من الهجرة إلى النفوذ

اليهود في الدولة العثمانية

تبدأ قصة ظهور اليهود على أراضي الدولة العثمانية بعد أن تم طردهم من إسبانيا، وكانت أوروبا تكن لهم عداءً شديدًا. ولقد عانى المسلمون منهم في بلاد الأندلس، وكذلك الأسبان في كامل وجودهم فيها ولا سيما حقبة طرد المسلمين ومحاكم التفتيش والأحداث المأساوية التي مر بها المسلمون دون أدنى ردود فعل فعلية من سلاطين الدولة العثمانية سوى سفارات تذهب وتجيء دون أدنى تحمل للمسؤولية. كان وصول اليهود إلى أراضي الدولة العثمانية منذ عام 898هـ/1492م، زمن اتحاد الملك الأرغواني فرديناند، والملكة القشتالية إيزابيلا، ولقد تم اختيار اليهود للدولة العثمانية أن تكون الملاذ لهم بعد طردهم، لذلك انقلبت الموازين وأصبح العثمانيون الداعم الرئيس لليهود، وهو ما تكشفت عنه أحوالهم بعد استقرارهم وتغلغلهم في الدولة العثمانية.

نفوذ اليهود في الدولة العثمانية أدى لأحداث غيرت مجرى التاريخ.

وخلال القرون التالية واستمرار هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية بلغ عددهم في القرن 13هـ/19م، (100) ألف يهودي، وقد رحب بهم سلاطين تلك القرون وسمحوا لهم بالإقامة في شتى أنحاء الدولة ـ وأعطوهم حقوقهم كاملة عقب ما تعرضوا له من مذابح وتشريد. وفي تلك الحقبة التاريخية برز اليهود إلى حد كبير في مجالات الحياة المختلفة لأنهم نقلوا معهم علوم ومعارف الحضارة الإسلامية والثقافة التي تم طردهم منها. ويلاحظ على يهود تلك الحقبة أيضًا أنهم حافظوا على تواجدهم في أماكن تشكل أعدادهم فيها غالبية سكانية، حيث تفرقوا في إسطنبول – أدرنة – نيكوبولس، وتلك مقاطعات في القسم الأوروبي منها، وتفرقوا في بورصة وأماسيا – وتوكات في المقاطعات العثمانية الآسيوية. واعتبرت مدينة سلانيك مدينة غالبية سكانها من اليهود، وبرز عدد كثير منهم في مجال الطب، وأصبحوا من أكثر أطباء القصر السلطاني في الدولة، وعملوا كذلك كمترجمين – وهنا تكمن كوارث نتيجة استغلالهم جهل السلاطين واتباعهم للغات الأخرى – وبرعوا بسبب ارتباطهم بأوروبا قبل طردهم، وظلوا شديدي الحرص على المحافظة على التراث الذي جلبوه معهم.

في نهاية القرن 11هـ/17م حدثت أحداث غيرت مجرى تاريخ اليهود في الدولة العثمانية وهي ظهور شخص في مدينة إزمير يدعى شباتاي ادعى أنه المسيح المنتظر، وقد كان اليهود إلى ذلك العهد يعيشون بجميع أفرادهم منعمين بتعامل السلاطين معهم، وكانوا يدعون للسلاطين في معابدهم، وبظهور شباتاي سكتوا عن الدعاء في الكنيس اليهودي وصحت عندهم وظهرت مشاعر العودة إلى أرض الميعاد. لم تكترث الدولة آنذاك بنشاط ذلك الشاب الذي ظهر – شباتاي – وبعد برهة من الزمن أقنع القاضي في إزمير الصدر الأعظم فاضل باشا أن يعتقله للحد من نشاطه في سنة 1099هـ/1687م لأن أعماله ضد مصالحهم، ومع ذلك الاعتقال ازدادت شعبيته بين اليهود، واستقر الرأي على نفيه إلى منطقة برات في ألبانيا مع بعض من أتباعه الذين اعتبروهم متشددين مثله.

ظل شباتاي خمس سنوات في ألبانيا ومات ودفن فيها، حينها شعرت الدولة العثمانية أن اليهود في تلك المدينة – برات – يحيون حياة خاصة بهم وعرفوا فيما بعد بالدونمة وانتقل عدد منهم إلى سلانيك وسكنوها. والدونمة كلمة مشتقة من المصدر التركي (دونمك) بمعنى العودة والرجوع، وردت أيضًا في معناها التركي بمعنى مرتد أو ملحد وزنديق. والدونمة حفنة من اليهود هربوا من محاكم التفتيش في إسبانيا والتجأوا إلى الدولة العثمانية واستقروا فيها، وذلك الاستقرار يعني الكثير. كان اليهود في الدولة العثمانية خلال القرون السابقة وللقرن 13هـ/19م يتألفون من مجموعتين:

  • اليهود العثمانيون الذين كانوا من اتباع التلمود (أي اليهود الربانيون كما يطلق عليهم)، وهم من الناطقين باللغة اليونانية في الدولة، وهم من احتوتهم الدولة. ولماذا لم يتكلموا التركية؟ وسمحت لهم الدولة رغم أنهم اعتبروا عثمانيون؟.
  • اليهود المهاجرون مع بدايات القرن 13هـ/19م ويطلق عليهم “السفارديم” أي يهود الشرق تبعًا للبلد التي جاءوا منها مهاجرين للدولة العثمانية، وهذه الفئة في هذه الحقبة التاريخية شكلوا عبئًا على الدولة العثمانية لكثرة توافدهم عليها، ولقد أثروا في الحياة الاجتماعية وتغيرت توجهاتهم ضد الدولة الراعية لهم – وهذه سلوكياتهم المعتادة -، ولقد كانوا من صناع السلاح وهذه صناعة قديمة محافظين عليها وهي لغتهم، وقد التزموا بدفع الضرائب التي فرضت عليهم، ولوحظ أنهم لم يرتبطوا بحرفة الزراعة كسائر رعايا الدولة لذلك دفعوا ضرائب كانت تتعلق بالوظائف والمهن التي مارسوها في الدولة.

الدولة العثمانية لم تكن مسيطرة عليهم بقدر ما كانت تحتوي سلوكياتهم لرعاية مصالحها معهم وذلك لتأثيرهم القوي في الاقتصاد. بدأت مشاكل اليهود تظهر في تاريخ الدولة العثمانية منذ بداية القرن 13هـ/19م وكانت تلك المشاكل منبعثة من أنهم شعب تجمعهم ديانة واحدة وتفرقوا في الأرض، فتعاملوا مع أوضاعهم لتحقيق حلمهم، أنهم لا بد من وأن يجمعوا شتاتهم من أنحاء العالم في مكان واحد. ثمة تعاون كان قائم بين يهود الدولة العثمانية داخلها مع اليونانيين – وتلك بوادر وآثار حركة شباتاي – لتثبيت ركائز اليهود في الدولة خاصة في القطاعات الاقتصادية الرئيسية في الدولة، فعملوا على تغيير توجهاتهم لمحافظة اليهود على اللغة الإسبانية المعروفة بالأدينو، مما تسبب في أنهم ظهروا منعزلين في الدولة، وأدرك اليهود من خلال تعاملات الدولة مع الفرنسيين والامتيازات العميقة التي حصلوا عليها داخل الدولة، أن ذلك كفيل بانتشار اللغة الفرنسية بينهم أن يفتح لهم أبواب المشاركة بينهم في الأنشطة الاقتصادية الحيوية في البلاد، ولذلك تواكبت عملية “التفرنس”، مع احتياط الدولة ضمن احتوائها أن تدرسهم اللغة التركية، وعملوا على نشر اللغة بينهم إدخالها في مدارسهم، وتم نشر مقالات ومنشورات باللغة التركية، ولكن المفاجأة أنها كتبت بحروف عبرية، ليحصل تمازج ثقافي لهم ولتستقطبهم الدولة في تعاملاتها. لقد تمتع اليهود باستقلال ذاتي، وذلك بدليل أن أكثر من مسؤول عثماني صرح بقوله: “إن اليهود الذين طردوا من أوروبا قد وجدوا السلم والأمن وحرية الوجود الكامل في الدولة العثمانية”.

لقد سمحت لهم الدولة بتشكيل مجموعات محلية وكل مجموعة قائمة بذاتها، وسمح هذا النظام لأعضاء الطائفة اليهودية بالمحافظة على تركيبتهم الاجتماعية وعاداتهم وطقوسهم، إضافة إلى دورهم في الوظائف والمهن المهمة في الدولة، وحصلوا على امتيازات من السلاطين بممارسة طقوسهم، وأنهم طائفة مهمة مثل أي طائفة. وقد بلغ عدد اليهود في إسطنبول وحدها خلال القرن 13هـ/19م (30) ألفًا. ومن أخطر ما قام به اليهود في الدولة وصولهم إلى البلاط السلطاني، ويذكر البعض أنهم استغلوا التسامح الديني والحرية. ولكن ما ترتب عليه ذلك إنما هو رغبة من السلاطين في الاستفادة منهم، واستغلال قوتهم الاقتصادية، ولو لم يجدوا التسامح السلطاني لما تغلغلوا داخل الدولة.

وكتب البعض مثل بيتر شوجر، أن اليهود ظهرت بينهم ظاهرة اعتناقهم الإسلام ليسهل عليهم التغرير بالعثمانيين وسلطانهم، وكسب ثقة الجميع. ولمساعدة أجيالهم القادمة على هدف وضعوه وبدأوا بتحقيقه من داخل الدولة. ومن نتائج دمجهم في المجتمع التركي أنهم تفوقوا على الأتراك أنفسهم، لتمكنهم من التحدث بثلاث لغات (الإسبانية – الفرنسية – التركية)، واعتقد سلاطين الدولة أنهم يستطيعون تتريكهم.

إن دوافع الهجرة اليهودية في بلاد الأناضول هي دوافع سياسية واقتصادية، وكان بعضها الآخر فكريًا وروحيًا، وذلك أثبتته الإحصائيات. وكانت الإحصائيات السكانية لليهود في الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر كالآتي:

تمركز اليهود في إسطنبول وقدر عددهم بـ (30) ألفًا، وأما في إزمير كانوا حوالي (10) آلاف يهودي، أدرنة كان بها بضعة آلاف – لم تحدد الإحصائيات رقم – وهذا ملفت للانتباه، وفي سلانيك قدر عددهم بـ (25) ألف يهودي. وكانوا بأعداد مختلفة في مدن أخرى مثل بورصة، مانيسا، تيرة، وأنقرة. ومجمل القول أنه قد قُدر عددهم بـ (120) ألف يهودي، أوضحت الإحصائيات أن (70) ألفًا منهم عاشوا ضمن الطائفة اليهودية التي تعترف بهم الدولة العثمانية رسميًا.

  1. بيتر شوجر، أوروبا العثمانية 1354-1804م، ترجمة: عاصم الدسوقي (دار الثقافة الجديدة، 1998).

 

  1. حياة الرشيدي، الإرساليات التنصيرية الأمريكية في الدولة العثمانية (القاهرة: دار الراية للنشر، 2016).

 

  1. رفيق شاكر النتشة، السلطان عبدالحميد الثاني وفلسطين، ط3 (الرياض: مطابع الشرق الأوسط، 1985).

 

  1. محمود رأفت محمود، القدس: التاريخ والمستقبل، تحرير: محمد إبراهيم منصور، الندوة الدولية، مركز دراسات المستقبل، جامعة أسيوط (1996).

 

  1. وديع أبو زيدون، تاريخ الإمبراطورية العثمانية من التأسيس الى السقوط (عمَّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2003).

 

  1. يوسف عمر، أسباب خلع السلطان عبدالحميد الثاني 1876-1909م (دار الكتاب الثقافي، 2005).