"سرقوا الخلافة" ...

ولم تقطع أيديهم من خلاف!

تصاعد تساهُل كثير من المؤرخين المتأخرين مع ظهور الدولة العثمانية بتأريخ لقب الخلافة وانتقاله إلى عصر التاريخ الحديث، ومن ذلك إهمال شروط الخلافة وعدم التحقق من توافرها في التطبيق السياسي لهذا المنصب الإسلامي، وبذلك تلاعبوا باللقب فمنحوه من لم يستحق، فتاه مفهومها الشرعي، وفُرِّغت من معناها الحقيقي الذي نشأت عليه عند ظهورها في الدولة الإسلامية الأولى، فصار لقب الخلافة يخضع لقناعات سلاطين الدولة الطورانيّة وأهوائهم، متى رأوا أهمية التلقُّب بالخُلفاء استخدموه، ومتى كان السلطان العثماني غير آبهٍ به لم يكن له أثرٌ في عهده، حتى أن بعضهم تلقّب بالسلطان والخليفة في الوقت نفسه ليستخدم ما شاء حسب ما تقتضيه الدولة والحالة، ليحفظ شكله أمام التاريخ والعالم، ويكذب عليهما أيضاً، مما أحدث ارتباكًا بين المؤرخين في التداخل بين لقب سلطان وخليفة، فتضاربت ألقاب المؤرخين فيهم فترى المؤرخ نفسه مرة يلقبهم بالخلفاء وأخرى يلقبهم بالسلاطين.

من هنا نفهم عدم تواني بعض المؤرخين من أن يمنح العثمانيين الأوائل لقب الخلفاء، حتى تقبِّل الناسُ الزِّعم بأن آخر خلفاء بني العبِّاس في القاهرة المتوكل على الله تنازل لسليم الأول (ت: 926 ه/ 1520 م)، إذ إن الأمر أصبح من دون مفهوم بالنسبة لهم ولا شروط، ولا حتى قيمة لهذا المنصب.

خضعت "الخلافة" في الدولة العثمانية لأهواء السلاطين بإغواء المؤرخين وتخويفهم

إرغام بالتنحي لا بالتنازل:

أمّا الكيفية التاريخية التي انتقل فيها لقب الخليفة إلى البلاط السلطاني فلا يُعرف لها أسباب مقنعة أو تعليلات منطقية يتكئ عليها الباحث المحايد ذو العلاقة، إلا أن القصة الموثقة عن ذلك تم تدليسها بتواطؤ بين أحلام السلاطين وخنوع المؤرخين لظاهر الدولة العثمانية الذي يبدو كبيراً ومهيباً في أعينهم، بينما ينخر السوس والفساد والمؤامرات داخلها ويكشف حقيقتها، ويرد هؤلاء المؤرخون تلقيب العثمانيين بالخلفاء إلى لحظة استيلاء سليم الأول على القاهرة، وإسقاط دولة المماليك سنة ( 923 ه/ 1517 م) حيث يؤكد المتأخرون منهم، بشكلٍ غير دقيق، أنَّ المتوكل على الله (ت: 950 ه/ 1543 م) تنازل لسليم الأول عن الخلافة، وهذا الحديث وتلك الواقعة لا أثر لها في المصادر التاريخية التي عاصرت الحدث إذ يأتي الطَّرح فيها مخالف لما ذُكر تمامًا، وتُعارضه في أحايين كثيرة.

وتعددت تنويعات المؤرخين عن هذه القصة، فعلى سبيل المثال يؤكد الطبيب علي حسُّون في كتابه عن الدولة العثمانية أنَّ الخليفة العباسي تنازل لسليم الأول عن الخلافة وسلَّمه الآثار النبويَّة : اللواء والبُرْدة، وبأنَّ الشريف أبا نُميّ بن شريف مكِّة بركات (توفي: 992 ه/ 1584 م)قَدِم إلى مصر وقدَم طاعته للسلطان بعد أن سلمه مفاتيح الحرمين الشريفين، وبذلك يقول حرفيًا: “وصار منذ ذلك خليفة المسلمين”، لكن حسون حتى يُفْلت من حقيقة إهانة سليم الأول للمتوكل على الله وتعامله معه بطريقة لا تليق بالخليفة العباسي القرشي النسب، قال بأن المتوكل أُرسل إلى إسطنبول مع عائلته وبعض من كبار المماليك، وحين راجت الإشاعات بينهما؛ اضطرَّ سليم لسجنه.

علي بن أبي طالب لم يسلم "سليم" رايتها إلا حلما طورانيًا

بينما تأزم الأمر لدى منصور عبد الحكيم حتى وصل للقول في كتاب له بأن الخلافة كانت متاحة لطموحات كل من يسعى إليها، ويذكر بأن فكرة الخلافة داعبت أحلام سليم الأول، فسعى إليها بالانقضاض على مصر مقرّ الخليفة العباسي الرَّمزي الذي تنازل عن حقِّهِ في الخلافة لسليم الغازي، رغم أن سليمًا أعلن نفسه خليفةً في دمشق قبل ذلك، ويؤكد عبد الحكيم بأنه منذ ذلك التاريخ حمل كل سلطان عثماني لقب أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ومن حينها انتقلت الدولة العثمانية من السلطنة إلى الخلافة.

حلم بلون كابوس:

يرى وديع أبو زيدون في كتابه: “تاريخ الإمبراطورية العثمانية من التأسيس إلى السقوط” مفهومًا للخلافة ودلالتها وشروطها غير واضح بالنسبةِ إليه، لأنه حينما ناقش قضية بايزيد الثاني (توفي: 918 هـ/ 1512م) والد سليم ومشكلة أبنائه وخلافهم، عَنْوَنَ الموضوع بأولاد بايزيد ومأزق الخلافة، وفي موقع آخر من الكتاب تعمّد قلب الحقائق التاريخية التي أوردتها المصادر المُعاصرة لدخول سليم الأول إلى حلب، حين ذكر بأن أهالي حلب لم يسمحوا لجيش المماليك المُنسحب بعد موقعة مَرُج دابق سنة (922 ه/ 1516 م) بدخول مدينتهم،أما سليم فدخلها دخول الفاتحين، بينما تؤكد المصادر على الفظائع التي مارسها سليم وجيشه في حلب وجميع المدن الشامية الأخرى التي دخلوها بعد سقوط المماليك، ثم إن حلب في الأساس تأثرت بخيانة واليها خايربك، الذي اتفق مع سليم على خيانته لقانصوه الغوري (ت: 922 هـ/ 1516م) فمن المؤكد أن جنوده سيفتحون المدينة أمام العثمانيين من دونِ مقاومة، أما الأهالي فلم يرحبوا بهم نهائيًا أمّا خلافة سليم الأول الحالم، فيقول عنها: “واتخذ سليم لنفسه لقب الخلافة، وسلطانها معًا، ولكن لم يعترف بذلك إلا ضمن حدود الإمبراطورية العثمانية، وأصبح السلطان الخليفة العثماني أعظم شخصية في الإسلام في ذلك الوقت، إذ ورث مركز خلفاء بغداد وقياصرة بيزنطة معًا” فلم يورد إلا كلمة “ورث” ولم يشر للتنازل عن الخلافة، بل ذكر بأن سليمًا اتخذها لنفسه، كأنما كانت ملكًا يستطيع أن ينتزعه، وفي كتاب آخر ينقل بأن أحد رجال الديوان في منامه حين قرر  في الدولة العثمانية في عهد سليم ذكر بأن سليمًا أحقُّ بالخلافة، لرؤيته النبيِّ حملته على مصر، ولرؤيا أخرى لأحد نُدماءِ السلطان رأى فيها -حسبما نقل- ما نصهُّ: “بينما نحن جلوس عند العتبة إذ بالباب يُطرق، فذهبت لأنظر بالباب، فإذا به يُفتح، ومن ورائه جمٌّ غفير وجوههم وضاءة، وقسماتهم عربية، وهم وقوف ينتظرون، وبأيديهم الراية والسلاح، وعند مدخل الباب أربعة نفر وجوههم وضاءة، والراية بيد أحدهم، أما الطارق فكان يحمل بيده راية السلطان البيضاء، وقال لي: ونحن رسل رسول الله  أتدري لِم أتينا ها هنا؟ هذا الجمُّ الغفير الذي رأيت، هم صحابة رسول الله إليكم، وهو يُقرئ سليم خان السلام، ويقول: هُبّ وهلُّم، فقد وهبت لك خدمة الحرمين، والنفر الأربعة الذين رأيت هم الخلفاء الراشدون، أولهم الصدِّيق، وثانيهم عمر الفاروق، وثالثهم عثمان ذو النورين، وأنا علي بن أبي طالب، بلغ سليم خان ما أخبرتك به. وفجأة غابوا عن الأنظار، وأيقظني أهلي وأنا أتصبب عرقًا”.

الأحلام والرؤى تعّود عليها قُراء التاريخ العثماني وكُتّابه منذ أرطغرل (ت: 680هـ/ 1281م) وابنه عثمان (ت: 726هـ/ 1324م) مؤسس إمارتهم، إلى عهد عبدالحميد الثاني (ت: 1336هـ/ 1918م)، حيث إنَّ مثل هذه الأحلام والرؤى يُقصد منها -دائمًا- إعطاء هالة قدسيَّة لأسرتهم وسلاطينهم، باعتبار أن سلطنتهم تسير وفق نظرهم في إطار الحق الإلهي المقدس، وبغضِّ النظر عن ذكر الرؤى ومدى صدقيَّتها؛ فإن تضاربها وتشابهها على مدى تاريخ بني عُثمان، يجعل منها شيئًا ممقوتًا بالنسبة للقارئ والدارس للتاريخ، لأنهم من خلالها يحاولون تبرير الهالة القدسية التي يحيطون بها أنفسهم.

وإذا ما عدنا لقراءة متفحصة في هذه الرؤية عن وفود الراشدين لسليم الأول -على فرض حدوثها حقيقةً- سنجد أن سليم لم يُقارن نفسه فيها بالخلفاء المتأخرين بل قفز إلى أن جاء بعد عليٍّ بن أبي طالب، لأنه هو كرم الله وجهه من سلَّمه الراية -حسبما نُقِل عنه-، متجاوزًا بذلك عُمر بن عبدالعزيز (ت: 720 ه/ 1320 م) إضافة إلى أن هذه الأحلام التي هي أقرب من النسج المدبر من حقيقة حدوثها في المنام يقصد بها السلاطين العثمانيون، وتسويغ ذلك بأمرين مهمين: أولهما: أن ما قام به سليم من انتزاع للخلافة يقع في إطار الشرع الإسلامي، وفي ذلك قلب للمفاهيم، والثاني: إقناع الناس ورسم صورة ذهنية لديهم غير صحيحة بأن آل عثمان كانوا خلفاءَ شرعيين مثلهم مثل الراشدين والأمويين والعباسيين، بينما هم يتعارضون مع إحدى الشروط المهمة في النسب القرشي.

عودة لشروط الخلافة:

إذا انتقلنا إلى المؤرخين الأتراك فهم أيضاً لم يألوا جهداً في عسف الحقيقة بتفسيرات ضعيفة لانتقال الخلافة للعثمانيين، فها هو المؤرخ التركي خليل إينالجيك (ت: 1437 هـ / 2016 م) الذي يذكر بأن ضم المناطق العربية، خاصةً مكة المكرمة والمدينة المنورة للسلطنة العثمانية هو السبب الذي أصبحت به الدولة العثمانية دولة خِلافة، وانتقلت من مفهوم الدولة الحدودية إلى مفهوم أن سلاطينها اعتبروا أنفسهم حُماة كل العالم الإسلامي، وهذا التبرير بحماية العالم الإسلامي ركيك ومجامل، فهذه الحماية -حسبما زعمه إينالجيك- لا تعني بالضرورة -إن كانت بالشكلِ المثالي الذي يذكرونه وليس الواقع التاريخي غير المثالي- مبرراً لوصف دولتهم بدولة الخِلافة، إذ كيف ينسجم في العقل والمنطق هذه الحماية المزعومة وتقاعس الدولة العثمانية عن نُصرة مسلمي الأندلس، وغضّ الطرف عن حملات البرتغاليين ومن جاء بعدهم من الأوروبيين إلى الخليج العربي، وإهمالهم للمناطق الداخلية في الوطن العربي كوسط الجزيرة العربية، الذي لم يكن يُحسب ضمن اهتمامات الدولة، وتُرك ليواجه مصيره قرونًا عدَّة، بينما كانت الأهمية منصبة على المناطق العربية المهمة الغنية تجاريًا.

وهناك اتجاه آخر من المؤرخين لا يختلف من حيث الهدف عن سابقيه، قعَّدَ لأمر الخلافة الإسلامية بما يتناسب مع سلاطين الدولة العثمانية، ووافقهم فيما طمحوا إليه، كما جاء عند محمد العُبيدي بأن الدليل واضحٌ في أن الخلافة الإسلامية خلفت النبوة والنبوات وأنها واجبة في الشَّرع المحمَّدي قبل كل واجبٍ ديني، وأن هذا الواجب قائمٌ بالدولة العثمانية لانعقاد الإمامة من وجهين: اختيار أهل العقدِ والحلّ، أو عهد الإمام من قبل، ولأن قول العبيدي يدور في فلك الدولة العثمانية وضمن الدعاية السياسية التي كانت تطمح إليها في فترة المؤلف؛ فإن قوله غير مُستغرب في طمره الحقيقة، وتقديم وتأخير الواجبات الدينية بحسب الهوى السياسي، ويؤكد قوله هذا بالآتي: “فأذن الله بالشباب بعد الهرم وبالصحةِ بعد السقم وكان ما كان من أمر ساكن الجنان السلطان سليم خان، فبعث إليه بمفاتيح الحرمين الشريفين محمد أبو البركات، وهو في مصر فكان أول من لقب بخادم الحرمين من آل عثمان، ثم بايعه بالخلافة -تخليًّا عنها- المتوكل على الله الثالث آخر الخلفاء العباسيين في جامع آيا صوفيا على ملأ الأشهاد من رجال الملك وعامة المسلمين، فكان أول خليفة من تلك الأسرة الطيبة، وذلك عام (922م) ثم ما زالت في عقبه حتى الآن ولا تزال كذلك إن شاء الله إلى آخر الدوران”.

وبطبيعة الحال فإن كل ما قاله العبيدي وإينالجيك لا يمت بصلة إلى الواقع التاريخي، ولم تتناوله أيٌ من المصادر التاريخية المُعاصرة للحدث بل هو صناعة حديثة، ومما دُلِّس به على التاريخ لتبرير انتزاع سليم الأول للخلافة، إذ لم يتنازل الخليفة المتوكل على الله له بها، ثم إنه لا تعني تبعية الحرمين الشريفين سياسيًا للدولة العثمانية أحقيتهم بالخلافة، وإلا لو أن أمراً كهذا حقيقة لأصبح قاعدةً، وأصبح السِّباق في التاريخ الإسلامي على السيطرة السياسية على الحرمين الشريفين محموماً وواضحاً، لكن هذا الأمر لم يكن في شروط الخلافة ولا مفهومها.

المصادر المعاصرة أصدق إنباءً :

هذا المسار المائل المتلوّن في كتابة تاريخ الدولة العثمانية قد يُبرره البعض بالحماسة الدينية والعاطفة المتأججة ضمن الموقف من الهجمة الاستعمارية، باعتبار أن الاستعمار الأوروبي حوَّل المفاهيم مرحلياً إلى أن تغيرَّت وتبدَّلت، وغُيِّب كثيرٌ من التاريخ، ووُضع مكانه تاريخٌ آخر لم يعتمد على المصادر الأصيلة، على الرغم من أن كتابات بعضهم تحتج بتلك المصادر وهي لم تعُد إليها أو تُناقشها، وهذا يدعو إلى عودة النظير في جميع ما كتب في تلك الحقبة، فمؤرخ مثل سعيد الغامدي أشار إلى تلك المصادر المعاصرة دون العودة إليها وفحصها بدقة، إذ يقول: إن السلاطين العثمانيين توارثوا لقب الخلافة بإجماع معظم المصادر، وإنه في الفترة المبكرة للدولة العثمانية لم يهتم السلاطين بإبراز صفة الخلافة، لذلك فقدت الخلافة مكانتها في القرن الثامن والتاسع عشر لأسباب سياسية ودينية وغيرها، إلا أن الحقيقة تؤكد عكس ما ذكره الغامدي، وأن كثيرًا من المصادر المهمة التي جَايَلَت ذاك الحدث ووثقته لم تذكر هذا التوارث، فمثلاً ابن طولون المعاصر لسليم الأول كان يستهل توثيق أحداث كل سنة بقول واحد، فمثلاً وهو يتحدث عن سنة ( 924 ه/ 1518 ) يقول: “استهلت، والخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبوعبدالله محمد بن المستمسك بالله أبي الصبر يعقوب العباسي” في إشارة إلى أن الخلافة في العباسيين لم تبرحهم، واستمر على ذلك كل عهد سليم الأول، الذي كان يسميه ملك الروم، ولو أن المتوكل تنازل لسليم، لما تجرأ ابن طولون على الاستمرار في وصف المتوكل بالخليفة وأمير المؤمنين، كما لم يذكر ابن إياس (ت: 930 ه / 1524 م) المعاصر لاحتلال سليم الأول لمصر في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” ذلك، إذ لم يقرن لقب الخلافة لأي سلطان عثماني، وكذلك كل من محمد الغزّي (ت: 1061 ه/ 1651 م) في مؤلفه “الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة” حين ترجم لسليم الأول لم يُشر إلى وصفه بالخليفة نهائيًا، بل اقتصر على وصفه بالسلطان، كذلك عبدالملك العصامي (ت: 1111 ه/ 1700 م) في “سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي” أشار إلى سليم بأنه ملك وسلطان، وهذه الأدلة من بطون المصادر المجايلة لأحداث سليم الأول مع غيرها المماثلة لها، تدل بما لا يدع مجالاً للشك أن المصادر التي ألبست العثمانيين ثوب الخلافة كانت جميعها تُكتب تحت ظلِّ الدولة العثمانية، إذ لم يكن يجرؤ أيّ مؤرخ لكتابة ما أن يستفزّ السلطنة والسلطان الذي كان يُعامَل ويوصف بشيءٍ من القداسة.

وفي محاولة بعض المؤرخين للذود عن الدولة العثمانية بأنها تعرضت لهجمة شرسة من الحقد والتدليس قام بها الأوروبيون لتشويهها في نظر الأجيال الجديدة ممارسة للخطأ نفسه؛ ولكن في الجهة المقابلة؛ إذ إن الخلط وإحداث اللبس لدى القارئ فيه تجني على التاريخ، فالتأكيد على خلافة الدولة العثمانية ووضعه في سياق تاريخي متأخر يجعلنا نتعجب من هذا الطرح البعيد عن المنطق العلمي، الذي يؤسس لتفكيك التاريخ ومناقشته في سياقات مقطعة، بدلاً من خلطها وضياع المقاصد من الطرح التاريخي، بهدف خدمة فكرة مسبقة وتوجه محسوم، وفريق آخر ذهب لربط الخلافة بالعثمانيين من خلال مشروع عبدالحميد الثاني المتمثل في الجامعة الإسلامية لكون هذا المشروع محاولة منه لإنشاء رابطة واحدة للمسلمين تحت حكمه للوقوف ضد الحركة الاستعمارية، ومقاومة القوميين العرب، واتجاهه لتقوية الخلافة واستعادتها لهيبتها من خلال هذه الجامعة، بينما من الممكن أن يسعى عبدالحميد لفكرة الجامعة الإسلامية من دون أن يؤكد خلافته التي لم تكتمل فيها الشروط شرعيًا، ولا حقًا تاريخيًا.

لقد سُرقت الخلافة من القاهرة العباسية إلى إسطنبول العثمانية غير العربية، وباتت كطربوش يلبسه السلطان العثماني متى شاء ورغب، وسيف يسله حسب الموقف والحال، بل ووظف لقب “الخليفة” سياسياً ضد الخارج المعادي لدولة إسطنبول وفي الداخل ضد النهضة العربية وطموحات الشعوب العربية للعودة إلى عروبتها الأصلية وإسلامها الصافي، ونسى أن الحقيقة لا تسرق وإلا لما كانت حقيقة.لقد سُرقت الخلافة من القاهرة العباسية إلى إسطنبول العثمانية غير العربية، وباتت كطربوش يلبسه السلطان العثماني متى شاء ورغب، وسيف يسله حسب الموقف والحال، بل ووظف لقب “الخليفة” سياسياً ضد الخارج المعادي لدولة إسطنبول وفي الداخل ضد النهضة العربية وطموحات الشعوب العربية للعودة إلى عروبتها الأصلية وإسلامها الصافي، ونسى أن الحقيقة لا تسرق وإلا لما كانت حقيقة.

الجامعة الإسلامية كانت جسرًا للقب "الخليفة"

اختطف الخليفة والخلافة

"سليم الأول": توكل على الشيطان

وقتل المتوكل على الله

لم يكن ليتخيل أحد أن يتسبب المغول في سقوط الخلافة العباسية مرتين، مرة على يد التتار المغول بقيادة هولاكو، ومرة على يد أبناء عمومتهم الأتراك بقيادة سليم الأول، وفي كلتا المرتين طُعن الإسلام ومزّقت العروبة بالسكين نفسها التي صُنعت من ثقافة البراري البدائية.

ففي المرة الأولى؛ أفاق سكان بغداد يوم الأربعاء 9 صفر 656 ه الموافق 14 فبراير 1258 م على وقع خيول المغول بقيادة هولاكو القادم من سهول آسيا الوسطى، وعلى صيحاتهم الغوغائية الأعجمية، فاستباحوا كل ما تطاله أيديهم وهمجيتهم، فأسروا الخليفة المستعصم بالله العباسي، ثم قتلوه وأهل بيته، فاستباحوا بغداد العاصمة الإسلامية التي كانت آية من آيات الدنيا الجميلة، فأعملوا في قتل أهلها حتى بلغ عدد القتلى حسب ما قدرته المصادر التاريخية بنحو المليون، ولم تكتفِ نزعة التدمير والعزة بالإثم لدى المغول بهذه الكمية من الدم المسفوك، بل أضرموا النيران في المدينة في منظر راق لتشفيهم، بعد أن هدموا المساجد والقصور، وخربوا المكتبات بإتلاف ما بها من كتب ومآثر فكرية وعلمية، إما حرقا أو برميها في النهر، فانقلبت بغداد كلها إلى اللون الأحمر القاني، فشوارعها امتلأت بدماء العرب والمسلمين، ومياه نهريْها دجلة والفرات غَصَّت بالكتب التي ساح لون حبرها، لتسجّل تلك اللحظة التاريخية الانهيار الفعلي للدولة العباسية الإسلامية بعد جريمة تاريخية لا تغتفر ولم يشهد لها التاريخ الإسلامي مثيلًا، حتى أن المؤرخ ابن الأثير الجزري وصف سقوط الخلافة قائلًا : “فلو قال قائل منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن: لم يبتلَ العالم بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقابلها ولا ما يدانيها”.

وواصل هولاكو خان زحفه إلى الشام فأخذ حلب ثم دمشق، ثم وجّه جحافل جيشه الأهوج إلى مصر إلا أن السلطان المملوكي قطز أوقف هذا الزحف بانتصاره في معركة عين جالوت الشهيرة ( 658 ه/ 1260 م) وصدّ بذلك كارثة حربية كانت ستأكل المادي والمعنوي في البلاد الإسلامية، مسجلًا إحدى أهم الانتصارات الإسلامية التي غيّرت مجرى التاريخ الإسلامي وأعادت إليه اعتباره الإنساني والحضاري.

هولاكو قتل مليون عراقي.. وحفيده قتل الخلافة الإسلامية برمَّتها

"الجبرتي": صناديق المسكرات رافقت جنود الخليفة

المرجع:

عبدالرحمن الجبرتي ، عجائب الآثار، (مطبعة دار الكتب المصرية، 1998).

على غرار اعترافات الجنود والجواسيس السابقين في العصر الحديث التي يلقونها أمام شاشات التلفزة ويدونونها في بطون الكتب، ينقل لنا المؤرخ المصري المعروف عبدالحمن الجبرتي (توفي: 1825 م)، الذي عاصر الوالي العثماني بمصر محمد علي باشا شهادة بعض جنود جيش الحملة العسكرية لهذا الوالي على الجزيرة العربية عام (1227م) واعترافهم بفساد عناصرها الأخلاقي، فيقول الجبرتي بالنص الذي نحتاج إلى قراءته لأكثر من مرة للغته التراثية، ولنتأكد من سلامة حواسنا عمِّا قالوه من فظائع لا تتفق وصفات المسلمين لنكشف حقيقة ادعاء العثمانيين الخلافة الإسلامية الكاذب: “… ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدَّعُون الصلاح والتورُّع، أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبًا، وصحبتنا صناديق المسكرات ولا يسمع في عرضينا أذان، ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون، المستبيحين الزنا واللواط الشاربين الخمور التاركين للصلاة الآكلين الربا القاتلين الأنفس المستحلين المحرمات وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر -العثماني- فوجدوهم غلفًا غير مختونين، ولما وصلوا بدرًا واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف، وبها خيار الناس وبها أهل العلم، والصلحاء، نهبوهم وأخذوا نسائهم وبناتهم، وأولادهم، وكتبهم فكانوا يفعلون فيهم ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون هؤلاء الكفار الخوارج، حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته فقال له حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك في الغد، وفيه خرج العسكر المجرد إلى السويس وكبيرهم بونابارته الخازندار ليذهب لمحافظة الينبع صحبة طوسون باشا “.

المرجع:

عبدالرحمن الجبرتي ، عجائب الآثار، (مطبعة دار الكتب المصرية، 1998).

لم يستوعب المسلمون سقوط الخلافة العباسية، وشعروا بأنه لن تقوم لها قائمة بعد تلك الفاجعة، ولحجم الدمار الذي لحق بعاصمتها من قتل علمائها وفقهائها وسلالة آل عباس خلفائها، وتدمير مقوماتها الحضارية من مفردات الثقافة والفكر والمعرفة، وإفقارها من أسباب الحياة المناسبة، إلّا أن خليفة قطز السلطان الظاهر بيبرس أحيا الخلافة الإسلامية من جديد، وأعاد العباسيين إليها، ونقلها لأول مرة إلى القاهرة بعد أن أصبحت بغداد أثرًا بعد عين ولم تعد تصلح مقرًا لها، وكان هذا الإحياء والنقل بمنزلة الحدث المهم ليس في تاريخ مصر وحدها بل في تاريخ العالم لما نتج عنه من عودة القائد الروحي والرمزي للعالم الإسلامي وبذلك عادت القوة المعنوية والروح الدينية لدى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، في فترة لم يكن من المعقول أو المقبول لديهم أن يصبح هذا المنصب فارغًا كإحدى الركائز الرئيسة في النهج السياسي الإسلامي، كما أن بعث منصب الخلافة من جديد من مصر أعطى “الشرعية” لدولة المماليك حيث وجدوا في ذلك ضالتهم ومستندهم التاريخي لحكم البلاد الإسلامية من خلال السبعة عشر خليفة من بني عباس الذين توالوا في تولي منصب الخلافة من مقرها الجديد القاهرة خلال ( 256 ) عامًا، بدءًا بأولهم الخليفة “المستنصر” إلى آخرهم الخليفة “المتوكل على الله الثالث” وظل الحكم طيلة هذه الفترة من الخلافة العباسية بما يشبه وقتنا الحاضر”دستوريًا” فالسلطان المملوكي هو الذي يحكم والخليفة العباسي يظهر إمامًا للمسلمين يلتف عليه لواؤهم.

وفي المرة الثانية؛ وبعد حوالي قرنين ونصف القرن اقتدى السلطان العثماني سليم الأول (ثالث سلاطين الدولة العثمانية) بسيرة جدّه المغولي هولاكو، وذهب بشروره وأطماعه السياسية والاقتصادية، باتجاه البلدان العربية ولكن هذه المرة من اسطنبول، وقاد جيشًا إلى مصر موطن دولة المماليك للانتقام لأجداده المغول بعد أن حوّل الهجمات العثمانية عن أوروبا، فانتصر في طريقه في معركة “مرج دابق” قرب حلب السورية عام ( 922هـ/ 1516م) واحتل حمص وحماة ودمشق، وأعلن بعد هذا الاجتياح أنه خليفة المسلمين دون مواربة أو خجل أو اتفاق من المسلمين عليه خليفة، ثم التقى الجيش المملوكي بقيادة السلطان قانصوه الغوري في معركة الريدانيّة، وأظهر الجيش المملوكي بسالة وشجاعة في الذود عن حياض بلاده إلا أن المدافع العثمانية أنهكته فانتصر عليه ودخل مصر وعاث هو وجيشه فسادًا وتدميرًا وتقتيلا في عاصمتها القاهرة، فقد تمرست يده على القتل حين عزل والده وقتل إخوته وجميع أبناءهم حتى خلى له الحكم من المنافسين؛ ولأن طبيعة الجرائم استدراج أنفس اللصوص الخَرِبة قام سليم الأول بخطف الخليفة العباسي المتوكل على الله الثالث وأسرته وإرساله إلى اسطنبول حتى لا يجتمع حوله العرب وتقوم القائمة على الدولة العثمانية، وفي قصور اسطنبول اللامعة والمرفهة تمت أكبر كذبة عرفها التاريخ الإسلامي ألا وهي كذبة خلافة العثمانيين الإيغور غير العرب، حيث أجبر سليم الأول المتوكل على الله على إعلان تنازله تحت التهديد بالموت عن الخلافة، وأن تؤول من بعد موته إلى السلطان العثماني ويصبح لقبه “خليفة المسلمين”، وما إن قام الخليفة العباسي بتلبية ذلك حتى قتله السلطان العثماني ليكون آخر من تولى الخلافة الإسلامية “الشرعية” ولم يُعْرَف ماذا فعل بأسرته من بعده، ولم يكتف سليم الأول بذلك بل سرق آثار الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت بحوزة المتوكل على الله وهي “سيفه” و “بُرْدته” الشريفة دون أي وجه حق، لتنتقل من موطنها الأصلي العربي الإسلامي إلى غربة في بلاد الأتراك لم تنته حتى اليوم، وبمقتل آخر الخلفاء العباسيين عام (1534م) في إسطنبول، تكون الخلافة العباسية بعد خمسة قرون سقطت للأبد ومعها الخلافة الإسلامية وحوّرت زورًا وبهتانًا إلى العثمانيين حتى نهايتهم عام (1924م) كان خلالها التدليس عنوانا للمرحلة فأظهر السلاطين العثمانيون الإسلام وأبطنوا العنصرية حتى إذا ما حان وقت حروبهم مع العرب ظهرت وتجلّت، فغزوا قلوب العامة البسطاء بشعارات إسلامية، واحتلوا دول العالم العربي بإدعاء الوحدة والتنمية حتى إذا ما سلبوا خيراتها وابتزوا أموالها تركوها لثالوث الجوع والفقر والجهل، ينهش كيانها ويقضم سكانها ويفرغها من الحياة الكريمة، وحين كشف العالم وجه اسطنبول القبيح وبدأ بمحاسبتها ثم بقتالها في أنحاء كثيرة سلمت أغلب دول العالم العربي إلى الاستعمار الغربي لضمان سلامة حياة سلاطينها خلفاء البربرية.

بقي شيء واحد قاله التاريخ الخالص الحقيقي ولم يدركه الكثيرون، هو أن المماليك كانوا أشرف من الإيغور في حماية الخلافة الإسلامية، وهم أيضًا لم يتجرؤوا على تلقيب أنفسهم ب”الخلفاء”، وأن العباسيين أخطؤوا خطأ أكبر مما أن يتصوروا تداعياته بإدخالهم الأتراك إلى مؤسسات الدولة وتقريبهم إليهم وهم الذين كانوا يجوبون براري قلب آسيا من أجل الحرب والصراع والسرقة حتى وجدوا موطئ قدم لهم في بلاط الخلافة الإسلامية ك “خدم” و “سُعَاة” فوجدوا أنفسهم أمام ما قام عليه أجدادهم من حب الدماء وإزاحة الآخر فانتقموا من أول مرة دخلوا فيها إلى الأرض الإسلامية وما كان هذا ليرضي ذلك الوفاء لمغوليتهم إلا أن يغتالوا كل ما هو عربي في طريقهم سواء كان إنسانًا أم معنىً أم ثقافةً أم حتى قيمة كبيرة مثل مفهوم “الخلافة”.

المماليك كانوا أشرف من "الإيغور" في حماية الخلافة الإسلامية

بدأت مُكتملة... وانتهت صورية تهكمية

"خلافة" من ليسوا خلفاء

كتابة “الخليفة” واقترانها باعتبارها لقبًا لأحدهم مخالفة شرعية في الإسلام في وقتنا الحاضر إلا أن تعود اشتراطات الخلافة إلى حيز التطبيق، وعلى ضوئه خطأ دنيوي يتماس مع تزوير التاريخ، وتضليل العامة وخدش للخلفاء الإسلاميين الذين نالوه بحق شرعي، وتقليل لمكانتهم لما فيهم من الميزات عن غيرهم من الساسة في التاريخ الإسلامي والعربي، ويذهب الأمر إلى مزيد من السوء و”الذنب” حين يطلبها أحد الساسة، أو من هو دونهم، فهكذا قالت القاعدة الشرعية الواضحة: إن من يطلبها -أي الخلافة- من الناس؛ يُعدُّ أقلِّهم كفاءةً وإدراكًا لمفهومها، وبذلك لا يصلُح لتوليها، فقد قال الله تعالى {تِلْكَ الدِّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلِّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوٍّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتِّقِينَ} (القصص: 83).
وفي الحديث الشريف عن أبي موسى قال: دخلت على النبي أحد الرجلين: يا رسول الله، أمِّرنا على بعضِ ما ولاِّك الله عزِّ وجلّ، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: “إنِّا والله لا نوليّ على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه”، ومن خلال هذه القاعدة؛ فإن الخلافة لا تؤخذ بالطَّلب ولا بالحرب والقتال، بل هي شورى بين المسلمين.

أول تطبيقٍ عمليٍّ للخلافة الإسلامية كان في عهدِ 661 م) رضي الله عنهم؛ إذ إنهم – 40 ه/ 632 – الخلفاء الراشدين ( 11 تولوها بالشورى، وطبقوا خصائصها الانتخابية والشوريِّة وحرصوا على أمانةِ بيتِ مالِ المسلمين، فلا يخرج منه ولا
يدخل إليه إلا ما نَصَّ عليه الشّرع.

أمَا ما بعد علي بن أبي طالب (توفي: 40هـ/ 661م) فقد حدث خلافٌ في مسألة أحقيِّة معاوية بن أبي سفيان (توفي: 60هـ/ 680م) بالخلافة، والآراء التي قضت بأن فترته كانت فترة خلافة إسلامية مكتملة، آراء مقنعة ومتوازنة، باعتبار أن الحسن بن علي تنازل لمعاوية عن الخلافة بعد مبايعته بها.

للخلافة بُعدان: ديني ودنيوي إن اجتمعـا وقعت، وإن افترقـا انتقضت

وبقي الأمرُ بعد ذلك خلافيٍّا في مسألة ولاية العهد للخلافة، وإجماع أهل الحلّ والعقد، وكل هذه الآراء والاختلافات حول الخلافة الإسلامية، تناولها الفقهاء والمختصون في السياسة الشرعيَّة بالبحث والمناقشة حتى توصّل أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (ت: 450هـ/ 1058م) إلى سبعة شروط للخلافة ذكرها في كتابه العَلَم “الأحكام السلطانية والولايات الدينية” هي: العدالة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، وسلامة الحواس من السمع والبصر واللسان، وسلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو، والنسب وهو أن يكون من قريش، وهذه الشروط التي تجمع بين المقتضيات الدينية والمتطلبات الدنيوية تعد الأكثر اتفاقاً بين المجتهدين من أهل العلم، وهذا لا يعني عدم شرعيَّة أي رئاسةٍ أخرى وإن اتخذت أساليبًا في الحكم غير الخلافة، فالأهم أن تحقق مبدأ تطبيق الشرع، والحماية، والأمن، وغيرها من الضرورات التي من المفترض أن تكون عليها الحكومات الإسلامية، غير أن الخلافة الإسلامية كمنصب من الواجب توافر هذه الشروط السبعة فيه، وبذلك فإن الاختلال فيها يحولها من خلافة إلى حكومة.

تعريف الخلافة:

.. وخلف فلان فلاناً إذا جاء من ورائه فضربه، واستخلف فلاناً من فلان: جعله مكانه، وخلف فلان فلاناً إذا كان خليفته، يقال: خلفه في قومه خلافة، وفي التنزيل العزيز: {وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي} (الأعراف: 142). وشرعيًا يُعرَّف مفهوم الخلافة بالحكومة التي تحقق سياسة وإدارة الجماعة وفق الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكام الشرع، لذلك أشارت أماني صالح لتعريف الماوردي لمفهوم الخلافة بأنها خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ومفهوم ابن خلدون بأنها خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وحَمْلْ الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية، وقد رأت أماني صالح بأن مفهوم ابن خلدون أحكم وأضبط.

ومن خلال هذا السياق فإن للخلافة بُعدين مهمين: ديني ودنيوي، وهذان البُعدان قد يتفقان أو يتفرقان، فإن اتفقا وقعت الخلافة إن جاءت بشروطها، وإن افترقا أصبح الحديث عن حكومة من دون خلافة، وفي الحالتين تقع حال كل الأمم الإسلامية، إما أن تسير بالخلافة أو الحكومة، ما دام الشرع مُقامًا، والناس مُساسين وفق ما يرتضيه الله.

الخلافة بين السنة والشيعة:

اختلط البُعدان الديني والدنيوي للخلافة كثيرًا في التاريخ، وراح العديد من المؤرخين يتحدثون عنها من خلال تصورات مختلفة، ومنطلقات موجهة في الغالب لتحقيق أفكار مُسبقة، فمُنح بعض الحكام والسلاطين المسلمين لقب الخلافة، وهم أبعد ما يكون عن البُعد الديني للخلافة، وبذلك تسرَّبت نظرية الحق الإلهي المقدس إلى الفكر التاريخي، وصار لقب الخليفة يُضفي هالةً من القداسة والعظمة، استخدمه بعض المؤرخين حتى تقاطعوا في تفخيمهم وتعظيمهم لمن منحوهم لقب الخلفاء مع الفكر القديم الذي يتحدث عن سلالات إلهية أسطورية.

وأكثر أزمة حيال مفهوم الخلافة كانت بين السنَّة والشيعة، إذ إن كل فريق له منطلقاته فيها، فالسنة كانوا يرون بأنَّ الخليفة يُنتخب بالإجماع، والشِّيعةُ يرون بأنه يتحدَّد بأمرٍ إلهيّ، وقد أشار علي الوردي (وهو من الشيعة) (ت: 1416 ه/ 1995 م) إلى ما هو أبعد من ذلك عند الشِّيعة، إذ يقول: إنهم يرون أن يُحدِّد الخليفةُ بالوحيِّ كما هو حالُ الأنبياء والرسل، وبذلك تتحقق له العصمة.وأكثر أزمة حيال مفهوم الخلافة كانت بين السُّنِّةِ والشيعة، إذ إن كل فريق له منطلقاته فيها، فالسُّنِّةُ كانوا يرون بأنِّ الخليفة يُنتخب بالإجماع، والشِّيعةُ يرون بأنه يتحدِّدُ بأمرٍ إلهيّ، وقد أشار علي الوردي (وهو من الشيعة) (ت: 1416 ه/ 1995 م) إلى ما هو أبعد من ذلك عند الشِّيعة، إذ يقول: إنهم يرون أن يُحدِّد الخليفةُ بالوحيِّ كما هو حالُ الأنبياء والرُّسُل، وبذلك تتحقِّق له العصمة.

مفهومها بين العربي والفرس يخضع لخلافات مذهبية

ويسوق الوردي كلامًا للهولندي رينهارد دوزي (توفي: 1300هـ / 1883م)، بأن السنة ينظرون للخلافة من خلال طبيعتهم البدوية التي تجنح للديموقراطية، بينما الشِّيعة متأثرون بنظرية الحق الإلهي المقدَّس والنظرة الفارسية الخاصة بذلك، لكن الوردي يتعارض مع ما نقله بأن هذا الاختلاف ليس بين الديمقراطية والعبودية، بل الاختلاف بين المذهبين على أساس الواقعية والمثالية فيما يخص مفهوم الخلافة.

وينطلق نقل الوردي عن دوزي ورأيه المُخالِف له من المنطلق نفسه ليُعيد فكرة الاختلاف بين الفريقين حيال الخلافة وغيرها إلى طبيعة الصراع القديم والأزلي بين العرب والفُرس، باعتبار تواؤم نظرة السنة مع طبيعة العرب ومعتقداتهم، ونظرة الشيعة الذين ينطلقون من نظرة فارسية بكل إرثها القديم، بعيدًا عن طبائع العرب.

الاتجاه إلى الحكومة:

بإلقاء ضوء على التطبيق العملي لمصطلح الخلافة يمكن القول بأن الخلافة طُبِّقت في عصر الخلفاء الراشدين بحسب ما هو وارد شرعًا، وكذلك مع معاوية بن أبي سفيان كان الأمر فيه ما يبرر انتقال الخلافة إليه، غير أنه بعد ذلك تغيَّر الأمر وانحرف عن مبدأ الخلافة الواضح، إذ اختلَّت الأمور بتسمية وليٍّ للعهد، حين أُخذت ليزيد بن معاوية البيعة في عهدِ والده، وقبل وفاته بأربع سنوات، ما يعني أنَّ الشورى والبيعة أصبحت محصورةً في خيارٍ واحد، ولم يبايع أهالي الشام والعراق والحجاز يزيدًا بعد أن قارنوه بغيره.

كما يمكن القول بأنه منذ مبايعة يزيد بالخلافة وحتى سقوط الخلافة العباسيَّة في بغداد سنة 656 هـ/ 1258م ) لم تكن الخلافة الإسلامية مكتملةً واضحة، بل غلَبت عليها المصالح الشخصية ) ت: ) Thomas Arnold والسياسية، وصارت ملامح فقط للخلافة الأولى، لذلك في حديث توماس أرنولد 1349 هـ/ 1930م) ما يصوِّر واقع الخلافة، إذ يرى أن ما قام به معاوية بن أبي سفيان من توريثٍ في الخلافة؛ أصبح سابقةً حتى الأزمنة الأخيرة من العصر العباسي، حيث يعلن الخلفاء عن أولياء العهد في أكبر أبنائهم أو خيرة أقاربهم، وبذلك يقدَّم لهم يمين الولاء والطاعة، ومن جهته يؤيد عبدالرزاق السنهوري (ت: 1391 هـ/ 1971م) ما ذهب إليه أرنولد، ففرّق بين الخلافة كنظام وواقع، حيث أشار إلى أن نظام الخلافة أصيب بالضعف على رغم قوة الدولة الإسلامية، ثم تدهورت الخلافة منذ نهاية عهد المأمون العباسي (ت: 218 هـ/ 833م) إلى السقوط على يد المغول. ومن باب أولى أن هذا التدهور ابتعد عن مفهوم الخلافة الحقيقي ونظامها الشرعي، وإن جاء تدريجيًا، إذ لم تكن الأمور في نظام الخلافة ومنصب الخليفة بعد يزيد بن معاوية كما أصبحت عليه في أواخر الدولة العباسية من وهنٍ وضعفٍ وسوء سياسة.

السمة الكبرى في هذا السرد التاريخي للخلافة أنه خلال الفترة التاريخية الممتدَّة من عصر الراشدين إلى سقوط الدولة العباسية؛ أن منصب الخليفة لم يخرج عن النسب، الذي يُعَدُّ شرطًا من شروط الخلافة، حتى في الفترة التي كان فيها منصب الخليفة صوريَّا في القاهرة في عصر المماليك إذ جرت الخلافة في نسب قريش من بني العباس، بعد أن أصبحوا تحت سلطة المماليك، وبعد أن دعا الظاهر بيبرس (ت: 675 هـ/ 1277م) عم آخر خلفاء بني العباس، أحمد بن الخليفة الظاهر الملقب بالمستنصر بالله (ت: 659 هـ/ 1261م)، الذي هرب من بغداد إلى القاهرة، حيث نُصِبّ خليفةً صوريًا فيها، واستمر هذا المنصب الصوري إلى سقوط دولة المماليك سنة ( 923 هـ/ 1517م) وكان عدد خلفاء بني العبِّاس في القاهرة (13) خليفة.

وأشار عدد من المؤرخين، منهم المقريزي (ت: 845 هـ/ 1441م) والسيوطي ( ت: 911 هـ/ 1505م) إلى أن الخلفاء العباسيين في القاهرة كما لو كانوا حجَّابًا لسلاطين المماليك، إذ كانت الهيبة والقوة والسياسة في يد المماليك، والخلفاء في مَعيَّتهم دومًا، ووصل الأمر إلى أن العباسيين لم يكونوا يملكون حق إبداء الرأي، ويقضون أوقاتهم بين الأمراء وكبار الموظفين يسامرونهم ويطلبون ولاءهم، حتى أن قلاوون المملوكي قبض على الخليفة المستكفي بالله سليمان بن الحاكم بأمر الله (ت: 740 ه/ 1340 م) وحبسه، وذلك يوحي بهوان الخليفة مقابل السلطنة، وهذا ما يدعم القول بأن الخلافة في القاهرة خلال عصر المماليك لم تكن تعكس الصورة الحقيقية لمنصب الخليفة شرعًا، فلم يكن ذلك إلا حفاظا على منصبٍ ارتبط به الناس خلال قرونٍ عدَّة، وبدأ يتلاشى أثره، وتتضاءل أهميته، حتى أصبح منصبًا شكليًا مع الوقت، يُمنح لمن يُقدِّم ولاءه وطاعته العمياء للسلاطين، وبذلك لا يختلف عن المناصب الدينية المختلفة، فحوصر مفهوم الخلافة حتى بات أمرًا روحيٍّا دينيٍّا ليس إلا.

لذا فإن منصب الخليفة مرَّ بمراحل مختلفة، إذ بدأ بأعلى هرم السلطة في التاريخ الإسلامي، ثم صار إلى حال عديمة القيمة، ذهبت جدواها، وفقدت بريقها، إذ تناقضت مع الأهداف والخطوط التي خُطَّت من أجلها، فأصبح الخليفة لا يقيم أمره فضلا عن أن يقوم به أمر الناس ومصالحهم، وأصبح مُدَّعوها مدعاة للسخرية والتهكم.

تشغيل الفيديو

استدعاء رسمي:

كان منصب الخليفة في بداية أحداثه في الكيان السياسي العثماني يخضع للهوى السلطاني ولقانون الحاجة من عدمها، وهو كذلك رصيد مغشوش للبلاط السلطاني في اسطنبول لدفعه إلى البسطاء والعامة ومن باع قلمه أو خاف على نفسه من السجن أو الموت، يلجأ إليه السلطان كلما عنّت إليه رغبة للانتماء إلى الإسلام شكلياً في الفترات التي يحتاج فيها دعم المسلمين، إلا أن هذا الوضع تجاه لقب الخلفاء تحول إلى شكل جدّي وبُعدٍ رسمي بعد الدستور العثماني الأول الذي وافق عليه ووقعه عبدالحميد الثاني في أول أيام عهده (1293هـ /1879م ـ 1327هـ /1909م) حيث ركّز على منصب الخلافة وأكد على أهميته وقدسيته، فقالت المادة الرابعة من الدستور الذي يكتب للمرة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية: “إن حضرة السلطان باعتباره الخليفة هو الحامي لدين الإسلام وهو ملك الرعايا العثمانيين وسلطانهم” وأكملت المادة الخامسة: “إنّ نفس ذات الحضرة السلطانية هي مقدسة وغير مسؤولة”، ويبدو أن هذا التركيز الرسمي جاء بعد حالة من التباكي العالي والطويل من عدد من المؤرخين المسيسين على “الخلافة” التي كانت في الأصل منقطعة ولا أثر لها من الناحيتين العملية والفعلية في الحياة السياسية الإسلامية عمومًا منذ سقوط الدولة العباسية على يد المغول (656هـ /1258م).
وجاءت هذه العناية الدستورية لهذا المنصب الإسلامي نتاجا مضاداً لحالة توسع الاستعمار الأوروبي للعالم العربي في محاولة من اسطنبول لاستعارة مخرجات الحماسة الدينية التي فاضت بها صدور شعوب المنطقة بسبب الاعتداء الأوروربي على الأراضي العربية، وإعادة صياغة هذه المشاعر الملتهبة سياسياً بما يحمي الكراسي العثمانية من السقوط ، باعتبار أن آل عثمان هم الأسرة الوحيدة التي من الممكن أن يقنع العالم الإسلامي بأحقيتها بالمطالبة بها، في ظلِّ عدم وجود البديل المماثل سياسيًا، ومع ذلك واجه هذا الاعتبار معارضةً من قبل السلطة السياسية في مصر والمغرب وإيران، وكان أكثر المتعاطفين معه مسلمي الهند، وبعض مسلمي أفريقيا الذين كانوا تحت وطأة الاستعمار.

عبدالحميد الثاني أراد سرقة مفهوم الخلافة بـ"القانون" ففشل في التنفيذ!

شراء القدسية:

نعود قليلاً؛ سليم الأول هو أول من أُشيع بأنه تلقّب بـ “الخليفة” وعبدالحميد الثاني هو صاحب الاهتمام القانوني الأول بهذا اللقب، لكن عبدالحميد الأول هو أول من أشار إليه ضمنًا على المستوى الدولي وذلك خلال مفاوضته الجانب الروسي في معاهدة كيتشوك كايناجي (1188هـ /1774م) من خلال تأكيده للروس على أن التتر المسلمين في حدودهم في شبه جزيرة القرم تحت وصايته باعتباره المسؤول عن مسلمي العالم، مقابل وصاية القيصر الروسي على أرثوذكس الدولة العثمانية. وبالتركيز على محاولة عبدالحميد الثاني التطبيق السياسي العملي لمنصبه الجديد ضمن إدارته لشؤون دولته نجد أن العرب تصدوا له، ورفعوا ضده الاعتراض وعدم المبايعة؛ لأنه لا يمثل المستوى المكافئ للخلافة الإسلامية من حيث الشروط الشرعية، وكذلك من حيث السيرة التاريخية المعوجّة والملطخة بالفساد لدولته التي تتناقض، بل تهدم هذه الشروط وتكفر بها، فتبلورت في المجتمع العربي حالة صراع بين فريقين أحدهما يقوده علماء دين يمثلون سلطة اسطنبول ابتكروا تخريجة سياسية ودينية لعبدالحميد الثاني من هذا المأزق بتمرير فكرة أنه الوحيد الذي يحق له المطالبة بالخلافة للحفاظ على المجتمع الإسلامي من الحركة الاستعمارية، فوجد عبدالحميد هذه الفكرة مخرجاً مناسباً لأزمة الخلافة ، فأخذ به بل وعمل ـ كما سبق ـ على إقحام القدسيَّة لمنصب الخلافة من خلال الدستور في مادته الخامسة بأن نفسه ذات حضرة سلطانية مقدسة وغير مسؤولة. على الرغم من أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يكونوا فوق القانون، ولم يجعلوا ذواتهم سلطة تعلو عليه، بل كانوا سواسية مع رعاياهم من مسلمين وذميين أمام الشريعة وقوانينها.

ذبح العرق القرشي:

لم يتوقف هوس العثمانيين وأقلامهم الموالية بقول وفعل أي شيء للحفاظ على الكرسي ” الخشبي” للدولة في تركيا من الهجمة الأوروبية على العالم العربي، والحركات التحررية العربية المتعددة التي رأت التخلص من الأورروبيين والعثمانيين كوجهين لعملة واحدة ولعملية واحدة، ففي عام (1309هـ/1891م) أُلّف كتابٌ غريب الطبع والتصور انتهج فيه مؤلفه مذهبا متطرفاً في طمس الحقيقة حين حسّن وذوّق من صورة العثمانيين على حساب الأمويين والعباسيين، حين قال: “لا يخفى أن الدولة العليَّة لم تعمل كأعمال الأموية والعباسية والفاطمية بالحجر على حرية المعتقدات ولا تضطهد القائلين بما ينافي مصلحتها خصوصًا في مسألة الخلافة ولم يجتهد علماؤها في بيان ما لها من الحقوق حتى بقيت هذه الأراجيف تتلقاها أولاد الأمة جيلاً بعد جيل وقبيلاً عن قبيل تظهر في كل آنٍ وزمان وربما بما يناسب الحال والشأن ولو أنهم أنصفوا وانتصفوا لكان خيرًا لهم وأحسن ووافق للمصلحة العمومية وأوقى وأنقى للشرور وألقى ولكن غلبت الأوهام على كثير من عقول العلماء وتلاعب الظنون بأرباب المقاصد علةٌ لا تُشفى” وهذا المدح الممجوج- وحسب واقع المصادر التاريخية المحايدة التي أهملها- مغالطةٌ تاريخية للواقعيْن؛ الواقع العثماني المعتل والمرير، والواقع الأموي والعباسي الذي حقق الأسبقية والفضل في خدمة الإسلام والمسلمين، وفوق ذلك فإن خلفاءه يتحقق فيهم العرق القرشي العربي أحد أهم شروط “الشرعية” في الخليفة الإسلامي، وهذا الشرط حاول كثير من المؤرخين المعاصرين للدولة العثمانية أو المتأخرين ممن اعتقدوا بأحقيّة بني عثمان تحييده دون جدوى بآراء خديجة أو بأفكار واهنة لأنها ببساطة حاولت تغيير الوصف الفقهي للخلافة ومتطلباتها إمّا بتجنب المصادر التاريخية ككل ، أو بتجاهلها حتى لا يصطدم المؤرخ بنفسه، بل وتجاوز الحال إلى انتقال العدوى المرضية التأريخية إلى المؤرخين في الضفة المقابلة ممن لا يرون خلافة العثمانيين ويعارضونها ، كما فعل محمد العشماوي في كتابه “الخلافة الإسلامية” حين تناول نزع سليم الأول خلافة الخليفة العباسي المتوكل على الله، فقال واصفا الموقف التاريخي : “تنازل من لم يكن خليفة إلى من كان يستحيل أن يكون خليفة”، وعبارته وإن كانت تحتفظ ببعد واقعي عن المتوكل على الله، إلا أنها أخطأت حين تعاملت مع نزع الخلافة على أنه حقيقة فهذا مخالف للمصادر التاريخية المعاصرة للمتوكل وسليم، إلا أنه عاد وأكّد على أن الدولة العثمانية بدأت سلطنة واستمرت كذلك ، ولم تكن في يوم من الأيام خلافة، وما الخلافة العثمانية إلا ادعاء ركنت إليه لفرض سلطانها على رعاياها باسم الدين، ومحاولة منها لإبطال أي معارضة قادمة من باب الشريعة، لذا أدرك عبدالحميد الثاني -كما يشير “الخلافة الإسلامية “- أن عدم القناعة الجمعية بخلافة دولته سيقوّض سلطانه.

تخريجات خديجة عسفية أسقطت أصحابها في وحل النفاق السياسي.

وحسب واقع المصادر التاريخية المحايدة التي أهملها- مغالطةٌ تاريخية للواقعيْن؛ الواقع العثماني المعتل والمرير، والواقع الأموي والعباسي الذي حقق الأسبقية والفضل في خدمة الإسلام والمسلمين، وفوق ذلك فإن خلفاءه يتحقق فيهم العرق القرشي العربي أحد أهم شروط “الشرعية” في الخليفة الإسلامي، وهذا الشرط حاول كثير من المؤرخين المعاصرين للدولة العثمانية أو المتأخرين ممن اعتقدوا بأحقيّة بني عثمان تحييده دون جدوى بأراء خديجة أو بأفكار واهنة لأنها ببساطة حاولت تغييرالوصف الفقهي للخلافة ومتطلباتها إمّا بتجنب المصادر التاريخية ككل ، أو بتجاهلها حتى لا يصطدم المؤرخ بنفسه، بل وتجاوز الحال إلى انتقال العدوى المرضية التأريخية إلى المؤرخين في الضفة المقابلة ممن لا يرون خلافة العثمانيين ويعارضونها ، كما فعل محمد العشماوي في كتابه “الخلافة الإسلامية” حين تناول نزع سليم الأول خلافة الخليفة العباسي المتوكل على الله، فقال واصفا الموقف التاريخي : “تنازل من لم يكن خليفة إلى من كان يستحيل أن يكون خليفة”، وعبارته وإن كانت تحتفظ ببعد واقعي عن المتوكل على الله، إلا أنها أخطأت حين تعاملت مع نزع الخلافة على أنه حقيقة فهذا مخالف للمصادر التاريخية المعاصرة للمتوكل وسليم، إلا أنه عاد وأكّد على أن الدولة العثمانية بدأت سلطنة واستمرت كذلك ، ولم تكن في يوم من الأيام خلافة، وما الخلافة العثمانية إلا ادعاء ركنت إليه لفرض سلطانها على رعاياها باسم الدين، ومحاولة منها لإبطال أي معارضة قادمة من باب الشريعة، لذا أدرك عبدالحميد الثاني كما يشير “الخلافة الإسلامية ” أن عدم القناعة الجمعية بخلافة دولته سيقوّض سلطانه.

اقتسامٌ جاهل:

وما يؤكد عدم مقدرة عبدالحميد الأول على تطبيق الخلافة في إدارة شؤون الدولة أن ابنه محمود الثاني (ت: 1255 ه/ 1839 م) لم يهتم بالخلافة إما أنه لم يرث عن أبيه قناعة أو إيمانا عميقا بها بالرغم أنه أخذ بها كشكل قانوني فقط، بل وتعامل معها على أن صحن فاكهة يمكن لآخر مشاركته الأكل فيه، أو رداءً يمكن لثانٍ أن يتناوب معه في لبسه، حين قدم مبادرة غريبة لم يسبقه أحد إليها خاصة في التاريخ الإسلامي الذي تدعي دولته الانتماء إليه وعرض على الشّاه الإيراني فتح علي شاه القاجاري (ت: 1250 ه/ 1834 م) في معاهدة أرضروم الأولى ( 1238 ه/ 1823 م) أن يشاركه لقب خليفة المسلمين، وهذا ما يدل دلالة غاية في الأهمية على أن لقب الخلافة لقي الإهمال من السلاطين العثمانيين ليس تقصيراً منهم بل لعدم مطابقته لهم وصفاً وعملا، وأنهم احتفظوا به في الأوراق الرسمية على أمل تغير الحالة السياسية العربية والدولية وليكون إضافة شكلية ودعاية سياسية ليس إلا.

محمود الثاني حمقًا عرض على الشاه الإيراني المشاركة في لقب الخليفة

حاولت الكتابات المعاصـرة والموالية تشويه سمعة العباسيين من أجل الطربوش الأحمر

عندما نقرّب العدسة إلى شريحة أخرى من المؤرخين أو الباحثين المتأخرين من مدرسة الكتابة التاريخية العاطفية سنجد محاولات مختلفة نوعا ما إلا أنها يائسة للخروج من مأزق “العرق القرشي”، وهؤلاء أخذتهم العاطفة الدينية في ضرورة وجود خلافة دينية دون الوعي بشروط هذه الخلافة ، أو أنهم يعون تماما اشتراطات الخلافة إلا أنهم فضلوا المصلحة العامة أمام ما يهدد المنطقة من حروب ونهوض نحو فك الطوق العثماني الخانق، ومن هذه المحاولات المختلفة المنحى ما قامت به أماني الغازي في كتاب لها عن الدولة العثمانية من وجهة نظر كتابات المستشرقين من مراوغة عن شروط الخلافة بتغيير مفهومها الأصلي حين أشارت إلى أن مفهوم الخلافة هذا اختلف إلى حدّ ما عما هو في العصر العباسي وأصبح في عصر العثمانيين معنياً بطرق الحج، وحماية الأماكن المُقدِّسة، والدفاع عن الإسلام والمسلمين، ووضعهم تحت حماية الدولة العثمانية، بحيث استحقِّ السلطان العثماني لقب الخليفة.

باسم "الخلافة" المزيِّف أجاز "سليم" لجنده الزواج من الأرملة قبل انقضاء عدتها

يمكن إلحاق هذه القصة التي وثّقها المؤرخ المصري ابن إياس (توفي: 930 ه/ 1510 م) إلى فيلم مرعب دموي عن الهمجية في النيل من الطرف الآخر وإذلاله واستباحة كرامته الآدمية كالتي تنتجها حاليا صناعة السينما العالمية الحالية أو أشد، لكنه عن الجيش العثماني قبل أكثر من ( 500 ) سنة الذي قاده السلطان الطوراني سليم الأول ودخل به إلى القاهرة غازياً ومحتلا، يروي ابن إياس هذا المشهد الذي لا يَمُتُّ بصلة للخلافة الإسلامية التي ادعتها السلطنة التركية، بعد أن سرقتها وأهانت قيمتها في التشريع الإسلامي، فيقول: “إن أحد القضاة لم يُجِز لأحد العثمانية الزواج من امرأة لم تنقض عدتها فشكاه، فأحضر ذلك القاضي وبطحه وضربه ضرباً مبرحاً، ثم كشفوا رأسه وألبسوا عليه كرشاً من كروش البقر بروثه، وأركبوه حماراً بالمقلوب وطافوا به في شوارع القاهرة، وأصدر سليم الأول أمراً بألا يعقد قاض مصري عقداً لعثماني”.
هذا الاستنصار للعنصرية والحط من قيمة القضاء من قبل سليم الأول الذي أسقط بهذا الفرمان/ القرار نفسه من على كرسي الخلافة الإسلامية التي من أهم الشروط فيمن يتولاها تحقيق العدل والمساواة بين الناس، وإن كان ابن ياس لم يكتف بذلك، بل ذكر حقائق مخجلة عن الجيش العثماني في التعامل مع الشعب المصري ومنها أن النساء يغتصبن حتى في المساج، وأن الجنود المرتزقة يقتلون الزوج ويتزوجون زوجته دون أن تكتمل عدتها أو حتى تبدأها، فلم يكتف سليم الأول بتلك الدناءة في معاملاته مع الرعايا العرب خلال حكمه البائس الذي لا يصل إلى المستوى الأدنى من الحاكم البشري فما بالك بمستوى يدعي أنه “خليفة المسلمين”.

الدم غير المبرر:

هذه الكتابة ونوعيتها تسطيحٌ واضح وتهميشٌ متعمِّد للدفاع عن خلافة العثمانيين بتجاهل النصوص الشرعية والمعنى والمفهوم الحقيقيان للخلافة الإسلامية، كما أنها ترتطم بواقع دروب الحج غير الآمنة، والعناية التركية بالحرمين الشريفين المتواضعة والمحدودة على طول أربعة قرون زمنية، ثم إنها ومثيلاتها من الكتابات غير المنضبطة بالعقل والمصادر التاريخية تغفل عن نقطة رئيسة فكون الدولة العثمانية دولة إسلامية – على سبيل التسليم بذلك – لا يعني أن ندعم فكرة أن كل ما قيل ضدها جناية وتدليس وتبلي، فشواهد التاريخ لجرائم سليم الأول والقانوني وغيرهما من السلاطين إلى عهد الاتحاديين ماثلة في الذاكرة التاريخية بمختلف تصانيفها، وكانت مهمة الكثيرين التابعين لدولة اسطنبول تغليف هذه الجرائم بالمدائح كما حصل على سبيل المثال مع سليم الأول، السلطان التي تتفق المصادر جميعها بشكلٍ مباشر وغير مباشر على أنه سلطان معتلّ، صاحب شخصية ساديِّة يستمتع بعذابات الآخرين، وقتل الإنسان لديه مسلمًا كان أو غير مسلم أبسط من أن يُجهد ضميره في المشاورة ، ولنا جميعاً في ما قاله عنه ابن إياس الدليل الكافي، فيقول عنه: “وفي مدة إقامة ابن عثمان بمصر لم يجلس بقلعة الجبل على سرير الملك جلوسًا عامًا، ولا رآه أحد، ولا أنصف مظلومًا من ظالم في محاكمته، بل كان مشغولاً بلذته وسكره وإقامته في القياس بين الصبيان المُرد، ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه. فكان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء المماليك الجراكسة، وما كان له أمان إذا أعطاه لأحدٍ من الناس، وليس له قول ولا فعل، وكلامه ناقص ومنقوص لا يثبت على قول واحد”، ويضيف ابن إياس كشاهد عيان لهذه الفترة قائلاً: “وأما عسكره فكانوا جيعانين العين، نفسهم قذرة، يأكلون الأكل وهم راكبون خيولهم في الأسواق، وعندهم عفاشة في أنفسهم زائدة وقلة دين، يتجاهرون بشرب الخمور في الأسواق بين الناس، ولما جاء عليهم شهر رمضان فكان غالبهم لا يصوم ولا يصلي في الجوامع ولا صلاة الجمعة إلا قليل منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة، وليس لهم نظام يعرف لا هم ولا أمراؤهم ولا وزراؤهم وهم همج كالبهائم”، أوصاف وتوثيقات أخرى مقيتة تجعلنا ومن باب قناعتنا وإيماننا بما أنجزته الخلافة الإسلامية الحقيقية من عمارة للأرض وللإنسان نربأ بأن يُطْلق على سليم الأول لقب خليفة، تطهيرًا وتشريفًا لمنصب الخلافة الذي تسلِّمه صحابة رضي الله عنهم جميعًا، ودفاعًا عن منهج سياسي أصيل يتلخص في”الخلافة” له نتاجات دينية واجتماعية ومعرفية واقتصادية كان سلاطين آل عثمان بعيدين عنه كل البعد ولم يلجأوا إليه إلا لأسباب دنيوية تخصهم هم فقط، وأيضا تناولناه للحفاظ على الحق التاريخي والأسبقية في التنفيذ الذي عجز عبدالحميد الثاني رسمياً عنه ومن سبقه ومن بعده لأسباب تكشف ظلمة في دواخلهم لم تتواكب مع نور الإسلام العظيم.