من "الخراب" إلى "الدلم": عندما تُركب الأسِنَّةُ اضطرارًا

ألهمت الانتصارات التي حققها والي مصر محمد علي، في كل من الشام والسودان، وإخضاعه أجزاءً من اليونان والأناضول إلى تطلّعه لاحتلال المزيد من المناطق على حساب الأراضي المحسوبة -ولو صوريًّا- على نفوذ السلطنة العثمانية، مع التركيز على منطقة الجزيرة العربية حيث مركز الثقل الديني لأي كيان سياسي جديد بالنظر إلى وجود الحرمين الشريفين، بالإضافة إلى الموانئ المهمة التي ستشكّل رافدّا مهمًّا من روافد الاقتصاد المصري وستساهم في تحقيق استقلالية فعلية عن الآستانة.

ولعل البيئة السياسية والقبلية لمنطقة الجزيرة العربية أغرت الوالي العثماني على مصر بمثل هذه المغامرة، خاصة بعد إبادة الدرعية ووضع يده على باقي الأراضي في الجزيرة العربية، خاصة أنه سعى إلى محاولة بث الفرقة بين الناس بعد سقوط الدولة السعودية الأولى.

في هذا الصدد، شكّل طموح إعادة إحياء أسس الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبدالله استفزازًا مباشرًا إلى والي مصر بالنظر إلى المرتكزات الدينية القوية التي تقوم على أسسها الدولة السعودية، كامتداد سياسي وديني وأُسري للدولة السعودية الأولى، وأيضا بالنظر إلى تقاطع شخصية المؤسسين مع الشخصية الرئيسة (بتعبير رالف لينتون) للمسلمين في الجزيرة العربية التي تضم الحرمين الشريفين اللَّذَين يؤهلان خُدَّامهما إلى امتلاك مشروعية دينية تُضاف إلى الشرعية السياسية ومن ثم تحقيق المقومات “القانونية” لتأسيس الدولة وهي المقدمات التأسيسية التي يصعب أن تتحقق لدى باقي الطامحين في الحكم.

أمام هذا التحدي، تحركت جيوش محمد علي، مرة أخرى، نحو نفس الهدف وهو إخضاع فيصل بن تركي وفرض حاكم جديد على المنطقة خاصةً بعد ضمان تبعية خالد بن سعود وولائه للوالي المصري. ويبدو أن الإمام فيصل بن تركي، الذي كان واعيًا بالفرق في موازين القوى بينه وبين الجيوش العثمانية، حاول تفادي المواجهة المباشرة مع جيوش محمد علي من خلال إرسال مجموعة من الهدايا وتقديم بعض التنازلات دون المساس بجوهر السيادة السياسية للسعوديين على المنطقة.

إن عدم نجاح فيصل بن تركي في إقناع محمد علي بالتراجع عن اجتياح المنطقة اضطره إلى التحضير لهذه المواجهة الحتمية، حيث عمل -بالموازاة مع ذلك- على تجميع أهم القوى حوله ونجح في تهيئة المناطق التابعة له في نجد واستعد لرسم تكتيكات المواجهة مع عدو يفوقه عُدَّةً وعتادًا.

على الجانب الآخر سار قائد الحملة المصرية خورشيد باشا نحو الرياض واستغل وجود الأمير جلوي بن تركي، شقيق الإمام فيصل بن تركي، وأخذه معه رهينةً قبل أن ينجح “جلوي” في تدبير حيلة سمحت له بزيارة بريدة قبل أن يفر  ويلتحق بقوات أخيه في الخرج.

لقد شكّلت معركة الخراب أو ” وقعة الخراب”  أُنموذجًا حيًّا لتكالب مجموعة من القوى من أجل إخضاع الإمام فيصل بن تركي، إذ انضمت قوات إسماعيل بك وخالد بن سعود وبعض القبائل العربية إلى قوات خورشيد باشا ليكون الاصطدام في أكتوبر 1838م، و تُجْمِعُ الروايات بأن الإمام فيصل كان البادئ بالهجوم على أطراف الجيش العثماني إلا أنه لم يتمكّن من الالتفاف حوله، ليعيد ترتيب جنوده ويلجأ إلى حفر خندق وتحصين مدينة الدلم، خاصة مصادر المياه وراء الأسوار، ورغم المقاومة الشرسة لرجال الإمام فيصل بن تركي إلا أن القوات الغازية استطاعت الوصول إلى مصادر المياه ومن ثم قلب موازين المعركة.

وتجدر الإشارة إلى نقطة مهمة مرتبطة بالتكوين العسكري الواضح لأمراء آل سعود، الذين راكموا معرفةً دينيةً وإلمامًا بالبنية السلوكية لسكان الجزيرة العربية، بالإضافة إلى القدرة على استعمال الدهاء السياسي والعسكري في مواجهة الاحتلال التركي، ويكاد المرء يجزم على أن ما كان ينقص المؤسسين الأوائل هو التسليح الجيد كما كانت الحال بالنسبة للأتراك أو جيوش محمد علي باشا.

في هذا السياق، فإن متابعة أطوار بعض معارك فيصل بن تركي، خاصة معركة الخراب والدلم، تجعل الباحث في الشؤون الاستراتيجية والأمنية يستشعر لمسة القائد المُلم بمسارح العمليات وبمجموعة من الاستراتيجيات العسكرية التي لم نقف على مصادر التلقي التي توصل بها الأمير فيصل إلى تكوين هذا النضج والانضباط العسكريين.

على هذا المستوى، فإن التنسيق بين قوات فيصل بن تركي وقوات عمر بن عفيصان من خلال قيام الأخير بهجوم على مؤخرة الجيوش المصرية بالموازاة مع قيام فيصل بن تركي بالهجوم على مقدمة الجيش ومحاولة إحداث “الفتحة الاستراتيجية” أو وضع العدو بين “فكي الكماشة”، كل ذلك يقطع بأن المواجهات مع قوات العدو العثماني لم تكن ارتجاليةً وإنما كانت هناك حسابات دقيقة للغاية، تؤكدها حجم الخسائر بين الطرفين في العديد من المعارك ومنها معركة الخراب إذ سقط من الجانب المصري ما يزيد على 700 جندي بينما ناهزت خسائر السعوديين حوالي 250 رجلاً.

وسيرًا على نهج أسلافه في تدبير مفاوضات الاستسلام، اشترط الإمام فيصل بن تركي الأمان والحفاظ على ممتلكات جميع من حاربوا معه وقاتلوا في صفوف جيشه قبل أن يسلم نفسه لقوات خورشيد باشا، لتبدأ رحلته إلى مصر مرفوقا بأخيه “جلوي” وولداه “عبد الله ومحمد” وعمه عبد الله بن إبراهيم بن عبدالله المعروف بلقب “صنيتان”، وجرى هناك تجهيز بيت للإمام فيصل بن تركي واستغلاله في العبادة والتحصيل الديني والعلمي، وخلال وجوده في منفاه الإجباري ذاع صيت الإمام واستقامته واعتكافه على القرآن الكريم، وتكاثرت الروايات حول استقباله العديد من المرضى الذين كتب الله لهم الشفاء على يديه من خلال قراءته عليهم آيات من القرآن الكريم (الرقية الشرعية).