المتطرفون نفخوا من حجم العثمانيين الأتراك

صنعت الأيديولوجيا تاريخًا مقدسًا تسلقت عليه لتمرير محاربتها للحكومات الوطنية

من الظواهر المهمة التي تسترعي الانتباه في التاريخ الفكري والسياسي الحديث، اهتمام تيارات الإسلام السياسي بتاريخ الدولة العثمانية، ومحاولة صناعة تاريخ مقدس للأتراك تحت ذريعة أنها “آخر خلافة إسلامية”، وأن الغرب “الصليبي” و”الماسونية العالمية” و”العلمانيين العرب والمسلمين” هم من تعاونوا في الإجهاز على هذه الدولة، وإلغاء الخلافة من أجل إحكام السيطرة على ما تبقى من الولايات العربية والتركية، بل والأكثر من ذلك تهيئة المنطقة العربية والعالم الإسلامي لإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.

وتعتبر جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية أهم حركات الإسلام السياسي، والحركة الأم التي من رحمها خرجت معظم الحركات المتطرفة، والأكثر تطرفًا منها. ويعود تأسيس جماعة الإخوان إلى عام (1928) على يد المرشد الأول حسن البنا؛ إذ قامت الجماعة وكان أول رد فعل سياسي لها على إلغاء الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك الدولة العثمانية عام (1924)، وذلك بعد سنوات من الإلغاء، تزامنت مع نشوء الحركة. وأسس حسن البنا في مذكراته لهذا الأمر جيدًا، عندما تحسَّر على إلغاء ما أُطلِق عليه الخلافة العثمانية، وعبر عن نظرته الدرامية لهذا الحدث وكيف سيعيش العالم الإسلامي دون خلافة، فيقول في مذكراته: “قامت تركيا بانقلابها الكمالي، وأعلن مصطفى كمال باشا إلغاء الخلافة، وفصل الدولة عن الدين في أمة كانت إلى بضع سنوات في عُرف الدنيا جميعًا مقر أمير المؤمنين”.

هكذا صوَّر حسن البنا وقع الأمر عليه وعلى أبناء جماعته، وكأن إلغاء الخلافة المزعومة هو نهاية العالم، وتساءل: كيف سيعيش العالم الإسلامي لأول مرة -من وجهة النظر الأسطورية- دون خليفة؟! من هنا تأتي نظرة حسن البنا بضرورة العمل على إحياء الخلافة من جديدة، وأن ذلك هو قدره، بل قدر جيله كله، لذلك أصبحت مسألة الخلافة هي الفكرة المحورية للإخوان؛ لأن الخليفة من وجهة نظرهم هو الموكول إليه إقامة شرع الله، وسيتم التأسيس لفكرة الربط بين الخلافة والشريعة، ويطلق حسن البنا على نفسه لقب “الإمام”، وهو في حقيقة الأمر من ألقاب الخليفة، فالخلافة هي الإمامة.

جماعة الإخوان الإرهابية منذ تأسيسها حرصت على التباكي على خلافة العثمانيين المزعومة.

وهنا نلاحظ أن حسن البنا أسس جماعته، ودعا إلى إحياء الخلافة من جديد بناءً على صناعته لتاريخ مقدس للدولة العثمانية، والنظر إليها على أنها آخر خلافة إسلامية، وأن السلطان العثماني هو آخر “أمراء المؤمنين”، وهو اللقب التقليدي للخلافة الراشدة، لا سيما عمر بن الخطاب.

كما بنى البنا نظرته وصناعته لتاريخ مقدس للدولة العثمانية ضاربًا بما يحيط بانتقال الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين بالكثير من الغموض عرض الحائط، فضلًا عن مسألة أن الخلافة تشترط العرق العربي، والأهم من ذلك أن السلاطين العثمانيين أنفسهم كانوا يفضلون لقب “السلطان” على لقب “الخليفة”.

ومن مذكرات مؤسس الجماعة الإرهابية “الإخوان”؛ نستطيع أن نفهم الجذور الفكرية لهذه النظرة الأسطورية التي رسمها حسن البنا للدولة العثمانية وخلافتها المزعومة؛ إذ يشير في مذكراته إلى إعجابه الشديد بمحمد فريد بك المحامي (مؤلف كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية)، بل ويذكر تأثره الشديد بوفاة محمد فريد، وكيف نظم البنا عند وفاته شعرًا في تبجيله والثناء على دوره. 

هكذا تتم صناعة تاريخ مقدس لآخر خلافة -من وجهة نظرهم- وهي الدولة العثمانية. وعلى هذا يصرح حسن البنا في كتابه الآخر، وفي إحدى رسائله إلى أتباعه من الإخوان، أن الخلافة هي “رمز الوحدة الإسلامية”، ثم يربط بين السياسة والدين بشكلٍ واضح قائلًا: “وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها”، حيث يرى أن دور الخليفة هو “تطبيق شرع الله”.

وتستمر أدبيات جماعة الإخوان الإرهابية في الدعاية للخلافة، والدعوة إلى إعادة إحيائها من جديد، بعد إلغاء أتاتورك لها؛ حيث نجد هذه النظرة في كتاب المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين، وهو المستشار حسن الهضيبي “دعاة لا قضاة”، هذا الكتاب الشهير الذي صدر في أوقات صعبة في تاريخ الجماعة، في عام (1965)، مع إلقاء القبض على سيد قطب نتيجة تكفيره للمجتمع، ووصفه بالجاهلية.

ومع أن كتاب “دعاة لا قضاة” صدر في محاولة من جماعة الإخوان للتبرؤ من سيد قطب وكتاباته حول جاهلية المجتمع، ومحاولة التهدئة مع النظام الناصري، فإن الكتاب يصر على مسألة إحياء الخلافة، ويعنوِن الفصل الثامن من الكتاب بـ”الحكومة الإسلامية”، ومنذ البداية يوضح الهضيبي أن المقصود بالحكومة الإسلامية هي “الإمامة والخلافة”، ويذهب الكتاب إلى وجوب إقامة الخلافة، وأنها من الفروض الإسلامية: “إقامة الحكومة الإسلامية، أي: الإمام الحق، من فروض الكفاية، أي: هو فرض تُسأل عنه الأمة متضامنةً في جميع أفرادها إلى أن يتحقق، وكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية مسؤول مسؤولية شخصية أمام ربه عما يقصر فيه من جهد يستطيع بذله في سبيل تحقيق ذلك الفرض الذي ألزمه الله تعالى به”. كما ينص الكتاب على فكرة إحياء الخلافة صراحةً: “فكرة الخلافة والعمل على إعادتها أصل نلتزمه”.

هكذا تستمر الجماعة حتى في اللحظات العصيبة من تاريخها، شديدة الإخلاص لفكرتها المحورية “إحياء الخلافة” ليستمر الصدام من جديد مع مفهوم الدولة الوطنية.

في الواقع لم تقتصر مسألة صناعة تاريخ مقدس للدولة العثمانية، وأنها آخر خلافة إسلامية، على جماعة الإخوان المسلمين وحدهم، وإنما امتدت لتشمل التيارات والجماعات المتطرفة أيضًا، والتي في الغالب نشأت من رحم الفكر الإخواني المتطرف.

هكذا يوظِّف الإسلام السياسي تاريخ الدولة العثمانية، على أنها آخر خلافة إسلامية، ويحاول صناعة تاريخ مقدس، لأهداف سياسية لديه، توظيفًا ضد مفهوم الدولة الوطنية المدنية.

  1. محمد عفيفي، “حدود الدين وحدود الدولة، قراءة في مفهوم الدارين بين الخلافة والسلطنة العثمانية”، مجلة التفاهم، مسقط، (2011): 65- 82.

 

  1. محمد عفيفي، عرب وعثمانيون: رؤى مغايرة، طـ2 (القاهرة: دار الشروق، 2008).

 

  1. محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، ط2 (القاهرة: مطبعة محمد أفندي مصطفى بحوش قدم بمصر المحمية، 1896).

حاولوا الترويج لكل ما يمتدح العثمانيين

التخادم بين التيارات الإسلاموية والعثمنة

خلال القرن العشرين نشأت الخطوة الأولى للعثمانية الجديدة، بالتحالف بين التيارات الأيديولوجية المتطرفة في العالم العربي، وخاصة تنظيم الإخوان الإرهابي، وكان لهذه الخطوة هدف يتمثل في احتلال العقل العربي قبل الجغرافيا العثمانية التي تخلت عنها طوعًا في ليبيا لصالح الإيطاليين، وتونس والجزائر لصالح الفرنسيين، والعراق ومصر وفلسطين والشام لصالح البريطانيين، وفي مرحلة لاحقة استعادة ما خسرته عسكريًّا في الجزيرة العربية.

التنظيمات والتيارات المتطرفة في العالم العربي أجرمت في حق المواطن العربي، واستغلت الأحداث وحالة الإحباط لنشر الفكر التركي، لتكون بذلك طابورًا خامسًا يستعيد للأتراك ما فقدوه قبل مئة عام. وتقول الدكتورة شيرين فهمي في كتابها “إخوان مصر بين الصعود والهبوط 2011 – 2017”: “تصدرت تركيا دول الإقليم في دعم أواصرها وتقوية روابطها مع تيارات الإسلام السياسي عقب الانتفاضات العربية، ومن بينها جماعة الإخوان المسلمين”.

شكلت التيارات المتطرفة في العالم العربي طابورًا خامسًا خدم فكرة إعادة احتلال بعض البلدان العربية من العثمانية الجديدة.

وقبل الدخول إلى أحلام العثمانية الجديدة في استعادة احتلال الأراضي العربية، التي أُخرِجوا من بعضها وتنازلوا عن الأخرى من خلال الامتيازات الأوروبية لصالح الاحتلال المباشر؛ يجب أن نستذكر ما فعله العثماني سليمان القانوني الذي توسع في منح الفرنسيين امتيازات في البلاد العربية عام (1569)، والتأكيد على حماية الفرنسيين للمواطنين العثمانيين من أتباع المسيحية، وخاصة للكاثوليك، كما جرى السماح للحكومة الفرنسية بالإشراف من خلال قنصلياتها على أراضٍ عثمانية في الشام وجبل لبنان، إضافة إلى إرسال بعثات دينية كاثوليكية إلى البلاد العثمانية، خاصة بلاد الشام، بل إن ملك فرنسا طالب أن يكون من حق كل من بابا روما وملكا إنجلترا وأسكتلندا أن يتمتعوا بمنافع بنود اتفاقية الامتيازات إن أرادوا ذلك، ووافق السلطان سليمان القانوني، كما منح السلطان مراد الرابع الفرنسيين حق حماية بيت المقدس.

النظرة العثمانية للبلاد العربية كانت مبنيةً على المصالح الخاصة بسلطنتهم، والمقايضة التي قام بها العثمانيون مع الأوروبيين أثبتت رخص الشعب العربي وأرضه لدى سلطنة الأتراك، فكانت تضحية برغماتية لم تأخذ في اعتبارها ما يسوّق له من أخوة الدين والجوار، والواجبات الدولية، فقد انتقلت الأراضي العربية من محتل عثماني إلى محتل غربي، وكأن العرب مجرد سلعة لا قيمة لها!

فهم القائمون على العثمنة أنهم لن ينجحوا في استعادة الاحتلال بدون طابور خامس متغلغل في المجتمعات العربية يهيئ لهم الشارع، ويتخادم معهم، وينقض الدول العربية دولة دولة من خلال أساليب عديدة، منها صناعة الإحباط والتشكيك في مستقبلهم، ولوم الحكام على ما وصلت إليه بعض الدول العربية من أوضاع اقتصادية وسياسية وتنموية، لكن من المهم الانتباه إلى أن جزءًا من ذلك الاختناق كان مصنوعًا بأيدي التنظيمات الإسلاموية؛ لأنها تريد الاستفادة منها لاحقًا من خلال الفوضى التي عملت على إنجازها التنظيمات الإسلاموية، وهو ما حصل فعليًّا في ليبيا والصومال وشمال سوريا، وجزئيًّا في السودان وتونس ومصر.

الربيع العربي جسر العثمانيين الجدد:

جاء الربيع العربي ليكون جسر العثمانيين الجدد للتسلل من خلاله، ومن ثَم قضم البلاد العربية تدريجيًّا، كما تحول ليكون اختبارًا قويًّا لعلاقة التخادم بين العثمانيين الجدد والتنظيمات الإسلاموية، ليبدأ بعدها الطابور الخامس في خلق حالة السيولة في الشارع العربي، التي صاحبت الاضطرابات وإثارة الشعوب ضد حكوماتها، والدفع بالأفكار المتطرفة للتغلغل بين الشباب، وتحويلها إلى موجة من الاحتجاجات الدامية كما حصل في ليبيا واليمن وسوريا.

لقد وقف مشروع الجماعات والتنظيمات الإسلاموية مع الأتراك في صف واحد، بهدف إعادة إنشاء الإمبراطورية العثمانية من جديد، وإنتاج احتلال آخر بديلًا عن الدول العربية الوطنية التي ما كادت تتخلص من الاحتلال العثماني حتى سقطت في احتلال غربي، ثم تحرر ليعاد الأتراك من شباك الاضطرابات مرة أخرى.

وتأتي ظاهرة التخادم بين الأحزاب والتنظيمات الإسلاموية والعثمانيين الجُدد في محاور رئيسة:

  1. إعطاء الأحزاب والتيارات والأفراد المحسوبين على جماعة الإخوان الإرهابية وحلفائها مساحة من الحركة والدعم المالي والإعلامي، والتمكين لتكون حديقة خلفية ينفذون من خلالها برامجهم وخططهم التي تستهدف العالم العربي.
  2. تقوم الجماعات الإسلاموية بالترويج لفكرة الخلافة، ثم تربطها بالعثمانيين، مع تعظيم دورهم – المزعوم- في دعم الإسلام والعرب.
  3. تقوم الأحزاب والتنظيمات بتهيئة الرأي العام العربي لقبول فكرة الاحتلال من جديد، واعتباره الأمل للخروج من حالة الضيق والفساد والتدهور، واعتباره طوق النجاة للعالم العربي، بينما هو في حقيقة الأمر احتلال آخر، بوجهٍ آخر.
  4. خلق سردية جديدة للعثمانيين، تُغيِّب الجرائم العثمانية في حق العرب من تجهيل متعمد، واستنزاف للثروات، أو من خلال التخلي عن الأرضي العربية لصالح المستعمر الأوروبي، وهو ما أنتج كل حالة التردي التي يعيشها بعض العرب حاليًّا.

 

يقول الباحث محمد عبد القادر خليل في دراسة له بعنوان “تركيا والإخوان.. علاقات أيديولوجية تتجاوز المصالح السياسية”: “لا تقوم العلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين فقط على الروابط القوية التي تجمع النخبة السياسية الحاكمة في تركيا مع مختلف جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان، وإنما تتأسس أيضًا على ذلك النمط من الروابط التي تتجاوز الإطار السياسي إلى النسق الأيديولوجي الذي يجعل الجانبين ينتميان لتيار عقائدي واحد، وذلك منذ أن أقدم نجم الدين أربكان على تأسيس حركة “المللي جورش” في ستينيات القرن الماضي، والتي تمثل الجناح التركي لجماعة الإخوان.

  1. شيرين فهمي، “إخوان مصر بين الصعود والهبوط 2011 – 2017″، العربي للنشر والتوزيع (2019).

 

  1. محمد خليل، تركيا والإخوان.. علاقات أيديولوجية تتجاوز المصالح السياسية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، على الرابط:
    1. https://acpss.ahram.org.eg/News/16599.aspx

 

  1. محمد عفيفي، “حدود الدين وحدود الدولة، قراءة في مفهوم الدارين بين الخلافة والسلطنة العثمانية”، مجلة التفاهم، مسقط، (2011): 65- 82.

 

  1. محمد عفيفي، عرب وعثمانيون: رؤى مغايرة، طـ2 (القاهرة: دار الشروق، 2008).
تشغيل الفيديو

الحركيُّون يحاولون تهميشه وتسطيح دلالاته

كيف نشأ مصطلح "العثمانيون الجُدد"؟

في البداية لا بد من التعرف على مصطلح “العثمانيون الجدد”، ومن أين أتى هذا المصطلح وما هو ارتباطه بالحركات الإسلامية المتطرفة؟ ومن هنا يمكن القول: هل يطلق على كل من يتبنى النزعة العثمانية أم على مَن بالتحديد؟ في الحقيقة، الأمر يحتاج منا إلى تفتيش في العديد من الطروحات العلمية المقدمة للقارئ العربي، ولكن أصحاب النزعة العثمانية يتقنون ممارسة لعبة خلط الأوراق كجزء من حملتهم المضللة، فيحاولون أن يخلقوا حالةً من الضبابية حول مصطلح “العثمانيون الجدد”؛ فهم يتهمون من يستخدمونه بأنهم ضعاف العقول، والحجة هي أنه مصطلح سياسي ابتُكر لوصف ممارسات سياسية، لا لوصف المشتغلين بالتاريخ العثماني.

إذن وفقًا لهذا القول فقد أصبح كل من يدين عملاء التيار العثماني الجديد بالانتماء له؛ جاهلًا ضعيف العقل، متهمًا بتعميم وصف سياسي على كل من اهتموا بتاريخ العثمانيين. ولفهم تحولات التيار الحركي الإسلامي يشير إدريس بوانو إلى أن التحولات التي عرفها التيار الإسلامي، سواء على مستوى الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية ذات البعد التربوي والفكري، أو على مستوى الجماعات الإسلامية ذات البعد الحركي الممثلة بجماعة الإخوان الإرهابية في كل مكان وممارستها وتجربتها السياسية، حيث عرفت ميلاد توجه جديد يمثله تيار سياسي حاكم، وهذا التوجه أو هذه التجربة تشكل نقلة نوعية في مسار الحركيين عمومًا، وفي مسار التجربة السياسية ذات المرجعية الإسلامية في تركيا على وجه الخصوص، فهي حركة سياسية مؤطرة في هذا الحزب أكثر مما هي عنوان حزب مجتمعي مؤسساتي. ومع أنهم حرصوا خلال المرحلة الأولى على إبعاد الصفة الإسلامية والعثمانية عن حزبهم، والظهور بمظهر ديمقراطي محافظ على غرار الأحزاب المسيحية في الغرب؛ فإن تحولًا كبيرًا جرى مع زيادة نفوذ هذا الحزب؛ إذ إن لسان حالهم يقول: إن العقود السابقة من تاريخ الجمهورية التركية لم تكن سوى فاصل إعلاني قصير من عمر الإمبراطورية العثمانية.

حالة الدمج بين الإسلام السياسي والعثمانية الجديدة كانت مدروسة، بهدف تأسيس دولة جديدة بحلول عام (2023)، خلال الذكرى المئوية لانهيار الدولة العثمانية. ومن هنا يمكننا أن ندرك كيف برز مصطلح “العثمانيون الجدد” على الساحة السياسية والفكرية. والسؤال المطروح: هل كل من كتب في التاريخ العثماني يعتبر من العثمانيين الجدد؟ وللإجابة على ذلك التساؤل نقول: لا يمكننا التعميم على كل من تناول التاريخ العثماني بالدراسة العلمية الجادة والمحايدة بأنه من العثمانيين الجدد، فهناك دراسات تاريخية محايدة في الطرح، ولم تكن تنظر من الزاوية العاطفية الدينية التي اتخذها العثمانيون الجدد معراجًا للوصول لأهدافهم الحزبية والسياسية بما يتماشى مع سياسة الجماعة ذات التطلع لإعادة الخلافة بما يوافق هواهم العثماني، من خلال التأثير في النشء والمجتمعات من خلال غرس الفكرة لتصبح مع مرور الوقت قوةً ناعمة ومؤثرة على مستوى المجتمعات والأوطان.

وجُنِّد لمثل هذا الطرح مجموعة من الذين اقتحموا الكتابة التاريخية عنوةً، حتى وإن لم يكونوا مؤرخين، مثل الإخواني علي الصلابي الموضوع عربيًّا على قوائم المطلوبين لدعم الإرهاب، فهو يقحم انتماءه السياسي إقحامًا في كتاباته بشكل مبتذل، ويتهم هذا وذاك بتهم من كالماسونية أو معاداة الإسلام بدون تقديم أدلة ولا أسانيد، بل يلقيها جزافًا، وبرأيه “هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، فخذه كما هو”، ومن أمثال الدكتور محمد الجوادي الذي يطلقون عليه “أبو التاريخ”، وغيرهم كثيرٌ ممن فسروا التاريخ بما يناسب هوى الإخوان وفكرة عودة الخلافة. وأمام ذلك السيل الجارف من الفكر الإخواني واستخدامه للتاريخ بما يفيد فكر الجماعة وتأصيله، نجد أن هناك الكثير والكثير من المؤرخين الذين قدموا دراسات علمية واقعية ومحايدة لتاريخ العثمانيين دون الوقوع في مثل ذلك الفخ المسيس، والأمثلة كثيرة ومنتشرة في جامعاتنا العربية.

صنعوا لأنفسهم مؤرخين بنفس حركي سياسي مفضوح.

وهناك طرف ثالث مجامل أو متخوف من التيار الحركي الإسلامي حتى لا يتهم ويصنف ويوضع في مقدمة الأعداء المحاربين للفكر الإخواني، ولذلك خرج نتاجهم العلمي غير واضح المعالم وظهرت الضبابية في طرحهم، وحتى لا ننخدع فإن لهم في الألاعيب تاريخًا طويلًا من المتاجرة بالدين، فمن تاجر بالدين حتمًا سيُتاجِر بالعلم. 

  1. إدريس بوانو، إسلاميو تركيا-العثمانيون الجدد (دمشق: مؤسسة الرسالة، 2005).
  2. إريك زوركر، تاريخ تركيا الحديث، ترجمة: عبد اللطيف الحارس (بيروت: دار المدار الإسلامي، 2013).
  3. خورشيد دلي، “إسلاميو تركيا.. العثمانيون الجدد” (أبو ظبي: العين الإخبارية، على الرابط:

 https://al-ain.com/article/turkey-islamists-new-ottomans

  1. وليد فكري: “مصطلح العثمانيون الجدد- العلم والسياسة”، على الرابط:

https://www.skynewsarabia.com/blog/1401580