الحج والسياسية

لدى سلاطين الدولة العثمانية

منذ فجر الإسلام ارتبطت مكانة الحاكم بشرعية أدائه للشعائر الكبرى، وعلى رأسها الحج إلى بيت الله الحرام، غير أنّ السلاطين العثمانيين تفرّدوا بترك هذه الفريضة رغم قدرتهم، مكتفين بإظهار عناية سياسية بالحرمين دون ممارسة فعلية للشعيرة, فما الذي دفع السلاطين العثمانيين إلى تجنّب الحج إلى مكة المكرمة؟ وما الذي دفع أكثر من ستة وثلاثين سلطانًا إلى عدم أداء أحد أركان الإسلام الخمسة مع قدرتهم واستطاعتهم على الحج؟ خاصةً وأن الخلفاء العرب حجّوا قبلهم إلى مكة، ولم يُمنع منهم أحد. بل لقد كان الحج أُمنية الأماني لعامة المسلمين وتجارهم وحكامهم، يبذلون الغالي والنفيس في سبيله.

سليمان القانوني قدَّم ضريحه على الكعبة المشرفة

يقول كمال كاربات في كتابه تسييس الإسلام: إعادة بناء الهوية والدولة والدين والأمة في الدولة العثمانية: “وكما هو حال بقية السلاطين العثمانيين، لم يؤدِّ عبدالحميد فريضة الحج مطلقًا مع كونها فريضة مرة على الأقل في العمر لمن استطاع إليها سبيلًا، بيد أنه انضم إلى اثنتين من الأخويات الصوفية الشعبية.. إلا أنه لم ينضم إلى النخبة المولوية التي حبّذ كثيرون من أسلافه وأخيه مراد الانتماء إليها”.

فهل أعطت الطرق الصوفية السلاطين رخصةً لترك الحج؟ خاصة وأن بعض الطرق تسقط العبادات عن معتنقيها، وتجعلهم في طبقة أعلى من البشر كما يدّعون. وهو أمر ليس بالجديد، إذ كثير من الطرق منحت قادتها أو بعض مقلديها المخلصين تلك الرخصة، ولا شك أن الحج كان منها. ولأن السلاطين العثمانيين كانوا من أكثر المؤيدين للطرق الصوفية، وخاصةً المتطرفة منها مثل البكتاشية وغيرها، فمن غير المستبعد أن يكون ذلك جزءًا من مبرراتهم لعدم الحج.

أما ما يُدعى من حرص السلاطين العثمانيين على الحرمين الشريفين، وانطلاقًا من مكانتهما في الشعائر الإسلامية، كقبلة للصلاة ومقصد للحج، فقد كان حرصًا سياسيًا فقط، لإضفاء الشرعية على احتلالهم للبلاد الإسلامية بعد إسقاطهم للخلافة العباسية في مصر، والتي كانت مظلةً لحكم المماليك. خاصةً أنه لم تكن لهم ميزة تمنحهم حق حكم الحرمين الشريفين وسائر الشعوب الإسلامية.

ومن هنا يثور سؤال آخر: هل أراد العثمانيون تحويل القبلة من مكة المكرمة إلى إسطنبول؟ وإلا فلماذا قام السلطان سليمان القانوني بالاستيلاء على الأحجار القليلة المتبقية من الحجر الأسود ونقلها إلى إسطنبول؟ خصوصًا أن من المعلوم أن الحجر الأسود، وبسبب اعتداءات البغاة من أمثال “القرامطة”، كان هدفًا لمحاولات نقل التعبّد من الكعبة ومكة المكرمة إلى أماكن أخرى.

لقد استخدم السلطان سليمان القانوني نفوذه وسلطته ليستحوذ على ما تبقى من الحجر الأسود، مفضّلًا إسطنبول على مكة، وضريحه على الكعبة المشرفة. وقد جرى توزيع تلك القطع، فوُضِع بعضها في جامع “صقلي محمد باشا” في إسطنبول؛ إذ كانت القطع التي نُزعت من الحجر الأسود عدة شظايا. جرى تثبيت أربع منها على المحراب والمنبر والقبة وعند الباب، بينما وُضعت القطعة الخامسة والأكبر فوق ضريح السلطان سليمان القانوني.

يذكر علي السنجاري في كتابه منائح الكرم أن السلطان مراد الرابع سنة (١٠٤٠ه) أرسل المعماري التركي رضوان لإصلاح ما تهدّم من الكعبة المشرفة بعد أن تعرضت لأضرار. وحين وصل المعماري إلى الكعبة وجد الحجر الأسود قد تشظى إلى عدة قطع، وتفككت أجزاؤه، بحيث كان بإمكان أي أحد أن يأخذ منها ما يشاء. ولعل هذا السؤال تدعمه حقيقة أنه لم يكن هناك خطر يتهدد الكعبة أو الحجر الأسود في عهد السلطان سليمان القانوني، مما يرجّح أن الأنانية وتفضيل الذات، أو النظر إلى الكعبة باعتبارها من ممتلكاتهم الخاصة، قد يفسّر ذلك السلوك.

بل إن الموقف من الحج انتقل من السلاطين إلى الأمراء الأقل رتبة في هرم الحكم العثماني. إذ يقول منير أطالار في كتابه الصرة الهمايونية ومواكب الصرة: “لم يذهب أحد من السلاطين العثمانيين قط لأداء فريضة الحج، حتى السلطان سليم الأول – الذي فتح مصر – لم يذهب للحج، بالرغم من قربه من الديار المقدسة. أما بقية الأمراء فلم يحج أحد منهم سوى الأمير (جم). أما بقية الأمراء، فلم يُعرف أن أحدًا منهم قد حج”.

  1. علي السنجاري، منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1998).

 

  1. منير أطالار، الصُّرَّة الهمايونية ومواكب الصُّرة، ترجمة: محمد حرب (القاهرة: مركز التاريخ العربي، 2023).