
أربعة قرون من التمهيد العثماني
لتوطين اليهود في قلب المشرق
“لا تُعيدوا يهود إسبانيا، واستقبلوهم بترحاب كبير، ومن يفعل عكس ذلك ويعامل هؤلاء المهاجرين معاملة سيئة أو يتسبب لهم بأي ضرر، فسيكون عقابه الموت”. بهذه العبارة الواضحة، فتح السلطان بايزيد الثاني ذراعيه محتضنًا يهود الأندلس الذين هربوا من اضطهاد المتطرفين المسيحيين، الذين أقاموا المذابح ضد اليهود والعرب المسلمين، لكن بايزيد اختص اليهود بالعناية والرعاية وأهمل العرب.
السلطان بايزيد وطّن اليهود في أراضي الدولة العثمانية.. وعاقب بالإعدام من يضايقهم

تلك لم تكن الهجرة الأولى التي يقوم بها يهود أوروبا إلى الدولة العثمانية، ولعلنا نقول إن الاستيطان اليهودي المكثف في الشرق لم يكن ليكون كما هو الحال اليوم لولا دعم السلطنة العثمانية. ففي عهد الملك الفرنسي شارل السادس، تم طرد اليهود من فرنسا عام 1394م ليستقروا في السلطنة العثمانية، وهم من أوائل المهاجرين اليهود الذين تبعتهم هجرات عديدة، كلها كانت محل ترحاب السلاطين العثمانيين.
يقول الكاتب أحمد حكمت في كتابه اليهود في الدولة العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر: “لقد لقي اليهود المهاجرون كل أنواع الدعم والمساعدة من حكّام الدولة – العثمانية – ومنعت الدولة بشكل قاطع التصرف السيئ تجاه هؤلاء المهاجرين، وقد ذكر الحاخام “إيليا قابصلي” هذا الأمر قائلًا: “لقد علم السلطان بايزيد سلطان تركيا بالمصائب التي كان يتعرض لها يهود إسبانيا، وعلم أنهم يبحثون عن مأوى وملجأ لهم، فشملهم بعطفه، وأرسل مناديًا في كل الدولة بمنع إيذاء اليهود وسبّهم بشكل قاطع، وأمر أن يُعاملوا بالرفق والشفقة، وأمر أن يُعاقب أي شخص يُسيء معاملة اليهود بعقوبة الإعدام”.
وكنتيجة للتعامل الفريد الذي قام به السلطان بايزيد مع اليهود، اندفع اليهود، وخاصة “الأشكناز” من وسط أوروبا ليستقروا في مدن تركية عديدة، ثم انتقل الجزء الأكبر منهم بعد ذلك إلى مدن عربية في الشام، وخاصة دمشق، طرابلس، وصيدا، ثم صفد، وهي من مدن فلسطين اليوم، وبعدما تحصلوا على التابعية العثمانية وأصبحوا مواطنين، أصبح يحق لهم شراء وبيع الأراضي، وهو ما ملكهم عشرات الآلاف من الدونمات في الأراضي المقدسة. لقد حقق لهم بايزيد الثاني ما لم يكونوا يحلمون به، دون جهد، في فلسطين، حيث اشتروا الأراضي الواسعة من السكان بالقانون العثماني، دون أن يمنعهم أحد.
موقف اليهود من السلاطين العثمانيين
يُقدّر عدد اليهود الذين انتقلوا من الأندلس وبقية أوروبا إلى السلطنة العثمانية بين 250,000 – 300,000، شكّلوا النواة الرئيسية للمكون اليهودي الشرقي الذي تمدد اليوم في فلسطين، وتلتهم هجرات أخرى.
لقد تعامل اليهود مع ما منحهم إياه السلطان بايزيد وبقية السلاطين على أنه منحة إلهية، حتى إنهم وصفوا القادة العثمانيين بـ”أبناء سيروس العادل الذي قدّسه الرب”، واعتقدوا أن الملك جبرائيل يسير بسيفه في مقدمة الجيش العثماني فاتحًا الطريق أمام المسيح.
هكذا آمن اليهود بالعثمانيين واعتبروهم المخلصين لهم، ولعلنا نقول إن العثمانيين لم يخذلوهم، بل كانوا لهم الأصدقاء والأحبّة، ومكّنوهم وأعطوهم وطنًا بديلاً في البلاد العربية.
لقد بذل العثمانيون جهودًا كبيرة لمساعدة اليهود على الهجرة إلى أراضيهم، بل منحوهم الكثير من الحقوق التي كانت تُرهق العرب والمسيحيين الذين عاشوا تحت الاحتلال العثماني. كانت تلك العلاقة المصلحية تقوم على اعتبار اليهود مكونًا اقتصاديًا مهمًا، وهو ما أكّده دائمًا السلطان بايزيد الثاني، ولتحقيق ذلك الهدف تم إعفاؤهم من الضرائب.
لقد عرف المهاجرون الأوائل من اليهود الحياة الرغيدة والعيش الاستثنائي تحت السلطنة العثمانية، الأمر الذي دفع أعدادًا كبيرة من يهود أوروبا للالتحاق بهم.
هؤلاء اليهود لم يأتوا بالباراشوت إلى أراضي السلطنة العثمانية، وخاصة الأراضي العربية المحتلة (الشام – لبنان – مصر – فلسطين)، بل نقلهم الأسطول العثماني الذي كان موجودًا بكثافة في البحر الأبيض المتوسط، وينتقل بين سواحله.
السلطان عبد الحميد يُكمل ما بدأه سلفه السلطان بايزيد
لم يكن موقف السلطان عبد الحميد الثاني إلا استمرارًا لمواقف السلاطين العثمانيين من قبله، وخاصة السلطان بايزيد الثاني، ولا يمكن فصله أو استثناؤه باعتباره عملًا وحيدًا، بل يؤكد على أن العلاقة والتحالف ممتدان من حوالي 400 عام.
تقول الدكتورة فدوى نصيرات في كتابها دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين إنه “خلال حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية، كان اليهود من رعايا السلطان ينتقلون بحرية من فلسطين وإليها، وأقاموا في الأماكن المقدسة في القدس وصفد وطبريا والخليل. ومع نظام الحماية الذي طبقته الدولة العثمانية على الأقليات الدينية عبر منحهم المساواة التامة مع المسلمين، أصبح هؤلاء الرعايا يلجؤون إلى القناصل الأجنبية في القدس، ليكونوا تحت حماية دولهم، وليصبحوا مواطنين أجانب يتمتعون بالامتيازات الأجنبية الممنوحة لهم”. وتؤكد الدكتورة نصيرات أنه “مع صدور فرمان تملُّك الأجانب لعام 1869م، تزايد قدوم اليهود الأجانب إلى فلسطين، ولم تُدقق الدولة العثمانية في أسباب دخولهم، الأمر الذي مكّنهم من شراء الأراضي والبدء في إنشاء المستعمرات؛ وأُعطيت لهم الحقوق الكاملة في التملّك والعمل على كل الأراضي العثمانية ما عدا الحجاز”.
تغيير ديموغرافي تسبب به العثمانيون لصالح اليهود في فلسطين العام 992هـ / 1584م:
التغيير الديموغرافي على الأراضي الفلسطينية كان عميقًا جدًا بسبب السلطة العثمانية التي احتلت الأرض، ولم تُراعِ حرمة أو قدسية لها، ولم تضع ميزان العدالة بين السكان الأصليين (من مسلمين ومسيحيين) وبين المهاجرين اليهود.
ففي وثيقة مؤرخة بتاريخ 992 هـ / 1584م، تؤكد أنه بينما كان يوجد ثلاثة معابد يهودية في صفد قبل ذلك التاريخ، فإنه وبسبب الهجرة اليهودية الكثيفة – التي سمح بها العثمانيون – بلغ عدد المعابد 33 معبدًا في عام 1584م.
يا له من تغيير رهيب على الأرض جاء بسبب التمدد والهجرة الكثيفة، ويشير بوضوح إلى أن السلطة العثمانية على فلسطين لم تكن تمانع أبدًا من زيادة أعداد اليهود وتغييرهم الواقع على الأرض.


- أحمد حكمت، اليهود في الدولة العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر، ترجمة: أحمد نجم (د.م: أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2019).
- ستانفورد شو، يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية، ترجمة: الصفصافي أحمد القطوري (القاهرة: دار البشير، 2014).
- فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876-1909)(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية).