في تحوُّلٍ خطير في البيئة الإستراتيجية للمنطقة

بعد أن مكَّن الغرب إيران من التدخل السياسي في شؤون العراق

لم يكن ابن العلقمي في تاريخ العراق مجرد رجل عابر، بقدر ما كان فكرة لم تمت، وتكررت طويلًا، فعند كل مصيبة تضرب الأمة العربية والإسلامية ستجد خلفها أو أمامها أو حولها إيران، وعشرات من ابن العلقمي، ممن يندسُّون في قلب أي مؤامرة على الأمة العربية، لذلك فمع كل مصيبة ابحث عن متآمر، ستجد طرفًا يقودك إلى إيران.

وفي جميع الإستراتيجيات التي تروم استنزاف العالم العربي والإسلامي، أو إنهاك أنظمته وابتزازها، أو محاولة إخضاعها؛ ستجد إيران كالملقط الذي يتم تحريكه لتحقيق مشاريع الغرب في المنطقة، خاصة وأن العداء الفارسي للعرب تجاوز البُعد البراغماتي- المصلحي ليرتقي إلى مستوى العداء العقدي والوجودي لكل ما هو عربي.

في هذا السياق شكَّل التحالف الفارسي الغربي مسارًا ثابتًا في العلاقات الخارجية لإيران منذ القِدم، خصوصًا في مواجهة المسلمين العرب، وتاريخيًّا -كما يروي الطبري- كيف أن خالد بن الوليد عندما قصد العراق: “اجتمع المسلمون بالفراض، وحميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يليها من مسالح فارس”، ويقصد بهم المسلحين من فارس.

ويمكن القول بأن مختلف مراحل التغلغل الإيراني في المنطقة تمت بمباركة غربية، خاصة وأن الغرب لم يَرَ في إيران ذلك العدو الوجودي الذي يخشى خطره، رغم استمراره في تبنِّي إستراتيجية توازن القوى في المنطقة من أجل تفادي استقواء طرف على الآخر، وبالتالي التحكم في مصير المنطقة من خلال إقحامها في صراعات إقليمية تزيد من إنهاكها، أيضًا من حاجتها للدعم الغربي.

إن مظاهر التحالف الإيران الغربي، الذي كان من نتائجه إلحاق بعض البلدان العربية بالنفوذ الإيراني، كثيرة ومتعددة، ويبقى أحدث تلك التحالفات ما وقع بمناسبة الحرب على العراق، ويمكن الجزم، بخصوص الحالة العراقية، بأن إيران لم تكن لتحلم بوضع اليد على عاصمة الدولة العباسية لولا المباركة الأمريكية، هذه الأخيرة قامت باستخدام الجسر الإيراني وطابورها الخامس في العراق لإسقاط حكم صدام حسين، الذي لم يتعامل مع دول الجوار بما تقتضيه حقوق وأخلاق الجيرة، وسقط بغباء كبير في الفخ الذي وضعه له الغرب، حين صدَّق المسكين بأن أمريكا يمكن أن تبارك مشاريعه التوسعية في الكويت.

الحلم الفارسي، تغيير واقع المنطقة العربية من الند للخضوع.

لقد أدى سقوط العراق إلى تحول خطير في إستراتيجية المنطقة، حين سقط جدار الصد العراقي المنيع في وجه المشاريع الفارسية، ونجحت إيران في عملية الانتشار السياسي والتغلغل المؤسساتي، وهو ما أدى إلى تحوُّل العراق إلى مجال حيوي لإيران، وانتقل مركز صناعة القرار السياسي من بغداد إلى طهران.

إن العقلية الاستعمارية الحديثة انتقلت من تبنِّي “نزعة استعمارية مباشرة” إلى “نزعة استعمارية غير مباشرة”، وأصبح التحكم في خيرات الدول مقدَّمًا على التحكم في الأرض، بالمقابل لا زال الملالي متشبِّثين بحلم إخضاع الأرض مقابل التخلي للغرب عن جزء كبير من خيرات المنطقة، وهنا التقت الغايتان؛ غاية الغرب المادية وغاية إيران التوسعية، ومن ثم كان التحالف بين الطرفين في العراق، تمهيدًا لاستهداف ما هو أوسع بكثير وأبعد من العراق.

لقد سبق لرئيس مصلحة تشخيص النظام علي هاشمي رفسنجاني أن أكَّد هذا التحالف الإيراني-الأمريكي، حين أكَّد في إحدى خطب الجمعة هذا التحالفَ في أفغانستان بقوله: “لولا الجيش الشعبي الإيراني الذي ساهم في دحر طالبان لغرقت أمريكا في المستنقع”، ومن المؤكد أن الدعم الإيراني لأمريكا لا يمكن أن يتم دون مقابل، وهو ما تؤكده الوقائع على الأرض والكتابات الأمريكية المعتمدة التي رفعت إيران إلى مستوى “المحور الجيوسياسي” الذي يجب دعمه أمام جميع المحاولات التي قد تؤدي إلى سقوطه أو انفجاره من الداخل.

في الصدد نفسه حذَّرَت المملكة العربية السعودية منذ العام (2002) من النفوذ المتزايد لإيران في المنطقة، وأكَّدت أنها تسعى إلى تغيير المعادلة السياسية من خلال بناء قاعدة إسناد متقدمة في العراق، كمقدمة لإقامة هلال شيعي ينطلق من أراضيها، ويمتد إلى العراق وسوريا ولبنان، وهو التبنِّي الإستراتيجي الذي ستُصدِّقه الأحداث بعد أقل من عِقد من هذا التاريخ، فبالمحصِّلة صدقت القراءة السعودية، وتحوَّل العراق إلى مجال حيوي للأطروحة الإيرانية، رغم المقاومة الشرسة التي يقودها المكوِّن العربي في العراق بشقَّيه السني والشيعي، ولعل حالة السخط على إيران في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن مردُّها إلى ترسُّخ القناعة لدى شعوب هذه الدول بأن “الأزمات هي الحصيلة المباشرة لطموحاتها (إيران) المنفلتة من عقالها، والهادفة إلى السيطرة على المنطقة، عبر نثر بذور الشقاقات الطائفية، وتشكيل فِرَق شيعية مسلحة قوية في المنطقة.

  1. أحمد حقي، طبيعة وأشكال التحالف والتعاون عبر العصور المختلفة بين إيران والغرب (عمَّان: دار عمَّار، 2013).

 

  1. أفشان إستوار، “المعضلات الطائفية في السياسة الخارجية الإيرانية: حين تتصادم سياسات الهوية مع الإستراتيجية”، دراسة نُشرت على موقع مالكوم كير-كارنيجي بتاريخ 30 تشرين الثاني-نوفبر ( 2016).

 

  1. سيد موسوي، “إيران والغرب.. مواجهة بين السياسات”، مركز الدراسات الإستراتيجية، ع122 (2006).

 

  1. محمد العبيدي، “النظام السياسي الإيراني وتحديات العلاقة مع الغرب 1979-2008″، مجلة دراسات إقليمية، جامعة الموصل، مج6، ع17 (2010).