الزندقة والشعوبية

جعلت من العرب العدو الأول لها على مرِّ التاريخ

إن الخيط الرابط بين جميع التنظيمات السرية التي جعلت من أرض الإسلام مجالاً للنشاط والانتشار هو استهدافها لبنية الدولة الإسلامية، ومحاولة تفجيرها من الداخل، والتأصيل لمفاهيم العدو القريب والعدو البعيد، انطلقت مع هذه التنظيمات الباطنية، التي جعلت من الحكام المسلمين ذلك “العدو القريب” المُقدِم في القتال، فيما رأت في باقي الحكام غير المسلمين، ذلك العدو البعيد الذي لا تجب مُقاتلته ومنازعته إلا بعد إبادة جميع حكام المسلمين.

ويمكن القول بأن المفاهيم حول الزندقة اختلفت من مؤرِّخ إلى آخر، ولعل أقرب تعريف للحركة ما طرحه إدوارد براون حين اعتبر أن “كلمة زنديق صفة فارسية معناها مُتَّبِع الزند، أي الشروح القديمة للأفستا، وهو كتاب زرادشت – المفضل على النص المقدس. وقد سُمِّي المانوية زنادقة؛ لميلهم إلى تأويل الكتب المقدسة للديانات الأخرى، وشرحها حسب آرائهم وأهوائهم”.

في السياق ذاته يربط ابن النديم “بين المنانية أتباع ماني وبين الزنادقة، ويذكر أسماء رؤساء المنانية المتكلمين الذين يُظهِرون الإسلام ويُبطِنون الزندقة، ثم تطوَّر لفظ الزندقة، وأصبح يطلق على جميع الهرطقات والنِّحَل الفارسية، لا فرق بين الخرمية والمزدكية والمانوية والمجوسية، ثم تطوَّر مرة ثانية حتى صار يشمل الملحدين أو المتشكِّكين في الدين”.

وإذا كانت الزندقة قد فشلت في إيجاد موطئ لها في عصر الدولة الأموي، فإن العصر العباسي شكَّل فضاءً خصبًا لانتشار مثل تلك الأفكار الهدامة، وذلك بالنظر إلى اجتماع مجموعة من الشروط الذاتية والموضوعية التي ساهمت في هذا الانتشار والاختراق، خاصة في العراق، حيث وُجِدت بيئة سكانية هجينة سهلة الاختراق والتوجيه، بالإضافة إلى تطور العلوم والفلسفة، وهو ما واكبَته نقاشات وجدالات كانت مدخلاً للزنادقة لنشر أفكارهم الشاذة، على استحياء أولاً، ثم على استقواء ثانيًا.

وجد الشعوبيون والزنادقة فضاءً واسعًا للتجرُّؤ على إعلان فسادهم في عصر الدولة العباسية.

وهنا نسجِّل بأن بعض الأقليات قد استهوتها الزندقة للتعبير عن رفضها لنمط سياسي وفكري سائد، بالإضافة إلى بعض من دفعتهم حياة الترف والبذخ إلى الاستجابة، لهذا النوع من الزندقة، ورَوَّجَت له واصطنعت “الزندقة وسيلة للتظرف، وحُسن المنادمة، وسِمة على الرُّقيِّ الثقافي والاجتماعي”.

ويمكن تقسيم الزنادقة إلى ثلاث فِرَق أساسية؛ الطائفة الأولى “يسميهم صاحب (الفهرست) رؤساء المنانية في الإسلام، والثانية طائفة المتكلمين، والثالثة طائفة الأدباء من كتاب وشعراء”.

لقد شكَّلَت الزندقة تهديدًا حقيقيًّا لنمط التديُّن الذي طبع الشخصية الرئيسة للمسلمين، وأصبح يهدِّد تماسُك المجتمع الإسلامي من خلال استباحة وإباحة الرذائل والموبقات والمحرَّمات، على اعتبار أن سقوط الأخلاق هو مقدمة لسقوط الدين نفسه، وبالتالي سقوط الخلافة الإسلامية العربية كحاضِنة شرعية للمشروع الإسلامي العروبي، هذا التكتيك يتقاطع مع جميع التنظيمات الباطنية التي ترى ضرورة نسف الأعمدة كمقدمة لانهيار السقف.

على هذا المستوى من التحليل، يمكن فَهم خلفيات تنظيم الزندقة الباطنية، وحلمها بهدم أركان الدولة العباسية من خلال نشر مقومات تفسخ المجتمع، “وعلى هذا الأساس يكون الدافع الرئيس لظهور حركة الزندقة، كراهية الفرس بوجهٍ خاص للسلطان العربي وللإسلام”.

لقد جعلت الزندقة أو الشعوبية من العرب العدو الأول لها، وبما أن العرب هم الحاضنة الشرعية للدين الإسلامي، فقد تحوَّل عداء الزندقة من العروبة إلى الإسلام، فكرِهوا الإسلام وكرِهُوا حامله، هذا التفكير القاصر والتدليل العاثر يُعبِّر عنه الجاحظ بقوله: “فإنما عامة من ارتاب بالإسلام، إنما جاءه هذا عن طريق الشعوبية، فإذا أبغضَ شيئًا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ عن الإسلام إذا كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السلف”.

إن فهم التاريخ كـأحد الأهداف المهمة يقتضي منا فهم التدافعات التاريخية والمتدخِّلين فيها من أجل استشراف المستقبل، وتحديد الأدوات والوسائل، بالمفهوم الإستراتيجي، التي يمكن من خلالها مواجهة تكتيكات الاختراق والانتشار التي تتبنَّاها التنظيمات الباطنية الحديثة.

ويمكن الجزم بأن هذه التنظيمات التي تنسب نفسها إلى الإسلام، سواء بشِقِّها السُّني أو الشيعي، هي نسخة جينية معدَّلة للتنظيمات الباطنية القديمة.

في هذا الصدد تجتهد التنظيمات الباطنية “القديمة” و”الحديثة” في محاولات الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسَّساتي، مع العمل على خلخلة المشترك العَقَدي لجماهير المسلمين والتشكيك في شرعية السلطة السياسية القائمة، بالموازاة مع محاولة نسج تحالفات مرحلية تنتهي بالاصطدام “الحتمي” مع منظومة الدولة على مستوى حسم السلطة السياسية، وهو ما يفرض تَبنِّي إستراتيجية متكاملة ومتناغمة، الغرض منها تحصين المجتمع من جهة، وأيضًا القضاء على البيئة الحاضنة والمنتجة للفكر الباطني الانقلابي.

  1. حسين عطوان، الزندقة والشعوبية في العصر العباسي الأول (بيروت: دار الجيل بيروت، 1984).
  2. السيد عبد العزيز سالم، العصر العباسي الأول (الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 1993م).
  3. عبد الرحمن بدوي، تاريخ الإلحاد في الإسلام (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980).
  4. محمد الخضري، محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية.. الدولة العباسية (بيروت: دار القلم، 1986).
  5. محمد عنان، تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة في المشرق (القاهرة: مؤسسة المختار، 1991).