مع التيار القومي العربي الذي أخذ موقفًا حادًّا من تاريخ الدولة العثمانية؛ إذ يرى الشناوي أنه: “قد ردد بعض المؤرخين والباحثين العرب عن جهالة أو تجاهل أو حقد تلك الآراء الخاطئة والظالمة معًا في مؤلفاتهم”.

هكذا يأتي كتاب الشناوي إعادة قراءة لتاريخ الدولة العثمانية في ضوء التطورات وحركة مد التيار السياسي الإسلامي التي شهدتها مصر والمنطقة العربية بعد هزيمة يونيو 67. وكانت صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية هي بمثابة اختراع أندلس جديدة “الفردوس المفقود”.

  1. حسين فوزي، سندباد مصري: جولات في رحاب التاريخ، ط3 (القاهرة: دار المعارف، د.ت).

 

  1. عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مُفترًى عليها، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980).

 

  1. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، ط2 (القاهرة: مطبعة محمد أفندي مصطفى، 1896).

 

  1. محمد عفيفي، “حدود الدين وحدود الدولة: قراءة في تطور مفهوم الدارين بين الخلافة والسلطنة العثمانية”، مجلة التفاهم، مسقط (2011).

 

  1. محمد عفيفي، عرب وعثمانيون: رؤى مغايرة، طـ2 (القاهرة: دار الشروق، 2008).

كيف تمت الخديعة التاريخية؟

منذ حركة "الجامعة الإسلامية" إلى سنوات "النَّكسة"

تعرض التاريخ الحديث في عالمنا العربي للكثير من التزييف والتدليس، إما بصورة مباشرة متعمدة وممنهجة أو غير مباشرة، من خلال تجييش المشاعر واللعب على العاطفة الدينية المصطنعة، وتسويقها لعوام الناس على أنها حقائق ثابتة ومسلمة من المسلمات التي لا يمكن انتزاعها من فكر المجتمعات العربية، فعلى سبيل المثال: في فترة ما قبل سقوط الدولة العثمانية، انتشرت فكرة دعم حركة “الجامعة الإسلامية” التي دعا إليها السلطان عبد الحميد الثاني في بلاد الشام ومصر، فدعت إليها بعض الصحف العربية آنذاك من أجل  الوقوف مع العثمانيين ضد المستعمر الأوربي. ففي عهد عبد الحميد الثاني دعمت فكرة الخلافة على نطاق واسع، وكان الغرض من ذلك استخدامها كوسيلة سياسية لتقف في وجه الدول الأوروبية المتربصة آنذاك بالدولة.

اعتمدت تلك الدعوة على اللغة العربية من خلال الاستفادة من القدرات العربية من الصحفيين العرب وعدد من المشايخ والصوفية العرب، وبطرقهم المتعددة من أجل تمرير أن الخلافة ضرورة إيمانية، انتقلت من أبي بكر إلى العثمانيين، وبأن الخليفة ظل الله في الأرض، ومنفذ أحكامه، إلى غير ذلك من الحجج والمبررات التي تناولها أولئك المدافعون عن السلطان، حتى أصبحت أمرًا لا مناكفة فيه، وضرورة من ضرورات الأمة.

تبنى تلك الفكرة العديد من المؤرخين الذين غلبت عليهم العثمنة الفكرية والسياسية، ومن أولئك المؤرخين محمد فريد بك المحامي وكتابه الشهير “تاريخ الدولة العلية العثمانية”، الذي يعد من أهم المؤلفات التي أسست لصناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية؛ إذ أصدر فريد كتابه في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، وأهدى كتابه إلى السلطان عبد الحميد الثاني. ويأتي الكتاب كإسهام واضح ضمن حركة “الجامعة الإسلامية” التي دعا إليها السلطان العثماني. وفي كتابه يقدم فريد صورة دينية للدولة العثمانية، وكيف أحيا العنصر التركي الخلافة الإسلامية بعد ضعف العنصر العربي. وزاد على ذلك محقق الكتاب الذي خصص الجزء الأخير من تحقيقه في الدفاع عن الدولة العثمانية ومحاولة تنزيهها من الأخطاء ورفع الحرج عنها، كقوله:” لقد ظلمنا العثمانيين؛ إذ سميناهم مستعمرين ونحن منهم، وظلمناهم؛ إذ قلنا: إنهم مخربون ونحن منهم، وظلمناهم؛ إذ قلنا: إنهم أساؤوا إلى البلاد ونحن منهم، وظلمنا عبد الحميد وسلقناه بألسنة حداد وألصقنا به ما هو براء منه، جريًا وراء دعايات مغرضة، وهو من أفضل ملوك بني عثمان…”.

ولعل في هذا الكم الهائل من المدائح للدولة العثمانية ما هو مثير للاستغراب والتعجب، ولكن في واقع الحال لم يخرج المحقق من ذلك التوجه العام لدى التيار المنافح عن الدولة العثمانية، فأصابته الهالة المقدسة للدولة العثمانية التي لا يستطيع الكاتب وغيره الخروج والحيد عنها، فسار معظم المؤرخين العرب وراء ذلك التوجه خوفًا أو خشية من تصنيفهم معادين للعثمنة، أو اتهامهم بالعلمنة والليبرالية. وهناك أيضًا مؤرخون كثر قد جانبهم الصواب وتلبس عليهم الأمر؛ لتأثرهم بمدرسة تاريخية عاطفية، وبالتالي لا ينظر أمثال هؤلاء للدولة العثمانية إلا برداء المظلوم والمجني عليها، كما فعل الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتابة “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مُفترًى عليها”، ونهج طلابه نهجه في تلك النظرة، وفي الوقت نفسه غفلوا أو تغافلوا عما فعلته الدولة العثمانية في المسلمين في البلاد العربية من فظائع وجرائم، تتناقض مع العاطفة التاريخية تجاههم، فكون الدولة العثمانية دولة إسلامية لا يعني أنها لم تقع في أخطاء لا تغتفر، ويتعمد تدليسها والمرور عليها مرور الكرام.  

وقد زاد كبر هذا الأمر بعد أن تبنته التيارات والحركات الأيديولوجية المتطرفة، وجعلته من أساسياتها في نشر دعواتها، وأن العثمانيين هم الخلفاء، وبعد سقوط خلافتهم المزعومة؛ تبنت التيارات المتطرفة الأمر ودعت إلى إعادة الخلافة من خلال تنظيماتها وأفكارها المحاربة للكيانات السياسية في المنطقة العربية، وتشكل لذلك التنظيم العالمي الإرهابي للإخوان المسلمين، الذي سعى -ولا زال- للوصول إلى سدة الحكم بأي وسيلة ممكنة، حتى لو تحالف مع الشيطان، والحجة هي إعادة الخلافة الراشدة زورًا وبهتانًا. وبرز من أولئك المتبنين للأفكار المتطرفة كتاب “زياد أبو غنيمة”، الحركي في جماعة الإخوان الإرهابية، الذي أعد كتابًا في الدفاع المستميت عن الدولة العثمانية، وإظهار جوانبها المضيئة المزعومة والمكذوبة.

تنظيم جماعة الإخوان الإرهابي روَّج للدعاية التاريخية للعثمانيين محاربةً للكيانات السياسية العربية.

للأسف لا زال هناك الكثير من المخدوعين في الدولة العثمانية والمنبهرين مما يشاهدونه من آثار ومساجد وقصور فارهة للسلاطين في عاصمة الدولة بإسطنبول، متناسين الأفعال السياسية والعسكرية والبشاعة والغلظة في التعامل مع العرب، خلال استعمار الدولة لبلدانهم العربية.

  1. أنور الجندي، السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية (بيروت: دار ابن زيدون، 1407هـ).

 

  1. جمال مسعود ووفاء جمعة، أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ الدولة (المنصورة: دار الوفاء، 1995).

 

  1. زياد أبو غنيمة، جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك (عمّان: دار الفرقان، 1983).

 

  1. طلال الطريفي، العثمانيون: التاريخ الممنوع، ط2 (الرياض: دار ائتلاف، 2020).

 

  1. عمر عبد العزيز عمر، تاريخ المشرق العربي 1516-1922م (بيروت: دار النهضة العربية، 1985).

 

  1. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، ط2 (بيروت: دار نفائس، 1983).
تشغيل الفيديو

ارتبط تلميع صورة العثمانيين

بالمؤرخين المحسوبين على تنظيم "الإخوان" الإرهابي

سعت تنظيمات الإسلام السياسي إلى تبني تكتيكات الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي في الداخل العربي، مع محاولات نسج تحالفات مع قوًى إقليمية من أجل ضمان الدعم السياسي والمالي والإعلامي، وأيضًا ضمان قاعدة خلفية في حالة المواجهة (الحتمية) مع الدول، خاصة على مستوى حسم السلطة السياسية.

في هذا السياق، وجد أنصار الإسلام السياسي في الدول “الإسلامية” الأعجمية ضالَّتهم من خلال البحث عن تحالفات قد تمكنهم من الوصول إلى السلطة في بعض الدول العربية، وهي تعلم أنها قادرة بعد ذلك أن تفرض مشروعها السياسي، في ظل افتقار القوى “الأعجمية” لأحد أهم مرتكزات الخلافة، والمتمثلة في اللغة العربية.

وارتباطًا بنقطة البحث، تبنَّى التيار الإخواني الإرهابي الدفاع عن التاريخ العثماني، ومحاولة تجميله أو حتى تزييفه، في مقابل الاستفادة من الحاضنة التركية ودعمها المالي والسياسي وحتى الإعلامي.

ويؤكد أصحاب هذا التيار أن السلطان عبد الحميد الثاني (محبوب الإخوان) “سار على سياسة إسلامية إبان حكمه، وكان الدافع لهذه السياسة الإسلامية يرمي إلى تقوية مركز عبد الحميد في داخل الدولة العثمانية وخارجها… بإبراز السمات الدينية لمنصبه وإحياء الخلافة الإسلامية وتقويتها بشخصه كزعيم لكل المسلمين”.

استمات أصحاب تيار الإسلام السياسي في الدفاع عن صورة العثمانيين وتقديمهم باعتبارهم الممثلين الشرعيين للأمة. وهنا تحمَّس أحد المنافحين عنهم إلى حد القول بأنه كان “يكفي أن يعلن الخليفة الجهاد، حتى يهب العالم الإسلامي على قلب رجل واحد بسبب وحدة العقيدة والهدف والتماسك الوجداني، والخضوع لأمر رجل واحد هو الخليفة؛ لعلمهم أنه يمثل الخلافة الإسلامية”.

وهنا يمكن رصد ملاحظتين أساسيتين، الأولى هي ارتباط تلميع صورة العثمانيين وتاريخهم مع المؤرخين المحسوبين على التيار الإخواني الذين عاصر معظمهم صعود نجم الإسلام السياسي في تركيا، والثانية مرتبطة بالتركيز على صورة السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يرى فيه بعض المؤرخين الموضوعيين المسؤول عن انفراط عقد مجموعة من المناطق العربية بسبب، إما تبعات نظام الامتيازات، أو مساهمته شخصيًّا في سقوطها في مقابل الاحتفاظ بمركز ثقل الحكم التركي في الأناضول.

إذا كان هناك إجماع على أن السياسات العثمانية هي السبب الأول في انفراط عقد السلطنة، بدءًا من نظام الملل والامتيازات، ووصولًا إلى تهميش محيط الدولة، وخاصة المناطق العربية، فإن البعض أراد تحميل مسؤولية انفراط عقد الدولة العثمانية إلى الشعوب العربية نفسها، التي انتفضت ضد التهميش والقمع الممنهج ضد هذه الشعوب، التي لم يكن لها حظ في تسيير شؤون الدولة، اللهم إلا استفادتها من شكل موسع من الحكم الذاتي تحت السيادة العثمانية.

ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الغرب استغل العرب، وقام باستخدامهم “كأحد وسائل الضغط عليها، وبالتالي قام الغرب بتنمية القومية العربية لتواجه الدولة العثمانية، وتكون طعنةً في ظهرها أثناء الحرب… وكانت الشعوب العربية لا تدرك طبيعة المخطط لها، وهو ببساطة استبدال حكم الدولة العثمانية باحتلال إنجليزي أو فرنسي للدول العربية التابعة لها”.

لقد نهجت أقلام مجموعة من “الإسلاميين” توجهًا براغماتيًّا في تعاملها مع التاريخ العثماني، فركزت على بعض نقاط الضوء، وجعلت منها سلوكًا ثابتًا في السياسة العثمانية، لكنها صمتت صمت القبور على مجموعة من الجرائم التي تورطت فيها الدولة العثمانية في حق العرب والمسلمين، أو مرت عليها مرور اليتيم بقوم، ولربما حاولت تبريرها وتقعيدها من الناحية الشرعية من خلال لَيِّ أعناق النصوص القرآنية أو الشريفية.

تعامل "الإخوان" مع تاريخ الدولة العثمانية بطريقة براغماتية واضحة.

وهنا نجد أحد هذه الأقلام يرفع الدولة العثمانية إلى منصب الخلافة التي لا تضاهيها ولا تفوقها إلا خلافة القرن الأول من صدر الإسلام، باعتبار الدور الذي يزعم أنها قامت به “في نشر الإسلام وحماية الديار الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية ومبادئها من عدل ومساواة ورحمة وتسامح وأخوة وتعاون وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعمَّ الرخاء أرجاء الخلافة العثمانية فكانت خلال خمسة قرون حصن الدفاع والحماية للمسلمين والعرب”.

ويمكن القول بأن أتباع هذا التيار قد غالوا في تمجيد تاريخ آل عثمان، في محاولة منهم لكتابة تاريخ بقياسات تُرضي الحلفاء الجدد، ولو على حساب الأمانة العلمية والمنهجية التاريخية.

وعلى الجهة المقابلة، رأى بعض المنصفين أن “سلاطين آل عثمان، -سواء حدث لهم تنازل عن الخلافة، أم لم يحدث، فإنهم لم يتمسكوا بها إلا في أواخر عهد سلطنتهم، حينما رأوا أن الظروف الدولية تحتم عليهم التمسك بالخلافة كسلطة روحية”.

إجمالاً، فإن ما يطمئن إليه الباحث أن العثمانيين احترفوا الدين تاريخيًّا لخدمة أهدافهم السياسة، واستغلوا العرب حطبًا لمشاريعهم التوسعية بعيدًا عن الانضباط لصريح النص الديني، وهو ما يؤكده تشبثهم وتقديسهم للعرق على حساب وحدة الملة والدين، وهو ما جعلهم يفشلون في تجسيد روح الخلافة الإسلامية.

  1. إسماعيل ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث (الرياض: مكتبة العبيكان، 1996).

 

  1. مصطفى حلمي، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية (بيروت: دار الكتب العلمية، 2006).

 

  1. محمد عرموش، موجز تاريخ مصر من العصر الفرعوني إلى العصر الجمهوري (2021).

 

  1. جابر سعيد “المسلمون في ميزان الحضارة الإسلامية”، سنة النشر غير مذكورة، ص 297.

 

  1. عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة العثمانية (بيروت: دار الفكر العربي، 2018).