لجأ لكتابتها دعمًا لدعايته وصلاحه المزعوم

مذكراته تعكس شخصيته المضطربة

تأثر عبدالحميد الثاني كثيرًا بما عاناه في الصغر وظهر جليًّا على شخصيته عند الكِبر، حيث إنه كتب عن نفسه في مذكراته عشقه للانعزالية، وأن والده ترك أثر القسوة على ملامحه صغيرًا، وكبرت معه في مراحل عمره، ويؤكد السلطان على أنه لا يثق في أحد أيًا كان حتى وإن أشعرهم بثقته لكنه في نهاية الأمر يستبد برأيه، ومع ذلك نجده يسلم بمصير دولته وشعبه لتحقيق مشاريع متعددة، وتغيير في ملامح الدولة كإصدار دستور كانت الدولة في غنى عنه؛ إذ كانت الأحداث تعصف بالعالم وليس بالدولة فحسب.

جاءت مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني في خمسة أقسام:

– السياسة الداخلية. 
– السياسة الخارجية.
– الشخصية الإسلامية.
– سياسة الإصلاحات.
– الشخصية.

يتناول القسم الأول من المذكرات عناوين مختلفة تنوعت بين الكتابة عن الشبان الأتراك والدستور (1892م)، حيث كتب عبارات غريبة مثل: “إن مبلغ الطيش الذي بلغه الأتراك الشباب في عهد أخي المريض، وإن الإمبراطورية العثمانية انحطت أخلاقيًّا وماليًّا” تلميحات عجيبة منه وتعليق أسباب التدهور المجتمعي والاقتصادي على شخص اعتبر الجميع بأنه مريض وغير مسؤول، وللعلم فإن مدة حكم مراد الخامس في مجملها ثلاثة أشهر. ويذكر أن عمه عبد العزيز خُلع عن العرش ثم انتحر في خبر يسوده الغموض -على حد وصفه- ويذكر عن أخيه بـ “ثم جُنَّ أخي مراد وسُجن”. 

ونجده يسهب في ذكر الأرمن وأنهم هم المسؤولين عن الفوضى في بلاده، ولابد من الإعلاء للعنصر التركي في الأناضول، وفي حديثه عن إعلان الدستور يقول: “يجب أن أفتتح مجلس المبعوثان وأعلن الدستور لكي أظهر أنني أقوم بأمر هام”. ويتضح ضعف الشخصية رغم الكتابات التي تغص بها المصادر وتكررها المراجع. وقد أطلقت عليه عدة ألقاب منها: خليفة رسول الله، وأمير المؤمنين، وقيصر الروم، وسيد الأوغوز المستبد، والسلطان الأحمر، وصاحب الشوكة.

وكتب رسالة لشيخ الطريقة الشاذلية: “أرفع عريضتي هذه إلى شيخ الطريقة العلية الشاذلية، إلى مفيض الروح والحياة، إلى شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات، وأقبّل يديه المباركتين راجيًا دعواته الصالحة. إنني بتوفيق الله تعالى مداوم على قراءة الأوراد الشاذلية ليلاً ونهارًا، وما زلت محتاجًا لدعواتكم القلبية” وقد تم تهريب هذه الرسالة لشيخه وهو في منفاه.

وتحت عنوان “خط حديد بغداد (1898م)” كتب ما يلي: “يجب علينا أن نعمل رغم أنف إنجلترا الذين يبذلون ما في وسعهم للحيلولة دون تنفيذ مشاريعنا، فبفضل خط حديد بغداد سيعود طريق أوروبا–الهند إلى سابق نشاطه، فإذا أوصلنا هذا الخط بسوريا وبيروت والإسكندرية وحيفا نكون قد أوجدنا طريقًا تجاريًّا جديدًا. ولن يقتصر هذا الطريق على در الفوائد الاقتصادية العظيمة لإمبراطوريتنا، بل ستتعداها إلى الناحية العسكرية فيدعم قوة جيشنا هناك”. وأين باقي العالم الذي سيطرت دولته عليه؟ وأين شعاره “يا مسلمي العالم اتحدوا؟” لكن الأمر خاص بالعثمانيين وقوميتهم التركية وجيشهم.

لقد كان الطموح مصيدة أحلام عبدالحميد الذي يراها في مخيلته، لأنه كتب عن نفسه أنه كثير التخيل، وذلك مدعاة في أن تعتلي الشخصية بصاحبها وتبعده عن أرض الواقع. 

ومن الأمثلة التاريخية والأحداث المهمة التي لابد أن نسلط الضوء عليها خياله الذي اتسع بإنشاء سكة حديد تربط أرجاء سلطنتهم بكل الشعوب من حولهم، وكان حال الواقع يقول إن الدولة لا تستطيع أن تقف أمام ميزانية عملاقة لتحقيق ذلك، ولكن الأحداث تسارعت بتقديم الإغراءات وتسهيل تلك المهمة بأن رؤوس الأموال لها منابع متعددة ومنها أموال العرب التي تم جمعها ضرائبَ وإتاوات بغير وجه حق، واستصراخ العالم الإسلامي بأن يتقدموا بالبذل من أجل إنشاء شبكة حديدية تحقق تيسير وسهولة القدوم لأداء مناسك الحج والعمرة.

استهدف الحرمين ودمر قناة السويس لمصلحة اقتصاد إسطنبول.

ونتساءل ما تلك الإغراءات التي قُدمت لخيال السلطان عبدالحميد وجعلته يسَطِّر في صفحات التاريخ بأنه المنجز لذلك المشروع العملاق في حينه؟ إن ذلك المشروع سيسهم في تقليل انتهاج الدول الأوروبية من سياسة التكتل ضد بلاده. ولقد اعتمد السلطان مباشرة العمل في المشروع رغم أنه لم تكتمل الاعتمادات المالية أو خبرات الفنيين أو حتى مصادر تمويل وغيرها الكثير من المغريات، لكن الخيال الواسع كان المتغلب. وقال: “سيتم مد هذا الخط وسنستغني عن قناة السويس، وستربط إسطنبول بالمدينتين المقدستين مكة والمدينة، وسنتمكن من تأمين المواصلات المدنية والعسكرية بكل أمان واطمئنان”. في تدمير واضح لاقتصاد المصريين ولمصلحة إسطنبول. 

ويتناول القسم الثاني السياسة الخارجية، حيث حمل عنوانًا مهمًّا جدًّا يفتح أبوابًا للتساؤلات وهو “الحملات الصليبية على الدولة العثمانية” حيث ذكر: “الحملات الصليبية لم تتوقف قط ولا يزال غلادستون العجوز يسير على خطى البابا في هذا السبيل -ويتساءل- وهل تستحق الدولة هذه الحملات وقد آوت النصارى الهاربين من جحيم الصراخ المذهبي في الغرب خلال القرون الوسطى. ألم تكن الدولة العثمانية هي الملجأ الوحيد لليهود الناجين من بطش محاكم التفتيش في إسبانيا”. ولم يأتِ على ذكر الحوادث الكارثية التي حلت بالمسلمين في نفس الجهات التي استقبلت دولته منها اليهود والنصارى.

وتتكرر في القسم الثاني عناوين فيها تناقض يتضح في قراءة كل موضوع تناوله عن الآخر، ولكنه كتب عن روسيا وعداوتها له على حد تعبيره معلومات مهمة ومنها: “وثمة أمر مشترك، وهو أن لنا عدة ملايين من المسلمين في روسيا ولهم أناس من الكنيسة الأرثوذكسية يعيشون في الأراضي المقدسة بفلسطين وتقوم روسيا برعايتهم، إن عدم الإمكان في توصلنا إلى طريقة للتعايش السلمي مع روسيا أمر جدير بالأسى والأسف”. ويذكرنا قوله هنا بأسلوب المقايضات التي اتبعها أسلافه عند استصراخ مسلمي الأندلس بهم لنجدتهم، ولكن لم يكن أسف ولا أسى على ذلك منهم.

اعترف بأن الدولة العثمانية الملجأ الوحيد لليهود الناجين من إسبانيا.

وفي القسم الثالث اختار أن يكون الحديث عن الشخصية الإسلامية، وقد تناول فيه عناوين متضاربة مثل: الإسلام دين الحضارة والتسامح -وقصد بذلك التسامح الزواج من غير المسلمات- وكأنه هنا يصدر فتوى لتحليل ذلك رغم أن الإسلام لم يحرمه، وهنا سلوك عجيب من شخصيته وفكره الديني حيث يقول: “النصيب كلمة طالما أضرت بالناس، وأوقعتهم في مصائب، ولا مكان في القرآن لفكرة النصيب، بل لقيت رواجًا في القرون الأخيرة على ألسنة الناس بسبب كسلهم وقلة فهمهم. وأصبحت إن شاء الله ملجأ لكل من يريد ستر ضعفه وخموله”. ثم يقحم موضوع التوكل وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين بالاتكال على الله. وهو أمر غريب في عدم معرفته بنصوص القرآن، ولا غرابة فالطريقة الشاذلية طغت على فكره (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة: 11]. وغيرها من الآيات المعززة بأحاديث المصطفى عليه السلام (أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 202]. (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء: 322].

كما أتى على ذكر التعصب رغم أنه وأسلافه من أشد المتعصبين لعرقهم وإعلائه، فهو يرفض أن تصفه أوروبا بالمتعصب.

وكتب عن الخلافة والشيعة فقال: “وإنه لمن دواعي الأسف ألا يقوم أي تعاون بيننا وبين إيران، وقد كان عليها أن تسعى إلى التقارب معنا كي لا تصبح ألعوبة بيد روسيا وإنجلترا”. وما أسباب ذلك العداء وهدر الحقب السابقة دون تقارب، لأن المرحلة كانت مرحلة حرب المصالح، وتضررت الدولة بسياسة سلاطينها وعجرفتهم. 

وخصص القسم الرابع عن التعليم عند العثمانيين والتطور الفني وآدابه. والسؤال يتكرر أين الحديث عن جهات الدولة الأخرى؟ ولكن الإهمال الشديد هو ما يثبته من خلال مذكراته تجاه الدول العربية خاصة والإسلامية عامة. وذكر الامتيازات بعنوان “حقوق الأمم” حيث ينتقد الصحافة ويتذمر منها، ويشكك في مصداقية أخبارها، وعلة ذلك أنها كانت تكشف ألاعيب دولته، ولقد لقيت الصحافة والصحفيون تعتيمًا وتكذيبًا شرسًا منه. وما أشبه الليلة بالبارحة “أردوغان والصحافة”.

أما القسم الخامس والأخير عن شخصيته، رغم أنه شرحها من خلال أسلوب كتابته للأقسام السابقة، فخصص عنوانًا عن “الشخصية” وأنه يعاني من الانتقاد لانزوائه، ويحقد على من ينتقده لأنهم يعلمون كيف نشأ والظروف السيئة من قسوة إخوته عليه، والأمر العجيب أنه يراقبهم أثناء اللعب والمرح ولا يشاركهم رغم أنه كتب عن معاملة أخيه مراد له ويصف أخاه بالمسكين، ويظهر الاضطراب في كل مرة يذكر فيها أخاه مراد ونهايته، ويلوم كل من لم يستطع فهمه. والشك يحاصره في أن مجرد اعتلائه العرش وجد نفسه محاطًا بأناس يريدون تقييده بشباك المؤامرات والدسائس. وذلك ديدن أسلاف البيت العثماني، وحريم السلطان -الحرملك-. ذلك الشك ينم عن إخفائه حقائق تخص مقتل عمه عبد العزيز، وجنون أخيه مراد. ثم يختم بالحديث عن أركان القصر وذكر رجال الدولة وتنوعهم وشكّه مرارًا وتكرارًا في الجميع.

وينتقل إلى الحديث عن الموسيقى، والقطع الموسيقية المهداة له وهي من أمم وقوميات مختلفة، وأنه لم يستطع أن يعطيهم الأعطيات كأسلافه، واكتفى بالأوسمة وكتب الثناء، وذلك تأكيد على الخزانة الفارغة. رغم أنه يتحدث في عنوان “عبد الحميد الشحيح” أنه جمع ثروة طائلة أخفاها خارج البلاد -يقصد ألمانيا-، لأن المصارف في إسطنبول غير مأمونة. ويوثق بقوله: “ولا داعي للاستغراب فكل حاكم يعمل ما عملته”. وآخر العناوين كانت عن الجاسوسية، والمطبوعات الفرنسية التي كلفته غاليًا فيقول: “فالصحفي اليوناني نيكولايدس الذي يعيش في باريس يقبض منا كل عام مبالغ طائلة كي يصدر جريدته “نوتر أورغان” لقد كان علينا أن نفهم في أوانه ضرورة عدم الاكتراث بالقيل والقال، وكان حريًّا بالأوسمة التي وزعناها وكأنها أدوات زينة أن توزع على بعض الصحفيين كي يقفوا إلى جانبنا، فإنهم إذا حازوا على هذه الأوسمة كانوا صوتنا المسموع في كل مكان. ولكن فات الأوان وأصبحت آلاف الصحف في الصف المعادي”. وهنا يتحسر على سلوكيات دولته وفترة حكمه في أنه دعم الصحف الخارجية حتى تكون معه ولكنها انقلبت ضده رغم التمويل السخي، وذلك سبب من أسباب خلو الخزينة في الدولة وإفلاسها.

تلك بعض من تصرفات السلطان عبدالحميد الثاني وسلوكياته وتبقى مذكراته تحوي الكثير من التحليلات والوصول من بين السطور إلى حقائق كان يعتقد بأنها غامضة.

1) مذكرات السلطان عبد الحميد: مذكراتي السياسية، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1979م).