تزوير النسب العثماني:
مقدمات لتكريس هوية عرقية "مفقودة"
إن الانضباط للطرح الأكاديمي والمنهجي، يضعنا أمام إشكالية تاريخية وصعوبة شديدة في تمحيص وتأريخ نسب العثمانيين بالنظر إلى قلة ما كتبه العثمانيون أنفسهم حول أصولهم وتاريخهم قبل دخولهم القسطنطينية، إذ لم تكن هناك سجلات مكتوبة ومعتبرة يمكن الارتكان إليها لتفكيك هذه الجزئية التاريخية، حتى المصادر البيزنطية لم تتناول هذه التفصيلة التاريخية في كتاباتهم ونفس الملاحظة يمكن إسقاطها حول الأوروبيين الذين -ربما- لم يروا أهمية لتدوين أصل العثمانيين، وهو ما يجعلنا أمام إشكالية بحثية حقيقية تدفعنا -مضطرين- إلى التركيز على ما تواتر لدينا من الإثباتات التاريخية حول نسب العثمانيين الحقيقي، إن وُجد.
في هذا الصدد، تُرجع شريحة كبيرة من العرب والمسلمين أصول العثمانيين إلى الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بالنظر إلى عدم إلمام معظمهم أو حتى اهتمامهم بتاريخ الدولة العثمانية، بالإضافة إلى نجاح البروباغندا الإعلامية التركية في ترسيخ هذا الاعتقاد والتماهي معه، ولو بشكل غير رسمي، من خلال القفز على التاريخ الحقيقي للعثمانيين ومحاولة إيجاد نقطة التقاء عند الخليفة الراشد ذي النورين.
وإذا كان الإعلام التركي الرسمي يعترف -مضطرا- بالنسب العثماني الرسمي وانتهائه إلى مؤسس الدولة الأول عثمان بن أرطغرل، إلا أن الإعلام غير الرسمي الأكثر انتشارا على مستوى العالم العربي والإسلامي المدعوم تركيا والمستند إلى الكتائب الإلكترونية الإخوانية، لا يزال يدغدغ مشاعر العوام بهذا الانتماء “المزعوم” لمحاولة إضفاء طابع من الشرعية المفتقدة على ما أطلقوا عليه “الخلافة العثمانية”. ولعل استماتة الأتراك في محاولة ربط أصل نسبهم بالخليفة عثمان بن عفان مرده إلى محاولة شرعنة مؤسسة “الخلافة” وتحقيق شرطي “العروبة” و”القرشية” كشروط أساسية ومقدمات شرعية لاعتلاء منصب “الخلافة”.
في هذا السياق، اجتهد البعض في الربط بين العرق المغولي، الذي ينتهي إليه نسب الأتراك، وبين الخليفة الراشد عثمان بن عفان، إذ نجد أحد المواقع المعروفة بولائها لأنقرة يقول: “هل تعلم أن من أوصل رسالة الإسلام لتركيا هو عثمان بن عفان، وفي عهد عثمان تعرف الأتراك على الإسلام لأول مرة في التاريخ. بعد عثمان ظهر العثمانيون والإمبراطورية العثمانية التي استمرت لحوالي 600 سنة ثم تحولت إلى دولة تركيا اليوم. عثمان بن عفان هو ثالث الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة”. (موقع haltaalam.info).
وارتباطا بنفس الأطروحة، انتشرت مجموعة من الأساطير التاريخية حول قيام الدولة العثمانية، حيث زعم بعضها بأن نسب العثمانيين يصل إلى “يافث بن النبي نوح” وبأن المؤسس الروحي للدولة العثمانية أرطغرل هو ابن سلطان مسلم يدعى سليمان شاه كان من المجاهدين الذي رفعوا راية الإسلام قبل أن “يستشهد” في نهر الفرات، ويقود ابنه أرطغرل عشيرته المنتمية إلى عشيرة “قايي” التركية، وحكم جزء من شبه جزيرة الأناضول تحت راية السلاجقة قبل أن يؤسس لحكم آل عثمان بعد “جهاد” مرير ضد الإمبراطورة البيزنطية، حسب رواية المقربين من الأطروحة التركية.
على الجانب المقابل، يشكك الباحثون في هذه الرواية معتبرين أن شخصية “سليمان شاه” هي شخصية خيالية صنعتها البروباغندا العثمانية في محاولة منها لإيجاد أرضية وأصول إسلامية لتأسيسها وخلق نسبٍ راقٍ لأصولها. بينما يرى آخرون أن هذه الشخصية تعود في الأصل إلى القائد السلجوقي سليمان الذي أسس لمُلك السلاجقة في الأناضول، الذين أطلق عليهم لقب “سلاجقة الروم”.
إن محاولة العثمانيين فرض هالة عرقية حول نسبهم، دفعهم، -حتى حدود أواخر القرن التاسع عشر- إلى التبرؤ من أصولهم التركية بل صوروا العرق التركي على أنه يمثل الأجناس التركية المتخلِّفة في نظرهم والتي كانت تقطن في آسيا مثل السلاجقة والتركمان والأوزبك. ويقول عبد العزيز الشناوي في كتابه “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها” ما نصه “فكان العثمانيون يتمسكون بكلمتي “عثماني” و”عثمانيين” لقباً مميزًا لهم وتعبيرا عن اعتزازهم بانتسابهم إلى عثمان الأول من ناحية، واستعلاءً على هذه الأجناس التركية الآسيوية المتبربرة في نظرهم من ناحية أخرى”.
في هذا الصدد، يقف الباحث في تاريخ الدولة العثمانية عند محاولات تيار الإسلام السياسي في تركيا إلى العودة بأصولهم إلى العثمانيين وليس إلى العرق التركي مع اعتبار أن هذا الأخير جزءٌ من مكون الدولة وليس العرق المؤسس لها. فهذا الطرح يجد ما يفسره في الحمولة السلبية التي روجها آل عثمان حول لقب “تركي” في التاريخ العثماني، وهنا يؤكد نفس المؤلف على أن الاعتراف بالأصل التركي للدولة العثمانية لم يكن إلا بدايات القرن العشرين، فيقول “فكانوا يطلقون لفظة تركي على الفلاح العثماني الجاهل أو أحد سكان قرى الأناضول بمعنى واحد هو (الجلف) تهكُّما عليه، أو تحقيرا له، أو سخرية به. وقد ذهب العثمانيون إلى أبعد من ذلك، إذ كان إطلاق كلمة تركي على أحد العثمانيين المقيمين في العاصمة أو في إحدى المدن العثمانية يعتبر إهانة له، على الرغم من أن لغتهم كان يطلق عليها في جميع العصور التاريخية اللغة التركية”.
لقد ظل العثمانيون يتنكرون إلى نسبهم التركي حتى اندلاع الحرب التركية-اليونانية سنة 1897م حيث بدأ الخطاب الرسمي في إعادة تغيير مدلولات كلمات تركيا وأتراك وتركي لتعبر – حسب فلاديمير مينورسكي – عن مفاهيم الوطن التركي والشعب التركي، ويستدل على هذا التغير بالقصيدة التي نظمها الشاعر العثماني محمد أمين بك بمناسبة هذه الحرب حيث يقول فيها “بن بر توركم حنسم أولو در”، ومعناها “أنا تركي، ديني وجنسي من أعظم الأديان والأجناس”.
وبالعودة إلى شخصية أرطغرل نفسه فإن مجموعة من الشكوك تحيط حول هويته الإسلامية، على خلاف الكتابات العثمانية التي تقدمه على أنه مجاهد ومن أصحاب السابقة إلى الإسلام في قومه، إذ يذهب البعض إلى أنه ربما كان مسلمًا في الأصل ولا صحة للادعاء القائل بأنه أول من أدخل الإسلام في قومه وهو ما يدخل في إطار محاولة تجميل صورته في اللا وعي الجماعي لأتباع الأطروحة العثمانية، بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن عشيرة أرطغرل لم يكونوا مسلمين وإنما اعتنقوا الإسلام في عهد ابنه عثمان الذي ينتسب له العثمانيون.
ويبدو أن النواة الأولى للعثمانيين لم تكن، في الأصل، بنية عشائرية متجانسة، حيث تذكر المصادر التاريخية بأن عشيرة عثمان بن أرطغرل لم يكن يتجاوز عددها 4 آلاف فرد، قبل أن تتسع هذه العشيرة على أنقاض باقي العشائر المجاورة الضعيفة التي ارتأت ضرورة الانضواء تحت لوائها بالإضافة إلى استقطابها لعرقيات بيزنطية وأرمينية كانت ناقمة على نمط الحكم البيزنطي وضرائبه الباهظة. ويبدو أن تطور العشيرة إلى إمارة ثم إلى سلطنة ثم إلى إمبراطورية دفعها إلى البحث عن شهادة ميلاد مشرفة تليق بحجمها وبمكانتها الجديدة.
من خلال ما سبق، يتبين أن العثمانيين لم يكتفوا بتطويع النصوص الدينية لما يخدم أجندتهم السياسية بل اجتهدوا في تزييف نسبهم بما يساهم في إضفاء هالة من القداسة حول أصول قيام دولتهم وأيضا حول أصولهم العرقية وهي البروباغندا التي نشطت الأذرع الإعلامية الموالية لأنقرة في نشرها وتكريسها في المخيال الجماعي للعرب والمسلمين كمقدمة لتحقيق الهدف السياسي الأسمى للعثمانيين الجدد الذين يتوهمون أنهم يمتلكون أحقية تمثيل العالم الإسلامي وهم خير من يحمل لواء الخلافة الإسلامية حلم حياة تنظيمات الإسلام السياسي التي ارتبطت روحيًّا وإيديولوجيًّا ووجوديًّا بالأطروحة العثمانية.