الوصاية الفرنسية على المسيحيين في بلاد الشام

كانت الأقليات العِرقية، وما تزال، من أهم المداخل التي يَنفُذ من خلالها الاستعمار الأجنبي إلى الشؤون الداخلية للدول المرشحة للاحتلال، وتم استعمال واستغلال هذه الورقة من أجل إخضاع دول وتقسيم أخرى خِدمةً لأجندات استعمارية متوحِّشة، فمن سوريا إلى العراق، ومن رواندا إلى السودان، ومن نيجيريا إلى الكاميرون، لا صوت يعلو على صوت العِرقيات التي وجدت لها امتدادات خارجية، ودعمًا من طرف أيادٍ خبيثة استغلت هذه الورقة من أجل الضرب في أُسُس الوحدة الوطنية، وتَماسُك النسيج المجتمعي، وفرض الوصايا الدينية كمقدمة لوضع اليد على جغرافيا ومقدرات هاته الدول.

في هذا السياق كانت الأقليات المسيحية في الدول العربية هي الورقة التي لعبت وتلاعبت بها دولة مثل فرنسا من أجل إنجاح مخططاتها الاستعمارية، خاصة في الشام عاصمة الخلافة الأموية. حيث استغلت عدم النضج السياسي لبعض سلاطين الدولة العثمانية من أجل إبرام مجموعة من الاتفاقيات التي شكلت مسوِّغًا لفرنسا من أجل خلق طابور خامس داخل السلطنة، كمقدمة لبداية التغلغل الديني الذي سيعقبه الاختراق المادي، وانتهاءً بالاحتلال المباشر لهذه الدول.

ويمكن القول بأن آل عثمان لم يتصرَّفوا بمنطق الدولة في تعاملهم مع المسيحيين بمنطق “المواطنة” الحقة التي تجعل الدولة على مسافة واحدة من جميع التعبيرات العِرقية مهما كان الخط الديني الذي يضبط التعبير السياسي للدولة.

في هذا الصدد استغلت فرنسا، منذ القرن 18، ما عُرف ب “معاهدة الامتيازات” التي أبرمتها مع الدولة العثمانية، والتي منحت فرنسا الوصاية على المسيحيين الكاثوليك، ومن خلال هذا الاختراق تمكَّنت فرنسا من إنشاء شبكة من المؤسسات الدينية والمدارس التبشيرية كان لها دور خطير من التوطئة للنفوذ الفرنسي خاصة في بلاد الشام.

ويجدر بنا التنبيه إلى أن مثل هكذا اتفاقيات ضربت في سيادة الدولة، وجعلت جزءًا من النسيج المجتمعي في بلاد الشام خاضعًا للوصاية الفرنسية، والجزء الآخر متأثرًا بثقافتها وفكرها، وهنا نسجل بأن المدارس التبشيرية اجتهدت في نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين، بالإضافة إلى الديانة المسيحية، مع التركيز على فئة الأطفال الذين نشأوا في أحضان الثقافة الفرنسية، خاصة إذا ما علمنا أن فرنسا كانت تتكفل بمصاريف 45 ألفًا من أصل 65 ألف طفل كانوا يدرسون في المدارس التبشيرية.

هذه الإستراتيجية الفرنسية انعكست بشكل كبير على الأجيال المتعاقبة، حيث تربَّى جزء كبير من الشباب العربي متشبِّعًا بالأفكار والتوجهات التي كانت سائدة في أوروبا بشكل عام، وخاصة على عهد فلاسفة الأنوار، وهو ما شكَّل مدخلًا للمطالبة بتنزيل النموذج الفرنسي على البيئة الشامية. بل واتجهت بعض الرموز العربية إلى تبنِّي الثقافة الفرنسية جملة، ومنهم من انخرط في المحافل الماسونية، وارتقى إلى أن وصل إلى مراكز مهمة في مربع صناعة القرار الماسوني.

ومن المفارقات العجيبة، التي نوردها هنا من باب التلميح لا التصريح، أن مجموعة من المحسوبين على المدرسة الإسلامية، ومنهم من نصب نفسه أميرًا للمؤمنين في إحدى المناطق، كانوا حطبًا للسياسات الفرنسية في المنطقة، ونجحوا في التنزيل المادي للتوجهات الفرنسية، خاصة على عهد نابليون الثالث. ونجحت هاته الشخصيات في تبييض صورة فرنسا في المجتمع الشامي، بل وألَّبت على الدولة العثمانية، ونادت بدخول الفرنسيين إلى سوريا على اعتبار أن السلطنة أصبحت عاجزة عن تقديم نماذج سياسية وحضارية للعرب، وبأن المسيحيين هم الأقرب والأرحم للعرب من العثمانيين.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا ستستغل المناوشات الدرزية المسيحية في إمارة جبل لبنان (1841-1861) ليتم تصويرها على أنها مجازر ارتُكِبت في حق المسيحيين، بتقصير وربما بتواطؤ مع الدولة العثمانية (حسب ادعاء الفرنسيين)، وقاموا بتوشيح صدر من ادَّعى أنه قام بحماية المسيحيين وإيوائهم، ولتكون هذه الأحداث بداية نهاية التواجد العثماني في الشام، والتحضير لدخول المستعمر الفرنسي بدايات القرن 20م.

لقد ساهم تبنِّي المُشرِّع الفرنسي للمبادئ العلمانية سنة 1905م، من خلال إقرار قانون فصل الدين عن الدولة، بالإضافة إلى المنافسة الشرسة مع الفاتيكان حول الوصاية على مسيحيي الشرق، في دفع فرنسا إلى التفكير في تأطير أكبر لسكان بلاد الشام، من خلال إقرار تعليم علماني يمتح من مبادئ الثورة الفرنسية، ومنفتح على المكوِّن العربي في المنطقة.

ونستطيع القول بأن هذه البعثة العلمانية الفرنسية ( Mission Laïque Française”) أكملت ما بدأته البعثات التبشيرية الأولى، من خلال احتضان الشباب العربي، وتأطيرهم خارج قواعد التأطير الكلاسيكي للمدرسة العربية المحافظة، ومن هنا لم يكن ينتظر الفرنسيون إلَّا إنضاج بعض الشروط، وانفراط عقد إمبراطورية “الرجل المريض” من أجل وضع اليد على سوريا.

في هذا الصدد، رأى الغربي العالم في فرنسا الوريثة الشرعي لبلاد الشام، وذلك من خلال العلاقة التي زعموا أنها تربطهم بشعب هاته الجغرافيا منذ الحروب الصليبية وثبتتها الاتفاقيات الفرنسية العثمانية، وأكدتها أحداث 1860م، وهنا سنجد أن جانبًا كبيرًا من الطبقة الفرنسية كان يطالب بضم سوريا إلى فرنسا قُبَيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث كان يُطلق عليهم لقب “السوريين”.

على المستوى الإستراتيجي يمكن ربط الاهتمام الفرنسي بسوريا بالاستكشافات الجديدة للنفط في منطقة كركوك الكردية، والتي طالب الفرنسيون بها هي الأخرى خلال محادثات سايكس بيكو. ومن الواضح أن السلطات الفرنسية كانت تريد وضع يدها على نفط المنطقة، وضمان إيصاله إلى فرنسا عبر السواحل السورية، وهي النقطة التي تفسر لنا الاهتمام الفرنسي الكبير بضم هاتين المنطقتين معًا.

وإذا كانت فرنسا ترى في احتلال سوريا ضرورة دينية، وانتقامًا لهزائم الصليبيين أمام سيوف المسلمين، فإن الوضع تغيَّر خلال القرن العشرين، وتحوَّل الاهتمام إلى البحث عن وضع اليد على مقدرات المنطقة، واستباحتها اقتصاديًّا وطاقيًّا، ولو تحت مبرِّرات الحق التاريخي والوصاية على المسيحيين.