البكتاشية الهرطقة في المشرق الإسلامي
يكاد جُلُّ المؤرخين أن يُجمِعوا على حقيقة مهمة حول الدور المثير للجدل، وشديد الحساسية الذي لعبته الطريقة البكتاشية، ليس فقط في التاريخ العثماني، بل في تاريخ المشرق الإسلامي منذ نهايات العصور الوسطى وحتى القرن التاسع عشر.
وتُنسب الطريقة البكتاشية إلى حاج بكتاش، وهو أحد أهم أفراد المجموعة التي عُرفت بأولياء خراسان، وهم مجموعة المتصوفة الذين لعبوا دورًا في حركة التصوف، وتغيير معالم المجتمعات الإسلامية في تلك الفترة، ويعتبر تاريخ وفكر الحاج بكتاش وأتباعه من بعده من أهم الأمثلة على التأثير الشيعي الفارسي- التركي وانعكاساته على تاريخ العالم الإسلامي.
وُلِد حاج بكتاش في مدينة نيسابور في خراسان، وهناك اختلافات كثيرة حول تاريخ ميلاده، إلا أنه من المرجَّح أنه وُلِد في منتصف القرن الثالث عشر تقريبًا، وينتمي حاج بكتاش إلى المذهب الشيعي الاثنى عشري، ورحل حاج بكتاش بعد ذلك إلى منطقة الأناضول، ضمن حركة المتصوفة الذين شاركوا في الجهاد في الأناضول، وتأسيس الإمارات المسلمة هناك.
ويرى بعض المؤرخين الأتراك أن حاج بكتاش هو مجرد وَلِيّ من الأولياء، وليس بواضع طريقة، وأن ما يُعرف بالطريقة الصوفية البكتاشية قد وضعها أتباعه بعد وفاته بفترة طويلة. ويُرجِع البعض نشأة الطريقة البكتاشية إلى أواخر القرن الخامس عشر، لكن بروزها على الأراضي العثمانية كان في مطلع القرن السادس عشر.
وتُظهِر الأبحاث الحديثة في تاريخ التصوف مدى ارتباط نشأة الطريقة البكتاشية بالتيار القلندري والطريقة الحيدرية، ويعتبر التيار القلندري أحد التطورات المهمة في الحركة الصوفية في فارس والأناضول في القرن الحادي عشر، ويقوم هذا التيار الصوفي على فكر مهرطق وَصَفه البعض بأنه عبارة عن مزيج من الثقافات البوذية والمانوية القديمة مع قشرة إسلامية شيعية، ومن القلندرية خرجت الطريقة الحيدرية، وهي من الناحية الفكرية خليط من المعتقدات التركية القديمة، ومن بقايا الشامانية والبوذية والزرادشتية والمانوية تُغلِّفها قشرة إسلامية، ومن الحيدرية خرجت الطريقة البكتاشية، وورثت عنها هذا الخليط الروحي التلفيقي.
ولا أدَلَّ على انحراف أفكار الطريقة البكتاشية عن تعاليم الإسلام الحنيف من وصف أحد المؤرخين الأتراك المعاصرين لمنتسِبي هذه الطريقة: “إن الدراويش البكتاشيين في زماننا بعيدون عن الصلاة وعن الصوم، لا يُعرَف لهم مذهب معين، يتجوَّلون على غير هدى، انتسابهم للحاج بكتاش ولي يبقى في نطاق الكلام فقط، ولا علاقة لهم به من ناحية الفعل والعمل والعقيدة، كما لم يستطع أولاده، الذين أطلق عليهم عزيزلر أن يكونوا مثله”.
وواضح هنا أن هناك من المؤرخين من يحاول تبرئة حاج بكتاش ولي من أفكار أتباعه، رغم تأثُّر حاج بكتاش ولي بأفكار التصوف الخراساني الشيعي.
على أية حال انتشرت التكايا البكتاشية في أنحاء الأناضول وتركيا بشكلٍ عام، واستمرت حتى عام 1826م عندما قام السلطان محمود الثاني بإلغاء التكايا البكتاشية. وانتقلت عدوى البكتاشية إلى العالم العربي؛ إذ أُنشِئَت بعض التكايا البكتاشية في العراق ومصر، وحالَ وجود الأزهر الشريف دون سرعة انتشار البكتاشية في مصر.
ومن الأمور المثيرة في التاريخ العثماني مدى ارتباط الإنكشارية بالطريقة البكتاشية، حتى إن البعض وصف هذا الأمر بأنه اختراق البكتاشية للإنكشارية، وتُعد الإنكشارية أهم فِرَق الجيش العثماني، بل وعماد الجيش في فتوحاته، وأيضًا في الحكم والإدارة في الولايات العثمانية، وهم في الأصل من أولاد مسيحيِّي البلقان الذين استولت عليهم الإدارة العثمانية، وحوَّلَتهم إلى الإسلام، مع تدريبهم التدريب العسكري الصارم.
واستطاعت البكتاشية اختراق الإنكشارية، وفرض تعاليمها على الإنكشارية، بل أصبح زيّ الإنكشارية هو زيّ حاج بكتاش نفسه، ووصل الأمر إلى إطلاق اسم “الطائفة البكتاشية” على الإنكشارية أنفسهم، ولقب “الرؤساء البكتاشيون” على أغوات الإنكشارية، وتتحدَّث بعض المصادر العثمانية عن انحرافات أخلاقية في هذا الشأن وطقوس بكتاشية، وإهداء الخمر والعرق، بل ويُرجِع البعض ضعف وتفسُّخ الإنكشارية، بحيث أصبحت تمثل عبئًا على الدولة العثمانية، إلى تأثير البكتاشية عليها، مما اضطر الدولة العثمانية في نهاية الأمر إلى تصفية الإنكشارية، وبناء جيش حديث منضبط.
هذا هو تأثير الطريقة البكتاشية التي نشأت من مزيج من الهرطقات والانحرافات الدينية والفكرية في خراسان في فارس، ثم انتشرت في آسيا الصغرى، وللأسف انتقلت العدوى إلى بعض البلدان العربية مثل العراق ومصر.