خصص مخازن الطعام لجنده

أطعم أهالي المدينة

"عيش حاف"

بعد أن فقد فخري باشا تواصله مع مركز قيادته في الشام خلال وجوده في المدينة المنورة؛ بدأ فعليًّا بإجراءاته الاحترازية في التأمين الغذائي لحاميته وجنده من دون الناس، ونتيجة لهذه السياسة؛ أحدث مع الوقت مجاعةً في المدينة المنورة لم يسبق لها مثيل حين وصلت أقصاها، وأصبحت العلاقة وثيقة بين الجوع والغلاء.
تنبه فخري لمثل هذا السيناريو منذ فترة مبكرة من توليه الأمور في المدينة، إذ يصف أحد رجال الحامية العثمانية (فريدون قاندمير) أنه أعدَّ بالقُرب من المدينة مُعسكرًا تتوافر فيه المياه وتنتشر فيه حدائق النخيل، وحرص على جني محاصيل النخيل من التمور وحفظها في مخازن مُعدَّة لذلك، كي تكون أمنًا غذائيًّا لحاميته العسكرية، وذلك منذ فترة مبكرة من حكمه، كما أعقب هذا الإجراء بمجموعة أوامر، منها ألا تُصَدَّر محاصيل النخيل خارج المدينة المنورة ولا تُهدى، بل تبقى في مخازنها.
هجَّر فخري باشا أهالي المدينة حفاظًا على أمن حاميته الغذائي، لذلك في 30 ديسمبر (1917م) صدر قرار فخري باشا بمصادرة المواد الغذائية، وجمعها إلى القلعة في المدينة المنورة استعدادًا للحصار، وبناءً على ذلك فقد توقف البيع والشراء، وأهمل الناس زراعة الأراضي، بينما انشغل جيش فخري بجمع المؤن الموجودة في الأسواق وتخزينها.
واجه فخري أزمة تخزين الأطعمة؛ نتيجة مصادرة كميات كبيرة من الأغذية من الأسواق، التي أخذها جبرًا من أيدي التُجار بشرائها بأثمان رخيصة عن طريق جنده؛ إذ إن الكميات كانت أكبر من المخازن؛ لذا لجأ إلى التخزين في الثكنات العسكرية والمساجد والبيوت المهجورة من أهلها، التي غصَّت بالقمح والدقيق والتمر والسكر والسمن، ولم يكتف بذلك، بل تجاوز إلى البساتين القريبة من المدينة، وحاول الاستزادة من المراكز القريبة والموالية له.
لم يكتف بتجويع الأهالي من الأسواق فقط، حيث أمر جنوده بوضع أيديهم على أفران الخبز في المدينة، وأقام مجموعةً من الأفران في عددٍ من ثكناته العسكرية، وفرض على الجيش نوعًا من الخبز يسمى القنيطة، وهو خبز يُجَفَّف في الفرن؛ ليقاوم العفن لفترات طويلة، وعند أكله لا بد أن يُبلَّ بالماء حتى يكون مهيأً للأكل.

قدم الموتى والقطط والميتة طعامًا للجياع

ألح فخري على مركز قيادته في الشام بإرسال كميات كبيرة من الأغذية، خاصةً في الفترة التي كانت تصل فيها القطارات إلى المدينة، ونتيجة لإجراءات جمع الأغذية من التجار ومصادرة ما لديهم، كذلك جني المحاصيل من البساتين؛ فإنه من الطبيعي أن يلحق ذلك منع للبيع والشراء، إذ مُنع التجار من فتح محالِّهم التجارية، وكل ذلك كان بهدف التجويع المُتعَمَّد لإجبار من بقي من الأهالي على الرحيل عن المدينة، ومع ذلك كانت تُمارس عمليات بيع بالخفاء بين الناس والتجار، غير أن الأغلب أن الناس كانوا يشترون بعض الأغذية من الجُند التابعين للحامية، ممن كانوا يسعون للكسب المادي واستغلال حاجات الناس، وبناءً عليه فإن الأسعار ارتفعت بشكل خيالي وغير منطقي، كل ذلك في سبيل الحصول على الغذاء.
أصبح الناس بين ناري الجوع والغلاء؛ نتيجة لحالة افتراضية، تحسُّبًا واستعدادًا من فخري باشا لمرحلة الحصار الكُلِّي، حيث بدأ بتعذيب الأهالي قبل أن يعذبهم الحصار. إذ وصل الحال بالناس أن أكلوا الهزيل من الماشية، والجلود والقطط والميتة، وأُكلت الجثث بعد نبش القبور، وأخرجت حديثة الدفن منها، وقطعت الأرجل والأيدي وطبخت وبيعت على أنها لحوم ماشية، بينما كانت لحوم بشر، وقد ذكر التركي كاشف كجمان في كتابه أنهم قبضوا على من نبش قبرًا لامرأة دُفنت حديثًا، وقُطِّعت أفخاذها وأذرعها وبيعت في السوق بعد أن تم طهيها. ودائمًا ما كان يتم القبض على نابشي القبور، ووجدت مجموعات من الجثث التي نبشت قبورها مقطعة، ويروى أن أحد أهالي المدينة دفن أخته في البقيع وحين عاد لزيارتها بعد مدة؛ وجد قبرها مفتوحًا وقد قُطِّع لحمها، ويورد أيضًا قصةً لمن اصطاد قطًا، فاشتراه اثنين من أهالي المدينة وذهبوا به إلى جزار تركي، فسلخه لهم وأكلوه سويًا مع الجزار.
قصص مجاعة المدينة لم تكن خيالاً ولا مبالغة، بل واقعًا لتواترها لدى أهالي المدينة، وتأييدها من كتب من شاركوا الحامية العثمانية من الأتراك أنفسهم. كل ذلك كان بتدبير من فخري وترتيبه، وهو يعلم يقينًا ما سيصل إليه حال الناس، حينما أصبحوا في حالٍ مأسَوية لا يمكن أن يتحملها بشر. فعن الرسول ﷺ قال: ” اللَّهمَّ مَن ظلمَ أهلَ المدينةِ وأخافَهُم؛ فأخِفْهُ، وعليهِ لعنةُ اللهِ والملائكةِ والنَّاسِ أجمعينَ، ولا يُقْبَلُ منهُ صِرفٌ ولا عدلٌ”، وفخري باشا ظلم أهل المدينة وأخافهم وشردهم، وخرج من المدينة بعد هزيمته بقلبٍ بارد، وجريمةٍ لن يغفرها له التاريخ.

منع التجار من البيع والشراء وصادر الأغذية من الأسواق

(1) محمد البلهيشي، المدينة المنورة (الرياض: الرئاسة العامة لرعاية الشباب، 1988).

(2) فريدون قاندمير، الدفاع عن المدينة (آخر الأتراك تحت ظلال نبينا صلى الله عليه وسلم)، ترجمة: مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة (المدينة المنورة: د.ن، د.ت).

(3) منى آل ثابتة، “حصار المدينة المنورة وانعكاساته الداخلية وموقف الحامية العثمانية 1334-1337هـ/1916-1919م” (رسالة دكتوراه، كلية الآداب والتربية للبنات بأبها، جامعة الملك خالد، 2013).

(4) عبدالباسط بدر، التاريخ الشامل للمدينة المنورة (المدينة المنورة: د.ن، 1993).

(5) سعيد طوله، سفربرلك وجلاء أهل المدينة المنورة إبان الحرب العالمية الأولى 1334-1337هـ، ط2 (المدينة المنورة: النادي الأدبي الثقافي بالمدينة المنورة، د.ت).

(6) Naci Kiciman, Medine mudfaasi yahud hicoz bizden nasil (Istanbul: Sebil Yahyinevi, 1971).