من كتاب "الخراج" لابن يوسف:

فساد التدابير الاقتصادية الفارسية في عصر الدولة العباسية

كان الفرس يتمتعون بسلطةٍ واسعة وتَحَكُّمٍ بالإدارة في العصر الأول للدولة العباسية؛ مما مكنهم من الإشراف على الركائز الحيوية في جهاز الدولة، وتعد المؤسسات الاقتصادية أهم ركيزة اعتمدوا عليها، كما حدث مع البرامكة، وهو ما دعم سلطتهم، وتبعًا للظروف التي مرت بها الدولة العباسية في عهد الهادي قد نتج تسرب مالي أثَّر على ميزانيتها، فسياسة الفرس المالية قامت على مبدأ جوهري قوامُه إقرار الوضع على ما كان عليه في انتظار الخروج بتنظيمات جديدة من شأنها أن تغير الحياة الاقتصادية تغييرًا يتلاءم مع سياستهم، وهو ما ما ذكره الطبري في تاريخه عند حديثه عن البرامكة؛ بأنهم نشطوا بصورة مبالغة في بناء القصور وتشييد المنازل دون هدف محدد، وأكد أن أسرهم كانت مولعة في التأنق والإسراف وحب المظاهر بغية استمالة الخاصة وفرض الاحترام على العامة، ومن جهة أخرى فقد عملوا من أجل مساعدة عُمَّالهم في التفنن في بناء بيوتهم وتجميلها وزخرفتها، حتى وإن كانت تغطية نفقتها من ميزانية الدولة.

لم يكن هدف الفرس تشجيع حركة العمران والبناء بقدر ما كان إسرافًا، وتهيئةً لمجالس اللهو، مثلما ذكر ذلك الجهشياري في كتابه الوزراء وغيره من المؤرخين الذين أطنبوا بدورهم عن ألوان وأشكال مجالس لهو الفرس في عصر الدولة العباسية، مما يدعو إلى الدهشة ووضع علامات التعجب، فندماؤهم (جلساؤهم في الشراب) كانوا يلبسون لباسًا خاصًّا من الحرير، وبألوانٍ زاهية ويتطيبون بعطور خاصة، كعادة قدماء الفرس، وما يتبع ذلك من الإسراف والبذل والعطاء المادي لأولئك الندماء، وقد تَخْرُجُ تلك المجالس عن الإطار الشرعي. فالروايات التاريخية المتواترة عن البرامكة مثلاً؛ تُظهر حبهم للتظاهر والزهو، فمثلا محاولتهم إشاعة التفنن في الملابس وتطريزها في المجتمع العباسي، والتي كان لها أثر بالغ على ميزانية الدولة، فالشائع عنهم أنهم لا يترددون في شراء ملابسهم بأي قيمة مالية، مهما كانت غالية الثمن.

كما سعى الفرس إلى التأثير على الاقتصاد المالي، والسيطرة على سَكِّ النقود الذهبية في الدولة، لدرجة أنهم سَكُّوا دينارًا ذهبيًّا يختلف عما هو متداول من تقنية الضرب في دور الدولة العباسية. وقد حُفِرَ على ذلك الدينار البيت الشعري:

ومما تجدر الإشارة إليه؛ أن سياستهم الاقتصادية كان لها أثرها السلبي على اقتصاد الدولة العباسية، منها فرض الضرائب التَعَسُّفية، وجباية الأراضي، فمن الإجراءات التي أدخلوها (نظام الأراضي)، الذي جعل الخليفة العباسي ينظر في وضعها، وقد كَلِّف القاضي الشهير أبا يوسف في عهد الرشيد، للاطلاع على نظام الأراضي، وتزويده بتقرير وافٍ، وتوضيح تنظيم المُلك حول موضوع الأراضي، ومدى مطابقتها في دواوين وزرائه، وجاء التقرير على هيئة الكتاب الشهير ” كتاب الخراج”.

أعادوا تطبيق الأنظمة الاقتصادية الفارسية القديمة بكل تفاصيلها وسلبياتها وتعارضها مع تعاليم الإسلام.

ومن أنظمة الضرائب التي شاع استعمالها خلال فترة تسلط الفرس نظام “القبالة”، وهو أن يتعهد الشخص بجباية بعض الضرائب من المكلفين في بعض المناطق ثم يأخذها لنفسه، مقابل التزامه بدفع مبلغ معين متفق عليه مسبقًا لبيت المال، وهذا النظام أشبه ما يكون بنظام الالتزام في العصر العثماني، وفي ذلك من الاستغلال والتسلط على  العباد وحقوقهم، ولقد  أمر القاضي أبو يوسف بإيقاف العمل به وعلى حد قوله :”وَرَأَيْتُ أَنْ لَا تَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ وَلا غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ الْبِلادِ؛ فَإِنَّ الْمُتَقَبِّلَ إِذَا كَانَ فِي قِبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنِ الْخَرَاجِ عَسَفَ أَهْلُ الْخَرَاجِ وَحَمَّلَ عَلَيْهِمْ (ألزمهم بما لا يطيقوه) مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ لِيَسْلَمَ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ. وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلادِ وَهَلاكُ الرَّعِيَّةِ. وَالْمُتَقَبِّلُ لَا يُبَالِي بِهَلاكِهِمْ بِصَلاحِ أَمْرِهِ فِي قِبَالَتِهِ؛ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ بَعْدَ مَا يَتَقَبَّلُ بِهِ فَضْلا كَثِيرًا، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِلا بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٌ، وَإِقَامَتُهُ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ، وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الأَعْنَاقِ، وَعَذَابٌ عَظِيمٌ يَنَالُ أَهْلَ الْخَرَاجِ مِمَّا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى الله عَنهُ؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ، وَلَيْسَ يَحِلُّ أَنْ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ؛ وَإِنَّمَا أكره الْقِبَالَةَ لأَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا الْمُتَقَبِّلُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا وَيَدَعُوهُ فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ، وَلَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْفَسَادِ شَيْءٌ، وَلَنْ يَقِلَّ مَعَ الصَّلاحِ شَيْءٌ. إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى عَنِ الْفَسَادِ. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الْأَعْرَاف: ٥٦، ٥٨] ، وَقَالَ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [الْبَقَرَة: ٢٠٥] ؛ وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَم بحبسهم الْحق حَتَّى يستشري مِنْهُم، وَإِظْهَارِهِمُ الظُّلْمَ حَتَّى يُفْتَدَى مِنْهُمْ. وَالْحَمْلُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ مِنَ الظُّلْمِ الظَّاهِرِ الَّذِي لَا يَحِلُّ وَلا يَسَعُ”.

وقد أشار أبو يوسف القاضي في كتابه عن عمَّال الخراج المختارين من قبل الفرس؛ أنهم كانوا على جانب من الجهل بتفاصيل المهام المكلفين بها، وأن من الشروط استخدام لمن تكون فيه الكفاءة، ولكن في حالة الفرس كان الشرط الولاء والإخلاص لهم. ولذا كان له رأيه بأن يُرَاقَبوا مراقبة مستمرة صارمة تحول دون ظلمهم الفلاحين وملاك الأراضي.

  1. أبو يوسف يعقوب الأنصاري، الخراج، تحقيق: طه عبد الرؤوف وآخر (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، د.ت).
  2. ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد (بيروت: دار الكتب العلمية، 1984).
  3. قويدر بشار، دور أسرة البرامكة في تاريخ الدولة العباسية (الجزائر: معهد التاريخ، 1985).
  4. ابن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل، ط2 (القاهرة: دار المعارف، 1967).
  5. محمد الجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب، تحقيق: مصطفى السقا وآخرون (القاهرة: د.ن، 1938).
  6. محمد عبد الله، الآراء الفقهية المالية للإمام أبي يوسف من خلال كتابه الخراج (السودان: جامعة الجزيرة، 2018).