بعد كشف المسكوت عنه في "حرملك" العثمانيين
ما هو "ثالوث" مخالفة الفطرة الإنسانية؟
من الناحية اللغوية، تعني كلمة شذوذ، تشوّه الخلقة والخروج عن الفطرة السليمة، ووصف “العثمانية” بالدولة الشاذة ليس أكثر من وصف حقيقي لبعض سلاطين الترك.
والشذوذ في الدولة العثمانية لا يقتصر على أمر واحد خالفوا فيه الفطرة السليمة أو حتى قوانين الدول التي سبقتهم ولحقتهم، بل إن المنظومة بالكامل خالفت المألوف، سواء من الناحية الإنسانية بتأسيسهم أول مؤسسات عبودية بالكامل لاسترقاق البشر، أو من خلال النظم الاجتماعية التي عملت على تجويع الناس وإفقارهم، ووصولًا إلى قوانين القتل التي شرعنوها فقتلوا إخوتهم وأبناءهم قبل أن يسفكوا دماء المسلمين.
لذلك فإن كشف المستور عن الحرملك وتحويله على يد سلاطين العثمانيين إلى ساحة يرتكبون فيها الأفعال المخالفة للفطرة السليمة، ليس أكثر من جزء يكمل الصورة الكاملة عن بني عثمان.
ورغم أن سلاطين الترك حين أسسوا الحرملك ليجعلوه مكانًا مخصصًا لنسائهم وجواريهم، فرضوا عليه السرية التامة والقوانين الصارمة؛ بل قتلوا كل رجل غريب حاول أن يعرف ماذا يدور في هذا الجزء الغامض من قصر الحكم، إلا أنه في النهاية ظهرت الوثائق التاريخية التي كشفت كل شيء.
تلك الوثائق أوضحت أن الخروج عن الفطرة السليمة سيطر على أضلاع مثلث الحرملك الثلاثة وهم “الأطفال، الجواري، العادات الحرملكية”.
فمن ناحية الأطفال، كان السفير الإيطالي في الدولة العثمانية أتفيانو بون أول من كشف عن منظومة الأفعال المنافية للفطرة السليمة داخل الحرملك في كتابه “سراي السلطان” الذي أصدره منتصف القرن السابع عشر. ويسلط بون الضوء على العبيد والأطفال الذين تعرضوا للإخصاء كشرط للعمل داخل الحرملك، فيقول أن سلاطين الترك أطلقوا على هؤلاء الأطفال الخصيان أسماء زهور مثل ورد، نرجس، قرنفل، وهي كلها أسماء لها دلالات أنثوية أصر بنو عثمان عليها.
أجبر العثمانيون أطفال الحرملك على التسمي بأسماء ذات دلالات أنثوية.
لكن ما ذكره أتفيانو بون، ليس إلا مقدمة لسلوكياتٍ أبشع، ومشاهد لم ترد إلا في الحكايات، فكما توضح المصادر التاريخية، فإن سلاطين العثمانيين ابتدعوا ظاهرة الـ “كوجيك” منذ القرن السادس عشر، والمقصود بها الأطفال الصغار الذين يتم تربيتهم وتدريبهم على الرقص الماجن المثير، ويُجبرون على ارتداء ملابس النساء ووضع أدوات الزينة الكاملة، وكانت ملابسهم عبارة عن سترة مخملية مطرزة حمراء اللون وبنطال فضفاض فوقه تنورة طويلة وحزام من ذهب.
خضع هؤلاء الأطفال للرغبات الدنيئة لبعض سلاطين الترك بشكل شبه يومي في الحرملك، ونتيجة ذلك أصيب كثير من الـ “كوجيك” باضطرابات نفسية نتيجة إجبارهم على مخالفة فطرتهم.
وإذا كان هذا حال الأطفال والغلمان، فإن الجواري لم يَكُنَّ أفضل حالًا، فالمصادر التاريخية امتلأت بالحديث عن جواري سلاطين الترك وكيف تحولن إلى زوجات، لكن السؤال الذي لم يطرحه كثيرون ماذا عن الجواري الذين لم ينلن رضا السلطان.
ظاهرة الـ"كوجيك" دلالة على فجور بعض السلاطين.
تحدثنا المرويات التاريخية أن سلاطين الترك لم يكتفوا بقوانين الاستعباد المفروضة على الجواري داخل الحرملك، فأصدروا أول قانون في العالم يعاقب الجارية التي لا تعجب السلطان، فقد ابتدع سلاطين العثمانيين قانونًا قضى بأن الجواري اللاتي لم ينلن استحسان السلطان يُجمعن في غرف متقاربة ليقضين حياتهن مع بعضهن البعض حتى الموت.
هذا القانون الشاذ كان هو السبب في أن آلاف الجواري قضين حياتهن داخل الغرف المغلقة لا يعرفن أحدا ولا يعرفهن أحد، محرومات من أبسط حقوق العبيد، وفي النهاية تُقتل أحلامهن وتنتهي حياتهن دون أي اكتراث من السلاطين الذين تفننوا في استعباد الناس وخرجوا عن أي مألوف.
أضف إلى ذلك الحفلات الماجنة التي كان يقيمها سلاطين الترك داخل قصور الحكم، التي امتلأت بمشاهد الفسق والفجور، ويكفي القول أن العثمانيين أول من ابتدعوا الأحواض الكبيرة التي تمتلئ بالحليب ويجلس فيها الجواري قبل أن يأتي السلطان للاستحمام، ولأن بعض الجواري لم يكن لهن أي علاقة اختلاط بالرجال قبل دخول الحرملك، فإن تلك المشاهد خلقت فيهن اضطرابات نفسية جعلتهن غير سويَّات نفسيًّا طيلة أعمارهن.
فالخروج عن المألوف عند سلاطين العثمانيين لا حدود له، فخير الدين آغا، رئيس الآغوات في عهد عبد الحميد الثاني (1876-1909)، يكشف في مذكراته التي حملت عنوان “أسرار الحرم”، أن حوائط الحرملك مكتوب عليها الكثير من الأشعار الماجنة التي تساهم في الإثارة الجنسية، بل وصل الحد إلى أن بعض المؤرخين الغربيين خجلوا من تدوين كل ما كان يُكتب على تلك الحوائط لأنه فاق تصوراتهم كثيرًا.
الضلع الثالث من أضلاع المثلث، أي العادات الحرملكية التي وُصفت أيضًا بالشاذة والخروج عن المألوف، فيروي الإيطالي أتفيانو بون في كتابه “سراي السلطان” أن الشذوذ وصل إلى سلوك فتيات الحرملك حتى في طريقة تناولهن الطعام، إذ كان يُقدم لهن فوق الجلود البلغارية والأرائك، ولا بد من الجلوس بطريقة فيها إغراء للسلطان؛ ليراهن ويختار منهن من يريد.
حتى الأعياد لم تسلم من الخروج عن المألوف أيضًا، ويتضح ذلك في أحد أعياد الحرملك المُسمى “البايرام” وفيه تتحلى السلطانات بأبهى الحلي والفخامة غير المحدودة، لكن مقابل ذلك يخضعن الجواري للفقر والجوع لكي يستمتع السلطانات، كيوم خصصه سلاطين الترك للقهر والظلم.
في وسط تلك القوانين الشاذة وحياة الفسق والفجور واستعباد الجميع، لم يكن من الغريب أن يصيب الكثير من الجواري والغلمان الجنون، وهو ما يكشف عنه خير الدين آغا في مذكراته، أسرار الحرم، فأوضح أن سلاطين الترك احتجزوا الآلاف من العاملين في الحرملك فيما يشبه مستشفى الأمراض النفسية بسبب التشوهات التي حدثت لهم نتيجة ما شاهدوه وأُجبروا عليه، وظل كل هذا طي الكتمان حتى سقطت الدولة العثمانية وعرف الجميع ماذا كان يدور في هذا الجزء الغامض المسمى الحرملك في قصور الحكم.
تسببوا في إصابة الآلاف من عاملي الحرملك بأمراض نفسية.
- أتفيانو بون، سراي السلطان، ترجمة: زيد الرواضية (أبو ظبي: مشروع كلمة، 2014).
- أكمل الدين أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999).
- خير الدين آغا، أسرار الحرم في البلاط العثماني مذكرات رئيس الأغوات في قصر السلطان عبد الحميد الثاني (طرابلس: مكتبة السائح، د. ت).
- ماجدة مخلوف، الحريم في العصر العثماني (القاهرة: دار الآفاق، 1998م).
- -محمد أبوعزة، عصر السلطان عبد الحميد (بيروت: المنارة، 1997م).
- محمد جميل بيهم، أوليات سلاطين تركيا المدنية والاجتماعية والسياسية (صيدا: مطبعة الوفاق، 1930م).
- محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، ط2 (بيروت: دار النفائس، 2008م).